جابر عثرات الكرام.. يتخفى على "تويتر" ليصحح الأخطاء اللغوية
وسط زحام المرور الخانق أو ساعات الانتظار الملولة، يخرج هاتفه المحمول متابعا حسابات موقع «تويتر»، يرى تغريدة لموقع إخباري شهير: «استعدادات لاجلاء المدنيين من حمص، فيرد عليهم: يرجى مراعاة الهمزة، إجلاء بدلا من اجلاء».
يسمونه «الجدع بتاع الهمزات»، لأنها أكثر ما يعلق عليه، أو لأنها أكثر ما يُخطئ فيه أغلب من كتب، يجد متعته الشخصية في تلك المساحة في يومه الذي يقضيه على تويتر، متابعا عن كثب كل صغيرة وكبيرة تُنشر، سواء آراء شخصية أم تقارير وأخبار صحفية، يحز في نفسه كم الأخطاء اللغوية التي يراها متداولة دون مصحح، لذا اختار لنفسه حسابًا وهميًّا على تويتر أسماه «جابر عثرات الكرام»، وأضاف له وصفا «عندما تختار أن تتابعني فهذا يعني ضمنا أنك تتقبل وجودي في حياتك الافتراضية نوعًا من مراقبة الجودة اللغوية على تغريدك، إذا كنت تغرد بالعربي»، مستعيرا هذا الاسم الفصيح من قصة تراثية عن بطل مقنع، أحد أولئك الذين يؤمنون أن فعل الخير هو حق وليس الشر، ما يتطلب منه التخفي، ليس فقط على سبيل النكران المتواضع للذات لكن إلى حد التضحية الصامتة بتلك الذات.
هو مصري المهد والنشء، لم يتجاوز منتصف الثلاثينات عمرا، يرفض الإفصاح عن شخصيته الحقيقية ولامهنته، فالغموض جزء من شخصية جابر لا يتجزأ عنها، وهو السمة الأساسية التي تتيح له تمرير رسائله، لكنه يؤكد أن مهنته «عملية» بعيدة كل البعد عن اللغة العربية أو أي لغة أخرى، علاقته الدراسية للعربية توقفت عند المرحلة الثانوية، غوايته للغة قديمة وربما عصية عن التتبع لكن ربما تكون القراءة المبكرة سببًا أساسيًّا في اهتمامه باللغة، استنبط فكرته من وجهة فلسفية ظلّت ملحة على باله: الأخطاء قد لا تبدو كذلك إلا عندما نصمت عنها كلما تكررت، فإن قرأ تغريدة -هكذا يسمي المدونون تعليقاتهم القصيرة على تويتر- وتغاضى عن خطأ لغوي فيها، فإنه يساعد، رويدًا رويدًا دون أن يشعر، على ترسيخ هذا الخطأ، فلا يعود حينئذ للصواب وجود.
البعض على «تويتر» رآه مجرد شخص لا يجد ما يشغل به وقته، آخرون اعتبروه من هؤلاء الذين يهتمون بالشكل على حساب المضمون، فها هو يترك تعليقاتهم بما رحبت من محتوى سياسي ليمسك في لغتهم وتعبيراتهم، يضحك جابر، فلطالما كان هذا جزءًا من المبدأ الذي يحاول أن يرسخه جابر العثرات «اللغة كمعيار للحقيقة التي ننقلها، للمنطق الذي نعرض به أفكارنا، وكإطار نتواصل خلاله».
ينأى «جابر عثرات الكرام» بنفسه عن السياسة، وإذا مسها، يكون من بعيد، ودائمًا من خلف حجاب اللغة، يتابع بترقب لغة المترشحين الرئاسيين، يقول متحمسا «لو أعطينا اللغة قدرها، كما كان القدماء يقدرونها، ربما عندئذ لم يكن تصل بنا الحال إلى هذه الدرجة التي فيها يتم الإعلان عن أحكام القضاء نفسه؛ عنوان الحقيقة كما توصف، بهذه الركاكة اللغوية والسقطات النحوية الجلية»، تسوقه ذاكرته الثرية بالمواقف اللغوية إلى نادرة التقطتها من التراث، كان الجاحظ قد أوردها، لقد منع زياد بن أبي سفيان الحق عن صاحب حق اغتصبه منه أخوه، عندما رفع شكواه إليه، فيها ما فيها من أخطاء النحو، حينها قال له موبخا: "ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع من ميراث أبيك، فلا رحم الله أباك حيث ترك ابنًا مثلك".
جابر لا يقوم بتصويب إلا تغريدات متابعيه، لكن هذا الشرط لا يُلزم جابر به نفسه في حالة المنابر الإخبارية، والإعلامية، والحكومية الرسمية، في حساباتها على تويتر، وفي أحيان قليلة يتلقى شكرًا أو ابتسامة من المؤسسات الصحفية، لكنه يجد ألفة أكثر مع المتابعين، الذين يقومون بالسؤال والاستيضاح وعبارات الثناء والشكر والترحيب، وأنهم قدروا في جابر العثرات ما كان ينبغي عليهم أن يقدروه في ذواتهم أولا، وهو ليس القدرة على تصويب الخطأ، لكن الرغبة في الالتزام بالصواب، تبلغ أفضل لحظات التواصل ذروتها، فيما يسميه الألعاب، يلقي سؤالا لغويا في الإعراب أو المترادفات أو أصول الكلمات أو أي شيء يمت اللغة بصلة ما وينتظر تعليقاتهم عليه، ويثني على متتبعيه، الذين
يسأله أحدهم على تويتر، وما أكثرهم؛ حيث يكثر السؤال والجواب والاستفسار وتصحيح الأخطاء: «إزيك يا عم جابر؟ هل كلمة (إزيك) العامية المصرية لها أصل في الفصحى؟»، ليرد جابر عثرات الكرام: «في اللغة (الزَّي) هو الهيئة أو الحال.. فالسؤال غالبا: ما هو زيك؟ أي كيف هي حالك؟ وفي العامية أيضًا (رُحت أزاي؟) أي بأي حال ذهبت؟».