مغامرة لمحرر «الوطن» فى «مجتمع الشحاتة»: 350 جنيهاً حصيلة 5 أيام فى 3 محافظات

محرر «الوطن» أثناء خوضه مغامرة التسول فى الشوارع
جوانب خفية عديدة، لا يدركها إلا من يغوص فى عالم التسول و«الشحاتة» وهو بالضبط ما كشفته مغامرة «الوطن» فى هذا العالم المتناقض، الذى يثبت أن مسئولية التسول تقع مناصفة بين طرفين، أحدهما المتسول أو المحتاج والثانى «المتعاطف معه».
رصدنا فى الجولة التى استغرقت 5 أيام متواصلة بمناطق مختلفة فى القاهرة والجيزة والقليوبية، ردود فعل متباينة فى التعامل مع متسول يبدو فى هيئة «معاق» بملابس بالية وحذاء مهترئ، وهى الهيئة التى أثارت تعاطفاً كبيراً لدى المارة فى الشوارع، لا سيما فى المناطق الشعبية، وعرضت صاحبها لمواقف عديدة، بعضها شكل خطراً عليه، وآخر كان شاهداً فيه على الإهانة والازدراء، ومواقف عديدة طريفة أيضاً. الأماكن الراقية ليست الاختيار الأفضل بالنسبة للمتسولين على عكس المناطق الشعبية أو الفقيرة، فسكانها يمنحون أموالهم بتلقائية وعفوية للسائلين، ومن المفارقات التى واجهتنا استجابة سائقى التوك توك وأصحاب الورش الفنية وتفاعلهم مع المتسول على عكس راكبى السيارات الملاكى، العديد يضعون أموالهم بسرعة ولا يأخذون المناديل «حيلة المتسولين فى الشوارع» وهو المشهد الذى اعتاد عليه المارة، كنوع من التحايل على التسول. مصر هى خزائن الأرض، هكذا وصفها الله فى قرآنه، الفقير فيها يقتسم لقمته مع المحتاج، أما عن «شعب متعاطف بطبعه» فهى حقيقة لمسناها فى مغامرة «الوطن» بالتسول فى شوارع القاهرة الكبرى، فى أول الأمر لم أستطع أن أمد يدى وأطلب المساعدة من أحد لأنه أمر لم أعتد عليه ولم أجربه طوال حياتى، ووجدتنى مرتبكاً ومشاعرى مختلطة بين الخوف من افتضاح أمرى والخجل من التسول، فهو أمر مهين وصعب على النفس، ومع مرور الساعات الأولى وبدء جمع النقود بسهولة من المارة، تيسرت الأمور ويوماً بعد يوم كنت فى قلب عشرات المواقف التى ترصدها هذه المغامرة، فيما ذهبت حصيلة التسول التى وصلت إلى «350 جنيهاً» لحساب مستشفى أبوالريش للأطفال حتى تكون أموال المتصدقين قد وصلت إلى مكان صحيح يستحق المساعدة. خبراء علم اجتماع أكدوا فى تعليقهم على مغامرة «الوطن» بعد أن أطلعناهم على جانب منها، أن المتسول إما محتاج احترف جمع المال بسهولة بعيداً عن العمل، أو أدمن التسول ولا يستطيع فعل شىء آخر خلافه، أما خبراء الأمن فأكدوا على ضرورة أن تمارس الشرطة دوراً أكبر فى مواجهة ظاهرة التسول التى تفشت فى المجتمع، وبينما عبر مواطنون عن استيائهم من تفشى تلك الظاهرة السيئة ووصفوها بـ«المخيفة»، إلا أنهم أرجعوا ظهورها وانتشارها فى شوارع مصر إلى «البطالة والغلاء والركود» بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعدم توافر فرص عمل جيدة للشباب، أو كفالة ورعاية للمحتاجين والفقراء.
مع الساعات الأولى لصباح أول يوم فى مغامرة التعايش مع مجتمع التسول، فى شارع عباس العقاد بمنطقة مدينة نصر، خلت الطرقات من المارة تقريباً، بينما كانت السيارات تشق الطريق مسرعة، كانت هذه الأجواء الهادئة مناسبة لاختيار ناصية أحد الشوارع الفرعية للوقوف، وأداء دور المتسول، طالباً المساعدة والمعونة من المارة متكئاً على عكازين ومرتدياً جلباباً أسود وشالاً طويلاً يخفى نصف الوجه، مع حذاء بالٍ ممزق، لتكون الهيئة العامة لى مثيرة للشفقة بلا شك.
