نجل نائب رئيس الوزراء الأسبق يروى لـ«الوطن» ذكرياته عن أحداث 18 و19 يناير
الدكتور عبدالمنعم القيسونى، نائب رئيس الوزراء الأسبق
لم يكن ما حدث فى مصر خلال يومى 18 و19 يناير من عام 1977، أمراً عابراً فى تاريخ الشعب المصرى، فبعدما أعلنت الحكومة المصرية عدداً من القرارات الاقتصادية على لسان الدكتور عبدالمنعم القيسونى، نائب رئيس الوزراء الأسبق، أمام مجلس الشعب، تسببت هذه القرارات فى خروج المواطنين بمظاهرات كبيرة اعتراضاً عليها، مما ترتب على هذه المظاهرات فرض حظر التجول فى مصر لأول مرة بعد قيام ثورة 1952، ونزول القوات المسلحة إلى الشوارع.. «الوطن» التقت بالدكتور محمود عبدالمنعم القيسونى، خبير السياحة البيئية العالمى، والنجل الأكبر للدكتور عبدالمنعم القيسونى، الذى فتح خزائن أسرار والده عن أحداث السبعينات، وأكد «القيسونى» الابن، خلال الحوار أن مصر لن تتعرض لمجاعة أو إفلاس اقتصادى على الإطلاق، لأنها مرت قبل ذلك بظروف اقتصادية أصعب من التى تمر بها حالياً وما زالت مستمرة وقوية، معتبراً أن الرئيس عبدالفتاح السيسى أجرأ رئيس عرفته مصر، والحكومة الحالية هى أجرأ حكومة مصرية، لأنها قررت وقف نزيف الاقتصاد المصرى ومصارحة الشعب بالحالة الاقتصادية السيئة ووضعت حلولاً سريعة وقاطعة لمعالجة الاقتصاد، وكان هذا تحدياً كبيراً لها تسبب فى انخفاض شعبيتها وأيضاً شعبية الرئيس، ولكن المصارحة أفضل حل لما نحن فيه الآن.. وإلى نص الحوار..
«القيسونى» الإبن: الإعلام شريك فى إشعال «الانتفاضة» بتعمده إخفاء الحقائق عن الشعب
■ فى البداية أين كنت وقت وقوع أحداث 18 و19 يناير؟
- كنت ضابطاً فى القوات المسلحة، ومسئولاً عن ترتيب زيارة وزير الدفاع الفرنسى لمصر، لأن الرئيس الفرنسى وقتها أمر وزيره بالتوقيع على صفقة طائرات «الميراج» مع مصر، وكنا حريصين على إتمام هذه الصفقة، وبالفعل تمت، وبعدها وصلت للبيت وأنا مرهق ومريض للغاية، وكنت على اتصال دائم مع والدى لأننى كنت أسكن فى الجيزة مع أسرتى، ووالدى كان يسكن فى مصر الجديدة، وسمعت أن هناك مظاهرات فى البلد بسبب قرارات اقتصادية، وحتى مساء 18 يناير 1977 لم أكن أعلم شيئاً عنها، وفى حوالى الساعة 7 مساء جاء لزيارتى 4 ضباط من زملائى، وفوجئت أن أحدهم مصاب فى رأسه والدم يملأ وجهه وملابسه، فالمتظاهرون قاموا بإلقاء الحجارة عليهم، فتهشم زجاج السيارة الأجرة التى كانوا يستقلونها واستطاعوا الهروب بأعجوبة من المتظاهرين، وفى هذه اللحظة شعرت بأن هناك خطراً جسيماً على البلد، وبعدها اتصل بى أحد الأصدقاء وأخبرنى بأن والدى يجرى حواراً تليفزيونياً للحديث عن القرارات الاقتصادية.
