خالد منتصر يعيد نشر مقال الدكتور فؤاد زكريا.. «ميكروفون الجامع»
ميكروفونات الخطبة.. حاضرة دائماً فى ساحات الصلاة
أعتذر للقارئ الحريص على سلامة اللغة العربية من استخدام لفظ أعجمى (الميكروفون) حيث يوجد بديل عربى فصيح لا يثقل على اللسان ولا يمجه الذوق هو (مكبر الصوت) غير أن استخدام اللفظ الأعجمى متعمد، بل هو مرتبط بالهدف المقصود من هذا المقال. فالظاهرة التى نود أن نحللها هى ذلك المزيج الفريد من الأعجمى والعربى، من الوافد الغريب والتراثى الأصيل، من التكنولوجى العصرى والإسلامى التقليدى، الذى يمثله «ميكروفون الجامع»، الميكروفون رمز لحضارة علمية تكنولوجية، حضارة الغرب الحديث الذى بدأ يسعى منذ القرن السابع عشر إلى كشف قوانين الطبيعة وإيجاد الصيغ الرياضية المعبرة عنها، ولكنه لم يجعل من هذا الكشف معرفة خالصة، أى معرفة لأجل المعرفة، وإنما اتخذ لنفسه منذ مطلع العصر الحديث شعار المعرفة من أجل القدرة، أعنى تسخير المعرفة النظرية من أجل زيادة قدرة الإنسان وسيطرته، وكما يعرف الجميع، فقد مورست هذه السيطرة على الطبيعة أولاً، ثم مورست بعد ذلك مباشرة على الإنسان: أعنى أن العلم نفسه الذى كشف أسرار الطبيعة، وسمحت تطبيقاته بالسيطرة عليها، هو الذى أعان الغرب على قهر البشر فى مناطق شاسعة من العالم، فيما أصبح يعرف باسم ظاهرة الاستعمار، وهى كلمة نسى معناها الأصلى، الإيجابى، المشتق من الإعمار، ولم تعد تثير فى الأذهان إلا أشد المعانى سلبية، بعد أن ارتبطت بالقهر والاستغلال الذى مارسه الغرب المتفوق علمياً وتكنولوجياً على شعوب العالم التى لم تكن قد اكتسبت معرفة من أجل القدرة.
نترك الغرب يكابد عناء الكشف العلمى والبحث عن تطبيقاته التكنولوجية ويتحمّل مخاطر التوصّل إلى المبتكرات والمخترعات الجديدة.. ونحن نقتبسها منه ونستعين بها فى دعم نموذجنا الخاص السلفى فى الحياة
فى هذا الإطار ظهر الميكروفون الذى هو شأن كل المخترعات التكنولوجية سليل مجموعة كبيرة من الكشوف العلمية النظرية فى ميدان الفيزياء، خاصة علوم الصوت والكهرباء والمغناطيسية، وما ترتب عليها من تطبيقات علمية، جعلته واحداً من أشقاء المذياع والمسجل وغيرهما من المخترعات التى غيرت وجه الحياة العصرية، إنه ظاهرة تنتمى أصلاً إلى صميم الحضارة الغربية الحديثة، ولا تفهم إلا فى ضوء المبادئ الأساسية التى بنيت عليها هذه الحضارة، ولكن الميكروفون عندنا يستخدم فى الجامع فى محراب العبادة، وفى تلك المساحة المكانية التى يعبر فيها الناس المنتمون إلى حضارة أخرى مختلفة كل الاختلاف عن أعمق ما فى قلوبهم من مشاعر الإيمان، ويمارسون فيها مشاعر العبادة التى تقيم جسراً روحياً بين الإنسان فى الأرض والرب فى السماء.
