محمود الكردوسى يكتب: حب من طرف «فيس بوك»
الكردوسى
صُدمت -حضارياً- مرتين.
الأولى عند انتقالى من قرية فى مجاهل الصعيد إلى جامعة القاهرة، طالباً فى كلية إعلامها، والثانية عند انتقالى -شغفاً وفضولاً- من العالم الواقعى «البيت والشارع والمقهى ومقر العمل» إلى العالم الافتراضى.. عالم الـ«فيس بوك».
الصدمة الأولى تجاوزتها بتقدير «جيد مرتفع»، حيث ما زالت بقية من رواسب الصعيد كامنة فى رأسى وصدرى، والصدمة الثانية لم أتجاوزها حتى الآن، وقد لا أتجاوزها على الإطلاق، حفاظاً على بعض مكاسبها.
ما الذى كسبته من «فيس بوك» أمام خسائره الفادحة، التى لا تعد ولا تحصى؟. كسبت التعرف على نفوس بشرية تحررت من عقدها ونقائصها وضوابطها الاجتماعية والأخلاقية.. وقررت، أو قرر أصحابها أن «يتواصلوا» مع فطرتهم بعيداً عن الآخرين، و«بعيداً» هنا تعنى «الغياب المادى» فقط، فهذا الوسيط الافتراضى ليس إلا مجموعة غرف اعتراف متلاصقة، لكن كلاً منها مستقل ومعزول. السؤال هنا كيف تتمكن من استدراج شخص -لا تراه ولا يراك- إلى صداقتك؟.. سهلة: أن تكون نفسك فقط، وللآخر حرية قبولك أو رفضك. السؤال الأصعب: هل تستطيع أن «تحب» فتاة أو امرأة من خلال «فيس بوك»؟ برضه سهل: «افترضها»، وعشها بكل جوارحك. اتعب فيها وتعذب بها كما لو كنتما -أنت وحبيبتك- تتلامسان وتتقاطعان لحماً بلحم.. ودماً بدم. إنما لا تراهن على نهاية «واقعية» حتى إذا تقابلتما، فكل ما بُنى على «افتراض» سيظل افتراضاً، وستظل متعته الوحيدة أنه «افتراضى».
تعرفت ذات يوم على «صديقة فيس بوك»، فتاة مجهولة سأسميها مجازاً «أمل»، حفاظاً على خصوصيتها. ضاقت بها الدنيا فاقتحمت «الشات» الخاص بى. تحدثت بضعف إنسانى موجع والتمست فى رجاحة عقلى وأمانتى «طوق نجاة» فلم أخذلها. حركت فى نفسى فضول وجرأة الـ«فيس بوك»، وقررت أن أنتقل بالمسألة من مجرد فكرة إلى «عزف مشاعر». كنت مهووساً بمحاولة إثبات فشل فكرة «الحب الافتراضى». كنت أريد أن أتيقن من حقيقة ثابتة، مثبتة، هى أن الحب «واقع».. عيون لا بد أن تخترق عيوناً، وأيدٍ لا بد أن تلمس أيدى و«تضغطها»، وأصوات تبدأ من الهمس وتنتهى بالصراخ، لا بد أن تنعكس فى ملامح الآخر، وأجساد «تتمحك» فى أجساد وتراوغها. كنت أريد أن أرد هجوم الوسائط الإلكترونية الكاسح على أرقى وأخلد تجليات النفس البشرية.. أن أدافع عن الغناء القديم لـ«الحب»، وعن ميراث شعرائه وأدبائه ومفكريه العظام.. أن أثبت لنفسى، ولمن يريد أن يصدقنى، أن «فيس بوك» لا يمكن أن يكون طرفاً أصيلاً أو واقعياً فى تجربة حب.. وإليكم تجربتى كما عشتها وأنهيتها من حيث بدأت: افتراضاً محضاً. لأول مرة فى حياتى أكتب عن شخص (ما زال حياً) دون أن أراه أو ألتقيه، وكل ما هو «حى» بيننا حوارات مقتضبة وقليلة على الهاتف، وبضع صور لم تتح لى حفظ ملامحه أو التدقيق فيها لفترة تكفى لمطابقة الشكل بالمحتوى. كل ما أتيح لى محاورات مطولة على «فيس بوك»، ولسبب لا يعلمه أى منا، امتدت بيننا جسور ثقة وتفاهم واحترام، وتسلل كل منا إلى دواخل الآخر و«غرفه» المغلقة دون استئذان أو تردد أو تباطؤ.
بدأ كل منا ينفتح على الآخر: فى توقيت واحد وبالتدفق نفسه، وهو ما أثار دهشتنا. كانت حوارات الفيس بوك مجردة تماماً من تأثير الاحتكاك المباشر، لكننا نجحنا دون مشقة فى تفادى هذه الفجوة والقفز عليها. وكلما تورطنا فى بحر التفاصيل الذى يموج فى أعماقنا البعيدة زادت الألفة وتحول الاطمئنان إلى قوة هائلة، تدفع صداقتنا إلى «منطقة غامضة»، لا أحد منا يعرف ما الذى ينتظره هناك: شجرة مشاعر تظلل حلماً صغيراً بحياة عاقلة، راسخة، دائمة، أم صحراء لا نهائية، أكثر ما فيها حناناً: كثبان رمل!.