■ هل شاهدت الحوار الذى بثه التليفزيون لوالدك؟
- طبعاً، ووجدت والدى يتحدث بضيق شديد، ولاحظت من تجاعيد وجهه أنه غاضب، وكان الحوار مع والدى والمجموعة الاقتصادية التى يترأسها، منهم الدكتور حامد السايح والدكتور عبدالرزاق عبدالمجيد وصلاح حامد، وفى المقابل كان موجوداً مجموعة من رجال الاقتصاد، لكن كان اتجاههم يسارياً، وللأسف مقدم البرنامج كان يريد إشعال الموقف ووضع البنزين على النار، لدرجة أن والدى قال له: «اأنت جايبنا هنا علشان أوضح للناس القرارات الاقتصادية اللى أنا المسئول عنها، وبتخلى السادة الحاضرين يردوا وإحنا ما بنردش لأنك ما بتعطيناش الفرصة للرد»، وخلال عرض الحوار قررت النزول من البيت والذهاب إلى التليفزيون لمقابلة والدى والاطمئنان عليه، لأنه بالفعل كان ظاهراً عليه الغضب الشديد، فقال لى أصدقائى الضباط «سوف نذهب معك»، ووصلنا التليفزيون وكانت هناك حراسة مشددة، واستطعت الدخول لأنى كنت أرتدى ملابسى العسكرية، وأخبرت الأمن أن والدى هو الدكتور عبدالمنعم القيسونى وجئت لتوصيله إلى البيت، لكن الأمن أخبرنى أن والدى ليس موجوداً، وأن البرنامج تم تسجيله نهاراً ويتم بثه الآن، وطلبت منهم أن أتحدث فى التليفون، واتصلت بوالدى فوجدته فى المنزل.
المصالح جعلت مجلس الشعب يتراجع عن القرارات الاقتصادية رغم موافقته عليها.. و«الشعراوى» أنّب النواب على تخاذلهم.. وأبى وأمى تلقيا تهديدات بالاغتيال عقب نشر الإصلاحات بالصحف.. ومذيع التليفزيون كان «بيحط البنزين على النار»
■ صف لنا الوضع الأمنى أمام التليفزيون فى هذا التوقيت.
- كانت الحراسة مشددة للغاية على التليفزيون، وكان هناك 3 خطوط أمنية تحاصر المبنى، وحالة من الرعب تنتاب جميع العاملين فى التليفزيون بمن فيهم المذيعون، لدرجة أننا عندما قررنا الخروج من التليفزيون، وجدنا المذيعين والمذيعات تجمعوا وطلبوا منا توصيلهم، لأن البلد فى هذا الوقت كانت مشتعلة ولم تكن القوات المسلحة قد نزلت إلى الشارع بعد، وبالفعل ركب عدد منهم معنا والعدد الآخر ركب سياراتهم الخاصة وسرنا معاً إلى ميدان الجيزة.
■ هل تم بالفعل تهديد والدك بالاغتيال؟
- مع أول أيام القرارات الاقتصادية صدر قرار بسفرى للخارج للعلاج بسبب المجهود الذى بذلته خلال زيارة وزير الدفاع الفرنسى كما أخبرت سابقاً، فقررت الذهاب إلى والدى لزيارته قبل السفر، وكان هناك وجود أمنى مكثف حول منزله، وإذا أراد رئيس الوزراء مقابلة والدى فى أمر عاجل كان يستدعيه فى رفقة حراسة كبيرة منذ خروجه من البيت حتى مجلس الوزراء، وعند دخولى البيت كانت والدتى فى استقبالى ووجدتها متجهمة جداً، وأخبرتنى أن هناك شخصاً اتصل على هاتف المنزل، وقال لها إنه سيأتى لذبحها هى وأبى، وبعدها تلقى والدى مكالمة مجهولة أخرى من شخص يهدده بالقتل، وأدخلنى والدى غرفة المكتب الخاصة به وفتح جميع الصحف التى نشرت أخبار القرارات، وسألنى ما هو الانطباع الذى أخذته بمجرد النظر للصحف، فقلت له إن انطباعى هو أن الصحف اتخذت نفس النهج عندما توفى جمال عبدالناصر، والطريقة التى نشرت بها الأخبار طريقة تثير الشعب وتؤدى إلى انقلابه على الحكومة، فقال لى للأسف الشديد إن الإعلام غير محايد لدرجة أن الرئيس أنور السادات أصدر قراراً بإعادة تصوير البرنامج الذى ظهر فيه والدى على التليفزيون مرة أخرى على أن يتم تغيير المذيع، واختار السادات بنفسه مقدم البرنامج وهو الأستاذ سعيد سنبل، وبالفعل ذهب والدى ومعه المجموعة الاقتصادية للتليفزيون لحضور البرنامج.
