د. مصطفى رجب يكتب: الصعيد.. أوجاع قديمة تتجدد
انفجار مبنى الأرصاد الجوية بقنا
كان الصعيد فى الماضى البعيد هو مصر الحقيقية. فقد كان عظماء حكام مصر من أهل النوبة فى العصر الفرعونى وما تزال المعابد فى أسوان وأبى سمبل والأقصر وسوهاج أدلة شامخة تتحدى الزمن لتثبت أن فجر الحضارة المصرية بزغ من الجنوب. ولما تولى مينا -ابن سوهاج - حكم مصر نقل عاصمة ملكه من طيبة إلى منف ولقب بموحد القطرين.
وعاشت مصر كلها فى عهود الرومان والفرس والمسلمين دولة واحدة، فلما جاء عصر محمد على باشا، أولى محمد على اهتماماً واحداً لكل مصر فقد كان حاكماً عبقرياً سابقاً لعصره. ولكن أحفاده فسدوا بعده فساداً كبيراً، وبدأ اهتمامهم ينصب على الشمال -حيث أملاكهم- دون الجنوب فبدأ الصعيد يتدهور شيئاً فشيئاً إلى أن جاءت ثورة يوليو فقضت على البقية الباقية من الصعيد فأنشأت مئات المصانع فى القاهرة والإسكندرية ومحافظات الدلتا.
وأنشأت فى الصعيد بضعة مصانع للسكر ازدادت معها المساحات المنزرعة قصباً لتشغيل تلك المصانع، والقصب يستمر على الأرض سنة أو سنتين وربما أكثر مما أتاح الفرصة للإجرام وحوادث النهب والسلب والثأر وتجارة السلاح والمخدرات أن تزدهر وتنمو وتؤتى أكلها: دماراً وتخلفاً وجهلاً ومرضاً، ولما جاء السادات إلى الحكم فاقت حدة المشكلة كل احتمال، فقد أنشئت فى عهده القليل (11 سنة) عشر جامعات فى الدلتا مقابل نصف جامعة للصعيد كله.
وفى عهده بدأت سياسة الانفتاح الاقتصادى التى ترتب عليها إنشاء مدن عمرانية جديدة مثل السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان والخامس عشر من مايو.. إلخ. واكتظت تلك المدن الجديدة بالمصانع التى أنشأها المستثمرون فى إطار سياسة الانفتاح الاقتصادى التى أدت إلى نمو رأس المال الخاص وانقضاضه على الاقتصاد القومى. وكل تلك المدن قريبة من القاهرة والدلتا، ولم يحدث فى عهد السادات أى تعمير يذكر فى طول الصعيد وعرضه، بل على العكس، روج السادات بنفسه لما أسماه بـ«الفتنة الطائفية» بين الأقباط والمسلمين، وكاد الصعيد يشتعل ناراً لا تنطفئ، لولا أن تداركت مصر رحمة الله يوم المنصة.
وقد ظل الجنوب يزداد فقراً، والشمال يزداد غنى إلى أن جاء حسنى مبارك إلى الحكم فى أعقاب اغتيال السادات عام 1981م، فبدأ يلتفت إلى ما حاق بالصعيد من ظلم وبخاصة بعد أن تزايدت موجات العنف السياسى فى الصعيد تزايداً ملحوظاً ابتداءً من أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات مما جعل نظام الحكم يدرك كمّ المعاناة التى يعيشها الجنوب، فبدأت السياسات التنموية تتجه جنوباً بتوجيه مباشر من الرئيس مبارك، فتحسنت البنية الأساسية تحسناً ملحوظاً وإن كان ذلك لم يستطع تعويض مئات السنوات من القهر والإذلال والتجويع والإرهاب الذى مورس ضد الصعيد على مدى القرنين الماضيين أو أكثر منهما قليلاً.
وفى معظم الأحوال كان الفكر الإدارى السائد، الذى يدعمه إعلام منحاز فاسد، ينظر إلى الصعيد على أنه جزء دخيل على الوطن وكان نقل الموظف المشاغب إلى الصعيد عقوبة قاسية لا يلقاها إلا ذو حظ كنود.
■■
إذا زرت حلايب وشلاتين والواحات الداخلة وغيرها تشعر أنك فى جمهورية مصر العربية بدلائل كثيرة منها الأعلام وضباط الشرطة وجنود المرور. وهذه المظاهر (الحضارية) موجودة أيضاً فى محافظة سوهاج، ومع ذلك فلا تشعر وأنت تتجول فى المحافظة وتعيش فيها أنك فى مصر.. بل فى موزمبيق... ولهذا الشعور ثمانية وخمسون سبباً هى:
أن رؤساء الوزارات لا يزورون سوهاج، فالدكتور عاطف صدقى الذى حكم مصر (10) عشر سنوات زارها مرة واحدة والدكتور الجنزورى لم يزرها قط، وكذا عاطف عبيد. لأنه رجل عملى ولا يتحرك إلا لعقد صفقات أو معاينة نشاط.. والمحافظة بحمد الله (راااااايقة) جداً ولا يوجد ما يعكر صفو هدوئها من مشاريع أو أنشطة أو ما شابه ذلك.
أن اسم المحافظة لا يظهر فى نشرات أخبار التليفزيون إلا عند وقوع كوارث من الوزن الثقيل مثل السيول والزلازل، وفى هذه الحالة لا يظهر اسم المحافظة فى النشرة كحق إعلامى دستورى، وإنما يظهر اسم المحافظة وطبيعة الكارثة وتتركز الصور والتعليقات على ما تفضلت الحكومة وطبيعة الكارثة ممثلة فى البطاطين والبطاطا التى توزع -بعد النشرة- على المحاسيب لا المضارين.