الأماكن الراقية ليست الاختيار الأفضل بعكس المناطق الشعبية أكثر عطاء وأهلها يمنحون الأموال بتلقائية
كانت البداية مع فتاة سمراء تجلس فى موقف انتظار «مينى باص»، لمحت فى عينيها أسى ورأفة، عندما أخبرتها أنى أتضور جوعاً، وعلى الفور منحتنى «جنيه»، وبعدها مر شخص آخر بلحية كثة فألححت عليه فى طلب المعونة فغادرنى مسرعاً، لكن يبدو أن ضميره أجبره على العودة لى ووضع «5 جنيهات» ورقية فى يدى ومضى فى طريقه مُسرعاً. أما أصحاب السيارات الملاكى فانقسموا إلى نوعين «لطيف وعابس»، فالأول نظر إلىّ مبتسماً عندما طلبت منه «حاجة لله» فأعطانى ما معه من «فكة»، وأتبعها بابتسامة وقول «تحت أمرك اتفضل».
خلال اليوم الأول من مغامرة التسول، كان ملحوظاً أن البسطاء والأشخاص الذين يبدو من مظهرهم أنهم من الطبقة المتوسطة أو الفقيرة أكثر تعاطفاً مع المتسولين والمحتاجين، عكس من يتسمون بالمظهر الراقى ومن يبدو من هيئتهم وملابسهم الفاخرة أنهم «أغنياء». أمام إحدى الزوايا جلست بعد صلاة الظهر، وخرج شخص يبدو من لحيته وجلبابه الأبيض القصير أنه «ملتزم دينياً»، ما دفعنى إلى طلب فتوى أو رخصة تمكننى من الصلاة دون وضوء متحججاً بعدم قدرتى على التوضؤ لارتفاع صنبور المياه، وعلى الفور أفتانى بالتيمم، وأخذ يشرح كيفيته، لوهلة أردت أن أناقشه فى عدم جواز التيمم فى وجود الماء، لكن سرعان ما تراجعت بغرض حبك دور المتسول، وشكرته ومضيت.
مر أمامى شخص آخر، وعندما طلبت منه «أى حاجة» أشترى بها طعاماً أسد به جوعى، لم يتردد فى مساعدتى، ثم مضى يتحدث بلهجة غير مصرية مع رفيق له تبين من تدقيقى فيما يقول أنه «سورى»، فسارعت برد العملة المعدنية له، وهو ما أثار دهشته وأصر على معرفة السبب فأخبرته أننى لا أريده أن يعود لبلاده ويحكى أن المصريين يتسولون فى بلادهم، ومع إلحاحى الشديد أخذ نقوده ورحل.
شاب صورنى فقالت له سيدة: «مش كفاية اللى هو فيه.. حرام عليك يا أخى».. ورد «طالب جامعى» على طلبى: «فاضل لى تكة وأشحت معاك»
ومن المواقف الطريفة التى رصدتها فى اليوم الأول أن أحد المتعاطفين مع المتسولين أعطانى «ورقة خضراء» من فئة «5 جنيهات» فى شارع عباس العقاد، ولما أخبرته بأننى لم أتذوق الطعام منذ الصباح، مضى بسيارته الفارهة، وبعد بضع ساعات وكنت قد انتقلت إلى شارع آخر مزدحم بالسيارات بغرض أداء دور المتسول وقياس رد فعل المارة، أخرج لى نفس الشخص رأسه من شباك السيارة وقال ضاحكاً: «انت لسه ما فطرتش يا راجل يا طيب». ومع شخص آخر فى شارع جانبى قابع داخل سيارته الفارهة كانت لى حكاية أخرى، حيث توجهت نحوه فمنحنى شخص كان يجلس معه بالسيارة بعض الفكة، وبنفس الجملة التى استخدمتها كثيراً ذلك اليوم «والله يا بيه ما فطرت، إدينى حاجه لله أجيب أكل» وكان رده مضحكاً رغم تهكمه الشديد عندما قابل توسلاتى بقوله: «والله أنا كمان ما فطرت، اتكل على الله». أما الأربعينية فخمة الهيئة التى استوقفتها طالباً المعونة منها، أخذت تقلب فى حقيبة يدها وظننت أنها ستخرج لى أى أموال إلا أنها بعد أن عشمتنى أخرجت هاتفها ووضعته على أذنها ورحلت، وهو ما دفع زميلى مصور التحقيق للضحك والسخرية من الموقف وتجاهلها لى.