أتحدث عن «أمل»، البنت التى خرجت لى وخرجت لها من رتابة الأيام وضبابها الكثيف. من تفاهة الناس وتهافتهم وتكالبهم على صغائر الدنيا. من ازدحام الواقع بشظايا تلمع، وليس كل ما يلمع ذهباً. من قسوة الفراغ وهدوئه الخادع، المراوغ. من اشتباك الألم والوحدة. من حاجتى وحاجتها إلى كلمة «بحبك»، أو الموت على كتف القديسة تريزا: «إنى أموت من كونى لا أموت». لم أقابلها فى مقهى أو عند ناصية شارع أو وراء مكتب أو فى محطة مترو، بل على «فيس بوك».
بدت لى بنتاً ممتلئة بذاتها، لكنها ليست مرتبة بما فيه الكفاية. مسيطرة على تناقضاتها، لكنها لا تعرف كيف تدير حروبها الصغيرة: «الشغل» حظيرة ذئاب، و«البيت» عريس فى غرفة الصالون. زملاؤها فى الشغل يتحرشون، والأسرة فى البيت لا تمل من الضغط عليها لتتزوج وإلا بلغت الحافة.. وما أدراك ما الحافة!. سألتها مستهلاً عملية استدراجها: أى الخيارين تفضلين.. صداقة بحسبة عقل أم حب بلا ضفاف؟. بدت عاقلة، رزينة، متماسكة، لكنها أخف من فراشة. متدينة، قريبة من الله، لكنها لا تتجاهل كونها «أنثى» فى عشريناتها. وفى النهاية.. لم تجب عن سؤالى لأنها بوغتت، أو لعلها كانت فى مدار نفسى بعيد عن هذين الخيارين: الحب.. والصداقة.
أندهش الآن حين أتذكر أن حديثنا بدأ بـ«الموت»!.
كانت مختنقة، محبطة، تائهة. لكنها كلما تحدثت وأفاضت أخرجتنى من نفسى، حتى أصبح كل منا يقف أمام الآخر واضحاً، شفافاً. قالت لى مرة: لست جميلة كما تظن. قلت: تخيلتك هكذا، وأحسستك هكذا، وقد قررت أن أصدق فيكِ «صورة» الواقع أكثر من الواقع نفسه. طلبت هاتفها فقالت: صوتى ليس جميلاً أيضاً، فما حاجتك إلى رقم هاتفى؟. وعندما سمعت صوتها فى التليفون بدا لى فخماً، عريضاً، فأحاطنى كشرنقة. تبادلنا موقعينا. تحدثت عن وسواس الموت، فحدثتها عن جراحة خطرة: «رأيت موتى ينزفنى على مقعد إلى جوار السرير». حدثتها عن مرارة الوحدة، فتسللت وساوسها دون أن تدرى إلى برواز قديم على جدار غرفتى: «أنا بين عينيك، لكنك لا ترانى». وكان وجودها بالفعل يؤانسنى، حتى لم أعد أشغل نفسى بما إذا كان هذا الوجود افتراضياً (فيس بوك) أم حقيقياً (من لحم ودم)!. أصبح كلانا ينتظر الآخر مدارياً لهفته.. مدعياً الحياد.
كنت أقترب منها بحذر، وأتحسس محيطها كأعمى. أتسلل من زخم الكلام التقليدى وأباغتها بسؤال خبيث لعلى ألمس وتراً مشدوداً: ماذا لو جلس الذئب فى غرفة الصالون وطلب قلبك؟. لكنها قفزت على السؤال وانفلتت كالفرس: «النت فصل». حدثنى قلبى بأنها هى الأخرى تقترب، وها نحن الآن فى محطة فاصلة: قطارنا واحد، وعربتنا واحدة، لكن مقعدينا ملتصقان ظهراً لظهر. هل سأعرفها إذا شاهدتها فجأة؟. هل ستعرفنى؟. لو حدث ذلك (هكذا تصورت!) فإن حريقاً سيشتعل.. لكنه لن يحدث: سنلتقى باتفاق، وسنفترق بغير موعد.
كان الهواء الذى بيننا قد امتلأ بالتفاصيل، فأصبحت أشعر نحوها بمسئولية. أشعر كأنها خُلقت لى. ربما جاءت متأخرة. ربما جئتها مبكراً. لكن هواءنا وهوانا واحد: كل ما تحتاج إليه.. عندى قبل أن ألمسها، وكل ما أحتاج إليه.. عندها دون أن تلمسنى. تقول إنها دائماً تنتظر شخصاً «مستحيلاً»، فأقول: «أنا لؤلؤة المستحيل» يا أمل.
أشعر أحياناً أن قطارنا لن يأتى: ظلى وظلها يقتربان ويختلطان ويذهبان بعيداً كسحابة معتمة، مثقلة بالحنين إلى أرض مجهولة. قطارنا واحد، لكننى- لفارق السن واختلاف الظرف- سأنزل قبلها، أما هى فحياتها أمامها، وقد لا يبقى لى سوى أن أقول للموت إذا سألنى عنها: نعم أحببتها. ألست أنا من افترضها وشكلها وامتلكها.. ثم أضاعها كما أضاع كغيرها!. كانت لحظتها جميلة، وأجمل اللحظات أكذبها ثماراً. فكل تجارب الحب «الواقعى» أقصر من المسافة بين «الحاء» و«الباء». وكل تجارب «الزواج عن حب» تفقد مناعتها بعد أول طفل، وقد تميتها لفحة طائشة من هواء الـ«فيس بوك».