أن الحكومة لا تعرف حتى الآن أين هى سوهاج على الخريطة بالضبط فلا هى شرق التفريعة ولا هى غرب التفريعة، والدليل على أن الحكومة لا تعرف موقع سوهاج يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أدلة دامغة هى:
3/أ - أن كتاب (الشخصيات القومية البارزة) الصادر عن هيئة الاستعلامات المصرية، ينسب مدناً سوهاجية شهيرة مثل (جرجا) إلى محافظة قنا، وينسب مدناً تتبع قنا إلى سوهاج.. وكله تمام!!!.
3/ب - أن سوهاج فى أجهزة وزارة الثقافة تتبع ما تسميه الحكومة (وسط الصعيد)، وفى أجهزة وزارة الإعلام تتبع سوهاج ما تسميه الحكومة (جنوب الصعيد) ومعنى ذلك أن الحكومة تحتاج إلى حصص تقوية مكثفة [ بعد إذن د. هشام الشريف ] فى الجغرافيا لكى تفهم ما أول الصعيد وما آخره.. وأين يقع وسطه بالضبط. «وشر الأمور الأوسط» فى أحيان كثيرة [ كما هو الحال مع الغوازى مثلاً ].
3/جـ - أكثر من 70% من الوزراء لم -ولن- يزوروا سوهاج وبالتالى فإنهم أغلبية الحكومة وعلى ذلك فالحكومة -بالأغلبية- لا تعرف أين تقع سوهاج.
فهل تستطيع الحكومة أن تكذب هذه الادعاءات وتنشر بياناً واضحاً بتواريخ زيارات الوزراء للمحافظات المخالفة فى جدول مقارن توضح به أسباب الكوارث التى أدت للزيارات بالنسبة للوجه القبلى عموماً وسوهاج خصوصاً؟ وهناك وزراء لم يزوروا سوهاج قط لا فى الكوارث ولا فى الأفراح والليالى الملاح... ولن يخطر ببالهم ذلك فهل يستطيعون أن يقفوا أمام البرلمان أو الصحافة ويعلنوا أنهم غير مسئولين عما يخصهم فى سوهاج؟؟
والنتائج:
أن شعور الجماهير فى أنحاء المحافظة تجاه الحكومة هو مزيج من اليأس والإحباط والغيظ والألم والشعور بالنبذ والتجاهل.
كما بدأت الجماهير تشعر بأن المحافظات التى ترعرع فيها الإرهاب مثل المنيا وقنا وأسيوط حظيت -كمكافأة- برعاية حكومية واهتمام بالخدمات والتصنيع لخلق فرص عمل حقيقية، وبقيت سوهاج عبئاً على الدولة لا ترى فيها الدولة أى شىء يشجعها على تقديم خدمات حقيقية للجماهير المستكينة الهادئة العاقلة التى لا تسمح -بطبيعتها- بنمو الإرهاب على أرضها وبذلك تكون الجريمة قد أثمرت وكوفئت وهذا بلا شك أكبر خطأ ترتكبه الحكومة.
■■
فماذا عن الدراما؟
غالبية المسلسلات والأفلام تقدم صورة سيئة جداً عن الصعيد، لدرجة أننى قابلت منذ ربع قرن رجلاً وزوجته حضرا يبكيان من بورسعيد مع ابن لهما تم قبوله بفرع الجامعة بسوهاج، ومع أن الطالب قُبل بالمدينة الجامعية فقد ظل والداه فى فندق لمدة أسبوع يبكيان حتى اطمأنا -بصعوبة- على ابنهما بعد أن وجد له زملاء من المنوفية والقليوبية، لأنهما ظنَّا أنه سيقيم فى غابة من الوحوش!!!
ويمكننا أن نلخص تلك الصورة القميئة درامياً للصعيد فى النقاط الآتية التى تعكس (فقر الفكر) و(ضحالة المعرفة) لدى كُتاب تلك الدراما من خلال:
1- القضية المتكررة درامياً فى الأعمال التى تناولت الصعيد هى (تجارة المخدرات) و(القتل) وتجارة السلاح ليل نهار وهذه صورة لا وجود لها فى الواقع حالياً نهائياً إلا فى الدراما.
2- صورة العمدة الجاهل والغفر المتخشبين المتخلفين. وهذه صورة لا وجود لها فى الواقع حالياً نهائياً إلا فى الدراما.
3- صورة العائلات ذات البطش المفرط التى تغتال خصومها وهذه صورة لا وجود لها فى الواقع حالياً نهائياً إلا فى الدراما.
4- اللغة الغريبة التى يتحدث بها الممثلون لا وجود لها فى الواقع حالياً نهائياً إلا فى الدراما.
5- صورة المرأة المتوحشة القاسية التى تحرض أبناءها على الثأر وهذه صورة لا وجود لها فى الواقع حالياً نهائياً إلا فى الدراما.
■■
إن مشاكل الصعيد الحقيقية حالياً هى البطالة وسط توحش الرأسمالية فى الشمال وترك الصعيد بلا تنمية وبلا فرص عمل. وهذا ما يجب أن يلتفت إليه سادتنا السكارى ممن يكتبون عن حياتنا من فنادق النجوم الخمس التى يقيمون بها فى القاهرة.