ومع اقتراب الشمس من المغيب، كانت قدماى قد تورمتا من الحذاء الممزق، وهنا كان علىَّ أن أستدر عطف المارة أمام صناديق القمامة، أثناء أداء دور المحتاج الذى ينبش فى الزبالة بحثاً عن طعام، جلست متربعاً بجوار الصندوق على الأرض، وكثير من المارة يسرعون الخطى عند اقترابهم منى غير مبالين بتوسلاتى التى تطلب الطعام، ولا منظرى أثناء النبش فى أكوام القمامة المجاورة للصندوق، لم يلتفت غير شاب يبدو من مظهره أنه متوسط الحال، وبعد أن ابتعد بضع خطوات، أجبرته توسلات معدتى الجوعانة على العودة وإلقاء عملة معدنية بكفى ثم اختفى مسرعاً، وبعدها رأيت رجلاً يوحى شكله بأنه بواب بإحدى العمارات وبيده كيس قمامة، فسألته بلهفه: «فيه بواقى أكل فى الكيس؟»، فاكتفى بالرد قائلاً: «محدش بيرمى أكل دلوقتى يا بنى، ربنا يفكها على الجميع» ثم وضع الكيس بالحاوية ورحل.
ومع أن مدينة نصر منطقة راقية ولا يسكنها غير الميسورين إلا أن حصيلة اليوم لم تكن كبيرة بالشكل الذى تصورته، مع مراعاة أنه اليوم الأولى لى فى تجربة التسول، وأن الأيام التالية ستثبت صحة ما يردده كثيرون عن ثروات المتسولين من جمع المال بسهولة.
سألت بواب إحدى العمارات «كيس الزبالة اللى معاك فيه بواقى أكل؟» رد قائلاً: «محدش بيرمى أكل دلوقتى يا بنى»
فى اليوم الثانى، كانت الخطوات الأولى على درجات سلم المشاة الذى يربط منطقة الزهراء المطلة على الكورنيش والجانب الآخر من المترو، جلست مطأطأ الرأس وعكازى بجوارى مع عدد من علب المناديل فى شكل يوحى للمارة أننى أطلب المساعدة، لكن بتعفف وحيلة، المكان مكشوف والشمس تلفح ظهرى ولأكثر من ساعتين لم أحصل خلالها إلا على القليل من العملات المعدنية التى تنوعت بين «جنيه» بحد أقصى، بينما كانت الغلبة للعملة من فئة 50 قرشا، وبينما أنا على حالتى تلك غمرنى طفل فى المرحلة الابتدائية من التعليم بابتسامة حنون ووضع فى يدى 50 قرشاً ومضى سعيداً بأنه ساعد محتاجاً، وبعدها بدقائق أخذتنى رائحة البخور الفواحة من أحد المتسولين بالبخور الذين لا يتخذون مكاناً ثابتاً لجمع المال ويقضون نهارهم فى السعى على المحال التجارية فيمنحونها البركة بالبخور ويطردون منها الأرواح الشريرة ويغزون عنها العين.. «الله يسهلك ويسهلى.. روح ربنا يكرمك ويكرمنى»، قالها المبخر ثم مضى فى طريقه. وكل ما كنت أخشاه خلال الأيام التى قضيتها مشرداً فى الشوارع هو أن يرانى أحد من بلدياتى (من محافظة أسيوط) المنتشرين فى القاهرة وأنا على هذا الحال، فهى مصيبة المصائب بالنسبة لكثيرين من أهلى وأصدقائى، وقد وقع ما كنت أخشاه، ورآنى أحد أقاربى مفترشاً سلم المشاة وأمامى المناديل، أستدر بها عطف المارة، فى البداية كاد يهوى للخلف وبعد أن تمالك نفسه نظر ناحيتى بغضب ممتزج بالأسى لما آل إليه حالى، وكان قد سمع منذ أشهر أننى التحقت بالعمل الصحفى فى إحدى الصحف بالقاهرة، لا أخفى شعورى بالارتباك ولم أدر ما أقول فى موقف من هذا النوع، فمن الممكن أن نلفت النظر لحقيقة أمرى، إذا صارحته بأن الأمر لا يعدو كونه «مغامرة صحفية»، خصوصاً أن متسولين وباعة جائلين كثيرين منتشرون حول محطة المترو، وإذا شك أحدهم فى أمرى قد يعتدى علىّ إذا افتضح أمرى، وبسرعة رجوت قريبى أن يرحل ووعدته أن أتصل به ليلاً لأوضح له حقيقة الأمر، وبعد أن استمع لشرحى المستفيض لما أقوم به طلبت منه أن يصف لى شعوره عندما رآنى على هذه الحال، فكان ملخص قوله: «صدقنى يا خال حتة من قلبى اتقطعت ساعة ما شفتك فى الوضع ده».