■ وهل انتهت الانتفاضة بعد ظهور المجموعة الاقتصادية فى برنامج تليفزيونى؟
- إذاعة هذا البرنامج وقتها أطفأت كثيراً من النار، وأظهرت للناس حقيقة القرارات الاقتصادية، ولكن للأسف الاتجاهات المعارضة استطاعت أن تنجح فى مواقع معينة مثل مواقع العمال، بإثارة المظاهرات من جديد.
■ وما كان دور مجلس الشعب من هذه القرارات والأحداث؟
- أخبرنى والدى أن مجلس الشعب للأسف لم يكن على مستوى المسئولية الوطنية، لأن المصالح الشخصية كانت هى الحاكمة فى هذا التوقيت، ووالدى بعدما توصل للقرارات الاقتصادية وعرضها على مجلس الوزراء وأخبرهم أن هذه القرارات هى الأمل الوحيد للخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تعيشها البلاد، طالبوه بعرض القرارات على مجلس الشعب، فذهب إلى المجلس يوم 17 يناير 1977، وأخبرهم أن الاقتصاد المصرى منهك، ونحن الدولة الوحيدة فى العالم التى تقدم الدعم لجميع السلع تقريباً، رغم أن الاقتصاد ضعيف جداً، فوافق مجلس الشعب على القرارات، باستثناء النائب «أبووافية»، ولكن بعد وقوع الأحداث تراجع مجلس النواب عن موافقته المسبقة على هذه القرارات فى اليوم الثانى للمظاهرات.
■ هل واجه «القيسونى» مجلس الشعب بكارثة تراجعهم عن الموافقة على القرارات الاقتصادية؟
- بالطبع، عاد والدى مرة أخرى لمجلس الشعب، وقال لهم إنه أعلن القرارات الاقتصادية أمام الشعب بعد موافقة أعضاء المجلس، وسألهم «لماذا تراجعتم عنها»؟ ولم يجد من يجيبه، فقال لهم: «اتفقت معكم على أن تكون هذه القرارات سرية ولكنكم لم تلتزموا بالسرية، وإذا كنتم تحتاجون كبش فداء فسوف أقدم استقالتى»، وبالفعل كتب استقالته وخرج من مجلس الشعب، وكان حاضراً فى هذه الجلسة فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى، وتعجب وقتها وقال: جئتم بالطبيب ليداوى الاقتصاد المصرى، وهذا طبيب متخصص والدواء مر ولم تعطوه فرصة لتطبيق الدواء، وغضب الشيخ الشعراوى وخرج من المجلس وراء والدى، ثم اتصل نائب رئيس الجمهورية فى هذا الوقت حسنى مبارك بالسادات، وأخبره أن الدكتور القيسونى تقدم باستقالته، فرفض السادات الاستقالة بشكل قاطع، وبعدها تفاجأ والدى بأن الحكومة لا تتعاون مطلقاً مع مجموعته الاقتصادية.
■ ولماذا تقدم الدكتور القيسونى بالاستقالة مرة أخرى بعدما رفض الرئيس السادات استقالته الأولى؟
- بسبب عدم تعاون الحكومة مع مجموعته الاقتصادية، وقيام رئيس الوزراء وقتها ممدوح سالم بتعيين مستشار اقتصادى له، على الرغم من أن والدى نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية والتجارية، بالإضافة إلى أن أحد النواب اعترض فى مجلس الشعب على وجود الفيسونى فى الحكومة بمنصب نائب رئيس وزراء، وهو يعمل فى الوقت نفسه رئيساً لمجلس إدارة بنك، فقرر والدى أن يستقيل على الفور حتى لا يتسبب فى إحراج الرئيس السادات، لأن تعيينه كان بقرار منه.
