بروفايل| «السادات»..غضبة التراجع
صورة تعبيرية
ينفث دخان غليونه الشهير، ويدقق النظر فيه لثوانٍ، ويأخذ نفساً عميقاً، ليحسم معه قراره من الأحداث المشتعلة بالشوارع، وملخصه: التراجع عن رفع الدعم وإعادته كما كان، خوفاً من مغبة القرارات التى كادت أن تحرق البلاد، بعدما خرج الشعب غاضباً ضده، رغم إيمانه بأن من ملأوا الشوارع ما هم إلا حرامية، قاد انتفاضتهم مجموعة من البلطجية، وليسوا أصحاب ثورة شعبية خرجوا ليعبروا عن جموع الشعب المصرى المحتقن من ارتفاع الأسعار.
أخذ الرئيس محمد أنور السادات، الذى حلَّ على كرسى الرئاسة فى 1970، على عاتقه إعادة هيكل الاقتصاد المصرى، بضغط من صندوق النقد الدولى، الذى بعث ممثله فى القاهرة «بول ديكى»، بمذكرة إلى الدكتور زكى نافع، وزير الاقتصاد حينها، يوم 16 أكتوبر 1976، يقترح عليه اتباع «روشتة استرشادية»، تهدف لتخفيض سعر الجنيه وتوحيد سعر الصرف، ورفع الدعم عن بعض السلع الضرورية.
الرئيس الذى نشأ فى بيت فقير، وكان دائم الزهو بأصول قريته الفقيرة، ميت أبوالكوم فى المنوفية، دفع فى 17 يناير عام 1977 بنائب رئيس وزرائه، الدكتور عبدالمنعم القيسونى، ليقف أمام مجلس الشعب يقدم مشروع الميزانية، ومعها إجراءات تقشفية لتخفيض العجز، ومنها تخفيض الدعم للحاجات الأساسية بصورة ترفع سعر الخبز بنسبة 50% والسكر 25% والشاى 35%، وكذلك بعض السلع الأخرى، منها الأرز وزيت الطهى والبنزين والسجائر، وربط هذا بضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولى والبنك الدولى لتدبير الموارد المالية الإضافية اللازمة.
لم يمر على قرارات «السادات» الصعبة سوى ساعات، حتى بدأت المحال بالفعل برفع أسعار السلع، وهو ما أثار حفيظة الشعب المصرى بكل قطاعاته، فخرجت مظاهرات حاشدة من حلوان والإسكندرية، يقودها عمال المصانع والطلاب، فى اليوم التالى، واستمرت على مدار يومى 18 و19 يناير، تهتف ضد الحكومة و«السادات»، لم يجد الرئيس أمامه إلا الدفع بقوات الشرطة لتواجه تدفق الجماهير للشوارع، لتحدث صدامات بين الشرطة والشعب الثائر، وسط هتافات:ياساكنين القصور.. الفقرا عايشين فى قبوريا حاكمنا فى عابدين.. فين الحق وفين الدين سيد مرعى يا سيد بيه.. كيلو اللحمة بقى بجنيه عبدالناصر ياما قال.. خلوا بالكم م العمال هو بيلبس آخر موضة.. واحنا بنسكن عشرة ف أوضة بالطول بالعرض.. هنجيب ممدوح الأرض وقف «السادات»، الذى كان دائماً ما يصدّر نفسه للعامة بصفته الأب وكبير العائلة المصرية، يتابع المظاهرات التى تحولت رويداً وريداً من السلمية للعنف، فسيطر المتظاهرون على مخازن السلاح فى الأقاليم، وأحرقوا أثاث منزل المحافظين، وخرج عمال المصانع، وتوقفت المواصلات بين حلوان والقاهرة، وهو ما دفع الرئيس لإصدار الأوامر بنزول الجيش.
تراجع الرئيس عن قراراته، وفى الساعة الثانية والنصف من اليوم الثانى أذاعت الحكومة قرارها بإلغاء رفع الأسعار، لتهدأ تلك المظاهرات العارمة، ولكن ذلك التراجع كان أمام قناعة لدى «السادات» حينذاك، أنه لا يرى فيهم إلا «فئة قليلة»، لا يحركها إلا الحقد، حسبما أورد فى خطابه الذى تلا الأحداث، تلك كانت نظرته للأمر برمته، لم يعترف بهم ثواراً ولم يجد فيما حدث ثورة بالمعنى الصحيح، ورغم الرضوخ لتلك الحركة ولكن ظل يمقتها، وينعتها بـ«انتفاضة الحرامية».
مع التراجع، تحولت رؤية «السادات» للمتظاهرين لمنهج للدولة، وأصدر أوامره بضرورة معاقبة المتسببين فى الأحداث، وأخذ رجال الشرطة فى جمع كل من طالته أيديهم من المتظاهرين، ليزجوا بهم خلف القضبان، بتهمة إثارة الشعب والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، ليقدموا للمحاكمة 176 متظاهراً بتهمة إنشاء منظمة تهدف لقلب نظام الحكم، باستعمال القوة والإرهاب.
وفى القاعة ذاتها التى حاكم فيها النظام الملكى «السادات» بتهمة قتل أمين عثمان، وزير المالية المصرى إبان «العهد البائد»، وقف المقبوض عليهم من المتظاهرين خلال 18 و19 يناير، لينتظروا حكم القاضى «منير صليب» التاريخى الذى فاجأ الدولة بحكم تاريخى برأ الجميع وأعطى للمظاهرات حقها واعترف بأنها خرجت بعد غضب شعبى عارم نتيجة قرارات زادت من الأعباء على كاهل المواطنين.