بعد أن انصرف «بلدياتى» هبطت سيدة خمسينية درجات سلم المشاة بصحبة أسرتها، لمحت أحد الأشخاص يلتقط لى صورة، فنهرته بشدة رغم أنها لم تعطنى شيئاً ولمحت فى عينيها رغبة فى المساعدة لو كانت تستطيع، وأخذت تلومه على فعلته، قائلة: «مش كفاية اللى هو فيه! حرام عليك يا أخى»، بينما رد شاب آخر يبدو من مظهره أنه «طالب جامعى» على طلبى قائلاً «فاضلى تكة وأتسول معاك».
اشتريت «باكتة مناديل» من كشك قريب من محطة مترو «الزهراء» بمصر القديمة ووقفت أعترض طريق الداخلين مردداً عبارات «مناديل يا بيه.. مناديل يا آنسة»، ولأكثر من ثلاث ساعات كان البعض يضع فى يدى عملات معدنية ويمضى دون أن يأخذ منى المناديل، كنوع من المساعدة، والبعض الآخر كان ينظر باستهجان للمتسول الذى يراه أمامه، رغم أنى أعرض ما معى من مناديل لبيعها والتكسب منها، الكثير من الناس يدفع ولا ينتظر المناديل والبعض الآخر يدفع أكثر من قيمة عبوة المنديل الواحد ويأخذه ويمضى إما لحاجته إليه أو لمساعدتى، الأهم أن حيلة بيع المناديل لا تنطلى على المارة، والجميع يعرف أنها مجرد واجهة للتسول بكرامة.
قلت لأحد المارة: «والله يا بيه ما فطرت ادينى حاجة لله أجيب أكل» فردّ ضاحكاً: «والله أنا كمان ما فطرت.. اتكل على الله».. وأمناء شرطة نصحونى بالبحث عن عمل
ورغم كثرة المترددين على المحطة إلا أن حصيلة التسول أمامها كانت أقل مما جمعت فى شوارع «مدينة نصر» ما جعلنى أفكر فى سؤال: «هل هناك علاقة بين الأزمة الاقتصادية وغلاء الأسعار وبين التسول أم أننى لم أتقن الصنعة بعد؟». كانت الشمس تميل للمغيب بينما أقف أمام محطة المترو وقد زال الخجل الذى عانيت منه فى اليوم الأول بمدينة نصر، مستخدماً لغة أكثر إلحاحاً وتبجحت فى طلب المساعدة، لكن كل المحاولات لم تف بالغرض وهو جمع الكثير من المال، وعندما تعالى صوت أذان المغرب وقفت أمام أحد المساجد منتظراً المصلين بعد الفراغ من الصلاة، ووقفت بمظهر منكسر أمام باب المسجد، وما لاحظته أن معظم الخارجين بمظهر أنيق، لكن لم يلتفت أى منهم ناحيتى ولو بنظرة عطف، أما البسطاء وأصحاب المظهر المثير للتعاطف فكانوا أكثر عطاء وتعاطفاً معى، وأثار دهشتى شخص بسيط يبدو من ملابسه أنه «عامل» وعلى يديه آثار شقاء وكد، وقف خلفى دقيقة سمعت خلالها «شخللة» فى كيس بلاستيك به عملات معدنية وضعها فى يدى وربت على كتفى ومضى.