فى ميكروفون الجامع إذاً تلتقى الثقافتان، وتفصح كل منهما عن جوهرها ومكنونها، إنه البديل العصرى لذلك النداء الذى ظل يدعو الناس على مدى أكثر من ثلاثة عشر قرناً، إلى لحظة التواصل الروحانى العميق خمس مرات كل يوم بصوت بشرى يسعى إلى توسيع مداه بالصعود إلى أعلى مكان يمكن تصوره طوال تلك العصور، أعنى إلى المئذنة، ولكن حراس التقاليد العريقة ودعاة العقيدة الأصيلة يكتشفون أن حضارة أخرى، لها دين غير دينهم، وتراث غير تراثهم، قد اهتدت إلى طريقة مغايرة لنشر الصوت على نطاق أوسع بكثير، وتضخيمه إلى حد أكبر بكثير، دون أن يعانى أحد مشقة ارتقاء درجات السلالم المرهقة الموصلة إلى المئذنة خمس مرات كل يوم، فرحبوا بهذا الكشف واقتبسوه ولم يجدوا غضاضة فى إدخال الأجنبى والأعجمى والوافد والمستورد إلى قدس أقداسهم، ما دام يجلب لهم الراحة، ويوفر عليهم كثيراً من العناء، إنها، كما قلت، حالة نموذجية لالتقاء ثقافة روحية عميقة الجذور بثقافة علمية مستحدثة، فعلى أى نحو ينبغى أن نفسر هذا الالتقاء؟
لو تأملنا تفنّن بعض المساجد فى رفع أصوات ميكروفوناتها وإطالة فترة أذان الفجر وما يليها من مدائح وتسابيح دون رحمة بمريض فى مستشفى قريب لا شفاء له إلا مع النوم المريح لأدركنا مدى تشويهنا نتائج التكنولوجيا التى نقتبسها دون فهم لأغراضها الحقيقية
لو طرحنا هذا السؤال على من سعوا إلى هذا الاقتباس لكانت إجابتهم المؤكدة هى أنهم استمدوا من ثقافة الغرب العلمية ناتجاً من نواتجها. ولكنهم وظفوه لخدمة عقيدتهم ولم ينجرفوا وراء أصحاب الاختراع، بل لعلهم يرون فى هذا الاقتباس نموذجاً لما ينبغى أن تكون عليه علاقتنا بحضارة الغرب: فهى حضارة لا نستطيع تجاهل إنجازاتها لأنها أصبحت حقيقة واقعة تحيط بالإنسان أينما كان، ولأن منافعها وقدرتها على تيسير الحياة وإثرائها أمر لا يمكن إنكاره. ولكنها من جهة أخرى حضارة محملة بقيم مغايرة لقيمنا، ومسايرتها يمكن أن تجلب لمقومات حياتنا الأصيلة أوخم الأضرار. إذاً فالحل هو ذلك الذى يقدمه نموذج ميكروفون الجامع: فنجلب الاختراع الذى عانت أجيال غربية كثيرة فى سبيل اكتشافه، إلى أرضنا، ونزرعه فى تربتنا، ونوظفه من أجل تثبيت قيمنا وأصالتنا ودعم عقيدتنا. بهذا المعنى يمكن أن يقال، من زاوية معينة، إننا هزمنا أولئك الذين اخترعوه، لأننا بدلاً من أن نستخدمه من أجل توطيد أركان الحياة العصرية التى يريدون نشر قيمتها فى بلادنا، قد اتخذناه وسيلة لتأكيد أعمق العناصر فى موروثاتنا.
هنا يغدو ميكروفون الجامع مثلاً واحداً لاتجاه كامل له مظاهر متعددة ومتنوعة فى حياتنا المعاصرة، وأعنى به الاتجاه إلى الاستعانة بأحدث مكتسبات الحضارة الغربية من أجل تدعيم نمطنا الخاص فى الحياة، والحياة الروحية بوجه خاص، وهو نمط مغاير لتلك الحضارة الغربية بصورة جذرية. فلدينا مثلاً ساعات حديثة، صنعت فى بلاد لا تدين بديننا، تشير عقاربها إلى مواعيد الصلاة فى أى مكان فى العالم. وهناك من مبعوثينا فى الخارج من أفنوا سنوات طويلة من أعمارهم فى محاولة لتفسير فواتح الآيات فى القرآن (الم، الر.. إلخ) باستخدام الحاسب الآلى (الكمبيوتر) وهناك شركات هندسية غربية كبرى يستعان بخبرائها فى تطبيق أحدث الأساليب الإحصائية والهندسية من أجل ضمان السيولة وتحقيق الأمان فى حركة الحجاج بالأماكن المقدسة خلال موسم الحج.