سياسى بريطانى قال لوالدى «الله يحفظ مصر لمرورها بحروب كثيرة وظروف صعبة.. لكنها ما زالت قوية ومستمرة»
■ أخبرنا عن وفاة والدك؟
- بعد 12 عاماً من عيش أسرتى فى العاصمة البريطانية لندن، جاء إعصار شديد ضرب المدينة، وأدى إلى انقطاع الكهرباء بالكامل عنها، فأصبح المنزل مثل الثلاجة، وتأثرت صحة والدى سلباً ببرودة الطقس حتى وافته المنية، وسافرت إلى لندن وقتها ولم أكن أعلم بالوفاة، فأخبرتنى أختى وكان الأمر صعباً جداً بالنسبة لى، ورأيت بعينى الأشجار التى اقتلعها الإعصار والمنازل المحطمة، ووالدتى أخبرتنى بأن كل شىء كان يعمل بالكهرباء مثل الدفاية والفرن، وعندما انقطعت الكهرباء لم تستطع أمى تحضير كوب شاى ساخن لوالدى، فتسبب ذلك فى إصابته بمياه على الرئة وتوفى على أثرها، وعدت إلى مصر لدفنه بها بناء على وصيته، وأقامت له الحكومة المصرية جنازة عسكرية.
■ وكيف كانت الجنازة؟
- فى الحقيقة بعد عودتى من لندن، زارنى عدد من ضباط الجيش لمعرفة الأوسمة والقلادات التى حصل عليها والدى لتكون فى مقدمة الجنازة، فبدأت فى إخراج الأوسمة ووجدت أن والدى حصل على 34 وساماً وقلادة من معظم دول العالم، واعتمدت الحكومة المصرية 27 وساماً من الأوسمة التى حصل عليها والدى، واختاروا عدداً من الأوسمة المصرية، وعدداً آخر من الأوسمة الأجنبية لتكون فى مقدمة الجنازة.
«مبارك» لم يفكر فى إصلاح سياسة «الانفتاح» الكارثية واكتفى بوضع الحلول فى «الدرج»
■ الرئيس عبدالناصر من أكثر الزعماء الذين دعموا الفقراء، فلماذ لم يعترض الوالد على سياسة الدعم رغم أنه كان وزير مالية فى عهده؟
- فى عام 1942 كان التعداد السكانى 18 مليون مصرى، وفى الخمسينات وبداية الستينات كان الاقتصاد المصرى قوياً جداً حتى وقوع النكسة، والحروب التى دخلتها مصر مثل حرب اليمن، ثم انفصال مصر عن سوريا أنهك الاقتصاد المصرى بشكل كبير، وتسبب ذلك فى حدوث كوارث اقتصادية، وبالطبع لم يستطع عبدالناصر التراجع عن الدعم وقتها، وتحمل المسئولية من بعده الرئيس السادات.
■ ما رأيك فى القرارات الاقتصادية الأخيرة التى اتخذتها الحكومة؟
- الحكومة الحالية حكومة شجاعة، لأنها قررت وقف سباق التتابع، وسباق التتابع هو أن تترك كل حكومة لمن يخلفها المصيبة دون حل، أما الحكومة الحالية فقررت الوقوف حتى لو تسبب ذلك فى حدوث حالة من التقشف، وأرى أن الرئيس السيسى ورئيس الوزراء والوزراء الحاليين سيدخلون التاريخ لأنهم قرروا وقف السباق، وتحمل المسئولية، وقرروا مواجهة الشعب ومصارحته بالحقيقة، حتى ولو أدى ذلك إلى ضياع شعبيتهم، وأعتقد أن الحكومة ستنجح بالخروج بالاقتصاد المصرى إلى النور.
■ هل أنت متأكد من تعافى الاقتصاد المصرى؟
- أول شروط لتعافى الاقتصاد المصرى، هو مصارحة الشعب بالحقيقة وهذا ما قام به الرئيس السيسى والحكومة الحالية، لذلك سيتعافى الاقتصاد المصرى، وفى إحدى المرات حكى لى والدى عن زيارة أكبر مسئول بريطانى إلى منزلنا، الذى أخبره بأن مصر يحفظها الله لأنها مرت بحروب 48 و56 و67، ثم الاستنزاف وأكتوبر، ومع ذلك لم يمت بها مواطن من الجوع، بينما إنجلترا مات فيها الكثيرون جوعاً جراء حرب واحدة، وما مررتم به كان كفيلاً بأن يهد الاقتصاد الأمريكى نفسه.