فى يوم جديد، وعلى رصيف المشاة بالقرب من المركز الثقافى الروسى بمنطقة الدقى، جلست متربعاً فى هيئة منكسرة، بجوارى عكازى وبعض علب المناديل، بجوار باعة يفترشون الرصيف، ينظرون إلىّ بضيق، وكأنى أزاحمهم فى مكان رزقهم، مئات الأشخاص يمرون مسرعين ولا أحد يبالى بوجودى، وبعد ما يقرب من ساعة جاءتنى سيدة منتقبة وضعت بجوارى كيس بلاستيك به «أرغفة خبز»، ولما لم أجد فائدة من الجلوس فى هذا المكان وقد كان عن يمينى شخص يطلب المساعدة وعن يسارى سيدة تبيع المناديل انتقلت لمكان آخر، وكلما نظرت إلى مدخل من مداخل محطة مترو الدقى أجد أكثر من متسول هناك، ورحت أبحث عن مكان ملائم غير مشغول بالمتسولين، وتجولت بالمنطقة فى ميدان الدقى، وقررت أن أطلب المساعدة من الجميع وجاءت نتيجة التحرك بأموال أكثر وتعاطف أكبر، خاصة مع إعاقتى الظاهرة، فجمعت حصيلة كبيرة من المساعدات معظمها عملات معدنية.
وفى مفارقة غريبة أنه رغم كثرة المصلين بمسجد «أسد بن الفرات» بالدقى أيضاً، لم أتحصل إلا على 2 جنيه فقط، وهناك وجدت امرأة مسنة تطلب المساعدة فجلست بجوارها أتجاذب معها أطراف الحديث، وتوددت إليها بإعطائها 2 جنيه، فبدأت تشكو من أن الناس لم يعودوا يغدقون على المتسولين بالأموال مثل أوقات مضت، وأن الشرطة تلاحق المتسولين وتحتجزهم بالأيام فى أقسام الشرطة، ولما أبحرت معها فى الكلام ارتابت فى أمرى وألقت بالنقود فى وجهى وطلبت منى الابتعاد عنها.
هل جربت أن تكون بمطعم تتناول وجبتك بعد شعور مؤلم بالجوع والإنهاك، ثم تصادف أحد المتسولين يحدق فى طعامك ويطلب منك المساعدة؟ هذا بالضبط ما فعلته فى أحد المطاعم، طمعاً فى تعاطف، يصل إلى حد حرمان المعطى لنفسه من الطعام، ومنحه لمحتاج يقف أمامه محدقاً فى طعامه، وبدأت ممارسة تمثيلية استدرار عطف رواد المطعم، ليعطونى من أكلهم أو أموالهم، وأمام المطاعم الشعبية وعربات الساندويتشات وقفت أنظر إلى الطعام بين يدى الناس وهم يأكلون فيشعر الواحد منهم بالأسى، وسرعان ما يضع يده فى جيبه ليخرج منه أى مساعدة مالية لى لأنصرف من أمامه بسرعة، حتى يتمكن من استكمال وجبته بضمير مرتاح.
وفى المقاهى تجتمع كل طبقات المجتمع، الفقير بجوار ميسور الحال، لدرجة يصعب معها التمييز بينهما، كنت أمد يدى لهم طالباً المساعدة بالقول: «أى مساعدة الله يكرمك»، فأجدنى وقد جمعت ما يقارب الـ10 جنيهات فى دقائق معدودة.
«مش معايا غيرهم»، قالت الفتاة العشرينية التى رمقتنى بابتسامة حنونة عندما رأتنى فى مدخل مترو «الدقى» ووضعت فى يدى «3 ملبسات» ومضت مسرعة، ولم أتحصل خلال الساعة التى جلستها مفترشاً الرخام فى مدخل المحطة إلا على 4 جنيهات رغم ازدحام المكان بالركاب دخولاً وخروجاً، وعرفت فيما بعد أن هناك متسولين معروفين فى المنطقة، والمارة اعتادوا على وجودهم هم ويكتفون بمساعدتهم دون غيرهم من الغرباء عن المنطقة.
