البحيرة: إنقاذ صناعة «حصر السمر» بتحويلها إلى تابلوهات فنية
محمد فوزى يعرض أحد تصميماته
فى مواجهة كساد لا يرحم، أعلن عدد من شباب البحيرة التحدى، وبدأوا فى إحياء مهنة آبائهم قبل أن تنقرض، وعادوا إلى إنتاج «الحصير السمر» بعدما أضافوا إليه لمسة عصرية، حولته إلى لوحات فنية، فخرجوا بالمنتجات من حدود قرية «الأبعادية» الضيقة فى دمنهور، لتصل إلى آفاق العالمية، بعدما لاقت لوحات الحصر المزخرفة إقبالاً كبيراً فى عدد من الدول العربية والمدن السياحية فى مصر.
ومع كل نجاح لشباب «الأبعادية» كانت أحلامهم تتسع، حتى وصلت إلى حد الحلم بدخول موسوعة «جينيس» للأرقام القياسية، بعد تصميمهم تابلوهات فنية من الحصر، منقوشاً عليها آيات القرآن كاملاً، ما كان دافعاً لعدد من أهالى القرية لأن يسيروا على نفس الدرب بالتمرد على الصناعة التقليدية للحصير، بعدما اختفت استخداماته تماماً.
«نحن نصنع الفن والتراث والأصالة»، هذا ما يراه صناع الحصر الجدد فى قرية يتجاوز عدد سكانها الـ20 ألف نسمة بقليل، ورغم أنها تبعد مسافة 4 كيلومترات عن قلب مدينة دمنهور الحيوية، فإن «الأبعادية» نجحت فى فرض اسمها كقرية منتجة فى البحيرة، خاصة أنها تضم العديد من الحِرف والمهن الأخرى. فى السنوات الأخيرة، اشتهرت «الأبعادية» بـ«الحصير السمر»، وهى صناعة لم يكن الكثيرون يهتمون بها فى السابق، قبل أن يدخل شباب القرية موضة «تابلوهات الحصر»، فأعطت للمنتج قيمة فنية عالية، وفتحت الباب أمام اقتناء السائحين والأثرياء لها، باعتبارها قطعاً فنية تمتد جذورها إلى عمق التراث المصرى. محمد فوزى، 45 عاماً، أحد مبدعى القرية، ممن شاركوا فى إثراء صناعة تابلوهات الحصر فى «الأبعادية»، قال لـ«الوطن»: «من قديم الزمن عرف أجدادنا صناعة الحصر، فلم يكن هناك منزل واحد أو مسجد يخلو من الحصر، حتى ظهر الموكيت والسجاد والحصير البلاستيكى، خاصة أن الأخيرة زهيدة السعر مقارنة بالحصر السمر».
وأشار إلى أن «صناعة حصر السمر أصبحت مهددة بالانقراض، وبدأ العاملون فى هذه المهنة رحلة البحث عن أعمال أخرى، حتى فكرت مع عدد من شباب القرية فى تطوير المهنة، بإضافة لمسات فنية للمنتجات لتتحول إلى لوحات فنية، ثم نجحنا فى جذب العديد من شباب القرية إلى هذه الصناعة، فأصبحت تابلوهات الحصر فناً يذكّر كل من يشاهده بالتراث المصرى الأصيل».
وأضاف: «بينما واصل كبار الصناع فى القرية عملهم بالطريقة التقليدية انطلقت مع مجموعة من الشباب لنشارك بمنتجاتنا فى المعارض الكبرى بالقاهرة والغردقة وشرم الشيخ، خاصة أن الصناعة القديمة لم تعد ذات جدوى مادية، فكل إنتاج القرية من الحصر لم يكن يتجاوز الـ800 حصيرة شهرياً، خلاف ما كان يحدث فى سنوات الازدهار».
لم تتغير طريقة صناعة حصير السمر منذ مئات السنين، حتى جاء شباب القرية ليضيفوا عليها مسحة فنية، وحسب «فوزى»: «كانت البداية هى الاعتماد على طريقة الغزل ثم النول»، لافتاً إلى أن «صناعة النسيج والأثاث كانت من أهم الصناعات المصرية عبر التاريخ، حيث وجدت صور لهذه المنتجات فى المقابر الفرعونية، وتعتمد هذه الصناعة على البوص والسمار كمواد أساسية، كما توجد حصر مصنوعة من الحشائش».