انتقلت من الدقى إلى شارع محيى الدين أبوالعز من بدايته وحتى تقاطعه مع شارع «مصدق»، ولم أتحصل إلا على جنيهين، فحركة المارة بالشارع محدودة، والجميع لاهث وراء قضاء مصالحه فى الشارع المكتظ بالمحلات والمدارس والشركات، وأمام مطعم شهير رحت أطلب المساعدة من «الكاشير» الذى قابل توسلاتى بتهكم عندما طلبت منه «أى مساعدة»، وكانت كلماته سخيفة وطاردة دون رأفة أو رحمة مع المحتاجين والمتسولين، وواجهنى بقوله بدهاء: «أؤمرنى يا بيه عاوز كام ساندويتش؟»، فاعتقدت أنه لم يسمعنى جيداً، فكررت أننى أطلب مساعدة، فرمقنى بنظرة ازدراء وأردف: «صاحب المحل عندك جوه، روح خليه يساعدك، أنا بشتغل هنا». بعدها بدقائق تصادف سيرى فى الشارع مع فتاة تأكل بعض الساندويتشات مع صديقتها أمام إحدى السيارات، أخذت أحدق فى طعامهما، ثم طلبت المساعدة، وجاءنى ردها سريعاً: «الله يسهلك»، وبعد أن ابتعدت عنها بضعة أمتار لاحظتها تجرى لتلحق بى، حتى وقفت أمامى، عندها نظرت ناحيتها بانكسار وتساءلت: «ليه جاية تجرى يا أستاذة.. كنتى ندهتى علىّ»، فوضعت الجنيهين فى يدى مع نظرة توسل غريبة، ثم طلبت منى أن أدعو لها بالهداية، وهى النظرة التى ظلت تشغل بالى طويلاً وتفجر فى رأسى تساؤلات عن دوافعها لهذا الطلب الغريب منى، فأنا على هيئة متسول، ولست فى هيئة «شيخ أو أحد الصالحين» لتعتقد الفتاة أن دعوتى مستجابة، لكنى لم أخيب رجاءها فدعوت الله أن يهدينى ويهديها ويهدى الجميع.
حصيلة التسول بطريقة «بيع المناديل» بعملات معدنية فقط «جنيه ونصف الجنيه».. وطفل فى «الابتدائى» ابتسم ووضع فى يدى 50 قرشاً أمام سلم «المترو».. وصاحب مطعم أعطانى «5 سندوتشات» وقال لى: «اللى بيطعمنى ويطعمك ربنا»
وفى شارع التحرير وبجوار سور إحدى المدارس رأيت شخصاً قادماً تجاهى، تخوفت فى البداية منه، لكنه وضع كيساً عليه اسم أحد المطاعم وتفوح منه رائحة ذكية ورمقنى بابتسامة قائلاً: «فيه ساندويتش» وبدا من ملامحه السمراء ولهجته الجنوبية أنه يمنى الجنسية.
ابتداء من الشارع الجديد من ناحية «مسطرد» الذى يمتد حتى ينعطف يميناً ليصل إلى ميدان «المؤسسة» بدأت رحلة التسول راجياً: «حاجة لله.. أى مساعدة»، لم أستخدم غير هاتين الجملتين ولمدة 3 ساعات، فالجميع يعطى بنفس راضية مع نظرات التعاطف التى راحت تلاحقنى، ربما لأن وجهى ليس مألوفاً لسكان المنطقة الشعبية، أو لأننى أصبحت أتقن بعض مبادئ الصنعة، واكتشفت فى نهاية اليوم أن الطابع الغالب على سكان هذه المناطق هو العطاء السخى، فمن يقترف ذنباً يكفر عنه بمساعدة السائلين، ومن ينتظر مولوداً يتصدق على المحتاجين، وأصحاب المحال التجارية يدفعون إما لتحل عليهم البركة أو لأنهم تعودوا على هذا الأمر فأصبح المتسول يمثل لديهم شخصاً يستحق الدفع مثله كمحصل فاتورة الكهرباء والمياه ومالك الحقار المستحق للإيجار بداية كل شهر. ترددت كثيراً قبل أن أطرق باب طلب المساعدة من سائقى «التوك توك» لكن سرعان ما توجهت إليهم واحداً بعد الآخر وكان عطاؤهم سخياً، فأغلبيتهم وضعوا عملاتهم المعدنية فى يدى مع ابتسامة جبر الخواطر التى منحونى إياها، وهو ما شجعنى على الاستمرار فى استنزاف عملاتهم التى يجمعونها من الشوارع فى قلق وترقب معرضين أنفسهم فى أى لحظة لخطر القبض عليهم أو اختطافهم من العصابات الشهيرة.
وطوال الـ3 ساعات التى قطعتها ذهاباً وإياباً فى «الشارع الجديد» بشبرا الخيمة لم يمتنع صاحب كشك بقالة أو ورشة كاوتش أو محل قطع غيار عن المساعدة والتصدق بالجنيهات مرة والخمسين قرشاً أحياناً، ولم يسلم زبائن هذه الأماكن من إلحاحى بطلب المساعدة منهم، أما الموقف الذى جعلنى أمضى بسرعة من شدة الضحك عندما اقتربت من مقهى مكتظ بالزبائن وعندما توجهت صوبه رحب بى العامل بشكل حار: «اتفضل يا باشا.. تحب تقعد هنا ولا جوه»، فما كان منى إلا أن شكرته وانصرفت، وما أثار دهشتى وشجعنى على المشى كل هذه المدة أن لا أحد يمانع فى إلقاء ماله الذى تعب فى جمعه بيد أى متسول يطلب المساعدة.
إعاقتى وهيئتى المتعثرة فى السير، عرضتنى لموضوع «استغلال إعاقتى فى مصلحة». فطوال السنوات الماضية جاءتنى عروض كثيرة بالتقدم للحصول على سيارة مجهزة طبية تناسب حالتى الصحية ولم تكن هذه العروض فى صالحى فى شىء أو أننى لم أكن أراها كذلك، فكل من فتح معى هذا الموضوع كان يتحدث عن رغبته فى شراء الأوراق والحصول على سيارة لنفسه فى مقابل حصولى على مبلغ من المال وكنت دائماً أرفض الأمر فأنا أكره أن يستغلنى أحد، وفى كل مرة كنت أشعر بالضيق والحنق وربما وصل الأمر إلى قطع علاقتى نهائياً مع أى شخص ألاحظ من كلامه أنه يلمح إلى هذا الموضوع، وبعد سنوات من غلق هذا الباب، بينما أنا فى قلب مغامرة التسول، استوقفنى أحد الأشخاص بشبرا الخيمة، وأخذ يطرح علىّ العديد من الأسئلة، مثل: أين تسكن؟ وكم سنك؟ وهل تجيد القراءة والكتابة؟ وما مؤهلك العلمى؟ وجاءت كل إجاباتى مضللة: «أنا يتيم يا بيه.. فيه ناس طيبين أخدونى ربونى.. وعمرى ما رحت مدرسة ولا اتعلمت». فأخبرنى أننى سيئ الحظ، ولو كنت أجيد القراءة والكتابة لكانت لدىّ فرصة الحصول على سيارة مجهزة طبياً وأبيعها كصفقة مقابل حصولى على 7 آلاف جنيه، لمعت عيناى عندما نطق الرقم فى شكل أوحى إليه أننى لم أسمع بهذا الرقم من قبل، وأبديت أسفى على عدم درايتى بالقراءة والكتابة، ولعنت حظى، ثم طلبت منه أى مساعدة، فوضع بيدى جنيهاً ومضى.
جاءت حصيلة جولة شبرا الخيمة، التى لم تتعد الـ3 ساعات، مساوية لحصيلة «مدينة نصر، وزهراء مصر القديمة، والدقى»، بدأت أشعر بالدوار والغثيان وامتلأ أنفى بالتراب لدرجة جعلتنى أتنفس بصعوبة وأتوقف عند هذا الحد منهياً رحلتى إلى شبرا الخيمة التى علمتنى أن المظاهر خادعة، وأكدت على نظرية أن البسطاء ومتوسطى الحال يمنحون ما معهم دون حسابات معقدة عكس الطبقات المتعلمة، التى تعتبر على درجة أعلى من الوعى بطرق وأساليب المتسولين، فالبسطاء يعتقدون أن أى سائل يجب إرضاؤه حتى لو أنه سيشترى بهذا المال مخدرات.
أحد أقاربى من «أسيوط» ذُهل من هيئتى المثيرة للشفقة.. وأخبرته بحقيقة المغامرة الصحفية فقال لى: «حتة من قلبى اتقطعت ساعة ماشفتك».. وفتاة عشرينية أعطتنى «3 ملبسات» فى الدقى وقالت لى: «مش معايا غيرهم»
أمام محطة مترو «روض الفرج» أنهيت مغامرة التسول التى استمرت 5 أيام، حرصت على تغيير هيئتى لأجرب «القميص والبنطلون والحذاء الجلد والنظارة الشمسية» فى التسول رافعاً شعار «معايا ليسانس ومش لاقى شغل»، بدأت العملات المعدنية تتساقط فى يدى من أصحاب الأكشاك والمقاهى والمحال التجارية، وكان التردد والخجل قد زالا تماماً عن الأيام السابقة.