مفاجأة «فوزى» الحقيقية كانت سعيه إلى دخول موسوعة «جينيس» للأرقام القياسية، بعدما عكف فى الفترة الأخيرة على كتابة القرآن كاملاً على الحصر، موضحاً: «قدمت تابلوهات عليها آيات قرآنية وأدعية وأحاديث نبوية، بالإضافة إلى رسومات من الفلكلور المصرى، ما يعبر عن الأصالة والفن والتراث، وسار على الدرب العديد من شباب القرية الساعين إلى التطوير والإبداع».
أما عبدالرحمن المناخلى، 28 عاماً، فقال: «نحتاج إلى نبات السمار المنتشر على ضفاف النيل وقنال المحمودية فى صناعة الحصير، وفى بعض الأحيان نجوب العديد من المحافظات للحصول على السمار، فهو ينبت من الأرض دون تدخل بشرى، ورغم أننا نحصل عليه مجاناً، فإن تكلفته تزداد نظراً لندرته، واضطرارنا للبحث عنه».
وأضاف: «نضطر أحياناً إلى استخدام البوص والحشائش والقش عندما نتعثر فى الحصول على السمار، إلا أن بعض الأنواع تستلزم استخدام السمار فيها، مثلما هو الحال فى الحصر الخاصة بإنتاج الجبن القريش، ولا غنى للفلاحين أو أصحاب مصانع الجبن القريش عن هذا النوع من الحصر، لذلك نواصل إنتاج هذا النوع بجانب التابلوهات الفنية».
واعتبر كريم المناخلى، 25 عاماً، أن شباب القرية نجحوا فى كسر الحواجز التقليدية فى مهنة الآباء والأجداد، عندما عبروا بمنتجاتهم إلى خارج الحدود المصرية، موضحاً: «شاركنا فى العديد من المعارض بصنعاء والشارقة والرياض، ونسعى إلى تأسيس رابطة لصناع تابلوهات الحصر، ونحن على ثقة فى قدرة محمد فوزى على تحقيق رقم قياسى بإتمام كتابة القرآن فى تابلوهات الحصر ليضع اسم القرية من جديد على خريطة الصناعات الصغيرة فى مصر كلها وليس البحيرة وحدها».
أكثر من 800 شخص بين شباب وكبار سن يعملون فى صناعة الحصير السمر، حسبما يقول عيد عمارة، 52 عاماً، المقيم فى إدكو، موضحاً: «نعمل فى هذه المهنة منذ الصغر، لكن التطور جعل الكساد يحل بها، فلم تعد المنتجات مطلوبة، باستثناء عدد من الكافتيريات والمحال المهتمة بالتراث والصناعات اليدوية، حيث تتردد علينا لشراء هذا النوع من الحصر».
وأضاف: «الشباب نجحوا فى كسر حالة الركود بعدما طوروا الصنعة، بينما نواجه نحن الكبار العديد من الصعاب فى التوزيع، لذلك نسعى إلى إدخال بعض التعديلات على الصناعة والدخول فى مجال التابلوهات الفنية، بعدما أصبحت صناعة رائجة، ولاقت إقبالاً كبيراً على المستويين المحلى والدولى، خاصة أننا رأينا شباباً يشاركون فى معارض للصناعات اليدوية فى شرم الشيخ والغردقة وطابا، ولاقوا إقبالاً من السائحين والمصريين».
هشام المراغى، 32 عاماً، حاصل على دبلوم معهد فنى صناعى فى رشيد، يقول: «شاركت فى معارض عدة بالإسكندرية والقاهرة ومرسى مطروح وشرم الشيخ، وقدمت خلالها تابلوهات الحصر، وبعض أعمال الأركت، بالاشتراك مع عدد من زملائى الذين يعملون فى المهنة منذ الصغر»، موضحاً: «طورنا الصناعة لتتناسب مع متطلبات السوق، كما نفذنا حملة إعلانية لتسويق منتجاتنا عبر مواقع التواصل الاجتماعى».
أكبر الأزمات فى وجه الصناعة، حسبما يقول «المراغى»، هى ارتفاع أسعار المنتجات، موضحاً: «رغم أن المعروضات تلقى إعجاب رواد المعارض، فإننا نضطر لرفع الأسعار، فتابلوه الرسم مقاس 50×50 سم يصل سعره إلى 300 جنيه، بسبب المجهود البدنى والعصبى الذى يستلزمه إنتاج القطعة، بالإضافة لارتفاع سعر المواد الخام وندرتها».