وتعمدت التسول من المحال القريبة من قسم شرطة الساحل فى محاولة لرصد ردود فعل رجال الشرطة المنتشرين حول القسم وجازفت بالدخول بنفسى فى حوار مع أمناء الشرطة أمام القسم، أخرجت بطاقة الهوية ووضعتها فى يد أحدهم وبدأت الحديث معه: «معايا ليسانس آداب وبقالى 8 شهور متخرج ومش لاقى شغل.. بطلب المساعدة من الناس وخايف يتقبض عليا تسول.. أعمل إيه وأنا راجل معاق ومقدرش أشتغل»، لم ألحظ أى رد فعل على وجوه ثلاثة أمناء شرطة كانوا يستمعون لحديثى، وشرع أحدهم فى الرد على تساؤلاتى بتطييب خاطرى، وأشاد بالدرجة العلمية التى حصلت عليها ونصحنى بالسعى أكثر على المكتبات والصيدليات، وأكد أننى سأجد عملاً فى نهاية المطاف، وعندما أخبرته أننى قمت بكل ذلك دون جدوى نصحنى مرة أخرى بافتتاح مشروع أتكسب منه، وهنا رد عليه زميله بينما رحت أراقب الحوار صامتاً: «أى مشروع محتاج راس مال، وهو بيقولك مش معاه حاجة، وبعدين إزاى يلف ع المحلات يدور على شغل.. دا معاه مؤهل عالى والمفروض يشتغل فى مكان يليق بمكانته»، ثم أعاد لى البطاقة ووعدنى بعدم القبض علىّ إذا رآنى أتسول، لكن السؤال الذى راح يتردد فى ذهنى ولم أجد له إجابة أننى على الرغم من لحيتى وارتدائى صديرى يشبه زى الجهاديين لم يشك أى من الثلاثة ولو للحظة أننى ربما أكون مفخخاً بحزام ناسف يقضى عليهم قبل انتهاء الحديث ويفجر قسم الشرطة.
خلال رحلتى القصيرة فى عالم التسول لم أتأثر أو أبالى بنظرات الشفقة والعطف أو حتى نظرات الازدراء التى راحت تتابعنى فى الشوارع وعلى المقاهى، إلا هذا اليوم عندما وقفت طالباً المساعدة أمام إحدى ورش الميكانيكا وجاء الرد سريعاً: «الله يساعدك»، وبعد ابتعادى سمعت خطوات مسرعة تلاحقنى، لا أخفى أننى شعرت بالتوتر والخوف، خصوصاً أننى فى منطقة مجاورة للسكة الحديد وصورتها الذهنية التى ترسخت بذهنى منذ طفولتى متأثراً بالسينما والدراما، لكن سرعان ما تبدد هذا الخوف عندما وجدت الميكانيكى يضع 5 جنيهات فى يدى ويدعو لى بالتوفيق، اغرورقت عيناى بالدموع وشعرت بالحنق والسخط على نفسى التى راحت تسلب الناس أموالهم، معتقدين أننى من المستحقين للصدقات فرحت أردد بينى وبين نفسى: «عمار يا مصر.. الشحات فيكى مستور».
وأمام فاترينة مطعم طلبت من أحد الزبائن أن يعطف علىّ بأى مساعدة، لكنه نظر فى وجهى ثم شاح عنى ببصره غير مبالٍ، وعزمت على المضى قبل أن يستوقفنى صوت صاحب المطعم الشاب العشرينى فعدت إليه منكسراً، وطلب منى الدخول فانصعت لأوامره ولم تمر دقيقة إلا ووضع أمامى طبقاً به 5 ساندويتشات مع طبق من سلطة الخضار الطازج وأتبع ذلك بابتسامة عريضة: «اتفضل وماتشيلش هم حاجة اللى بيطعمنى ويطعمك ربنا»، وأصر على ألا أذهب قبل أن أشرب الشاى. وتأكدت من خلال هذه التجربة أن البسطاء هم الأكثر سخاء والأطيب قلباً، فهم لا يتعبون أنفسهم فى الحسابات المعقدة، ويمنحون ما فى جيوبهم لمحتاج بكل حب، ولاحظت أيضاً أن هناك قطاعاً عريضاً أصبح لا يتأثر بأساليب وخدع المتسولين، وبعد مفاضلة طويلة بين أكثر من مكان لم أجد أنسب من مستشفى أطفال «أبوالريش» للتبرع بحصيلة الرحلة كاملة لحساب المشفى بالبنك العربى الأفريقى، فهو بحاجة إلى إمكانيات عديدة بداية بـ«السرنجة» وانتهاء بسرير يأوى طفلاً مريضاً، وليت المتصدقين على المتسولين العشوائيين بالشوارع يوجهون نقودهم القليلة إلى جهات من هذا النوع فهى بحق أولى بالصدقة والتفاعل الإيجابى.