والأمثلة عديدة، غير أنها تشير كلها إلى حقيقة واحدة هى أننا لا نجد بأساً فى الاستعانة بأحدث إنجازات التكنولوجيا الغربية من أجل تدعيم أقوى معتقداتنا الروحية وأشدها تأصلاً فى أعماق تاريخنا. فنحن نترك الغرب يكابد عناء الكشف العلمى والبحث عن تطبيقاته التكنولوجية، ويتحمل مخاطر التوصل إلى المبتكرات والمخترعات الجديدة، ونحن نقتبسها منه، نستعين بها فى دعم نموذجنا الخاص فى الحياة، وفى تأصيل قيمنا وعقائدنا، وبذلك تتحقق لنا السيطرة على كل ما نقتبس، ونؤكد أنفسنا بعمق فى مواجهة التفوق العلمى والتكنولوجى للغرب.
هذا على الأرجح، هو التفسير الذى يأخذ به أولئك الذين يحبذون هذا الاقتباس، فيضعون الميكروفون الغربى فى قلب الجامع الإسلامى، ويستعينون به فى تأدية أشد الشعائر الدينية قداسة. ولكن هل هذا هو التفسير الوحيد؟
لم يقل السلفيون عن «الميكروفون» إنه «بدعة» طوال التاريخ الإسلامى أو اختراع جاء من بلاد الكفار ويعتبرون استخدامه فى الصلاة فريضة
فى تصورى أننا لو تأملنا ظاهرة ميكروفون الجامع من زاوية أخرى لا تمثل وجهة نظر المقتبسين أنفسهم، لبدت لنا هذه الظاهرة فى ضوء مختلف كل الاختلاف. ذلك لأن المقتبسين، فى الحالة التى نحن بصددها، منتفعون، أعنى أن الميكروفون قد أراحهم من عناء الصعود إلى أعلى المئذنة خمس مرات فى اليوم، من جهة، كما ساعدهم، من جهة أخرى، على تضخيم أصواتهم وتقديمها بصورة تبدو معها كما لو كانت أصواتاً تعلو على مستوى البشر، مما يضفى على الأذان طابعاً ملائماً للهدف الشعائرى الذى يسعى إلى تحقيقه. غير أننا لو تركنا المنتفعين جانباً، وتأملنا الظاهرة بروح أكثر حياداً، لبدت لنا كاشفة عن متناقضات حضارية صارخة تعانى منها حياتنا المعاصرة، ويعبر عنها كلها ميكروفون الجامع تعبيراً رمزياً، ولكنه بالغ الدلالة. فثمة تناقض يكمن فى صميم تفسيرنا لتعاليم الدين ومدى تمسكنا بحرفيته أو ممارستنا للاجتهاد فى فهمه، ذلك لأن من يستعينون بميكروفون الجامع يبدون فى ذلك قدراً كبيراً من التسامح واتساع الأفق، ويمارسون قدراً لا يستهان به من التحرر فى مواجهة تراث طويل الأمد ظل طوال الجزء الأكبر من التاريخ الإسلامى يؤدى الأذان بالطريقة التقليدية ويستعين بالصوت البشرى المباشر الذى لا يتوسط شىء بينه وبين آذان المستمعين. ولكن هؤلاء أنفسهم هم الذين يرفضون أن يتزحزحوا قيد أنملة عن التفسير الحرفى حين يتعلق الأمر بمسائل مثل رؤية الهلال، وهل يكون بالعين المجردة أم بالحسابات الفلكية، أو مثل إعطاء المرأة بعض الحقوق الإنسانية فى قوانين الأحوال الشخصية.
ولو طبقنا على ميكروفون الجامع نفس المعايير المتزمتة التى تطبق فى الحالات الأخرى، لكان من الواجب، بناء على هذه المعايير ذاتها، أن نجد من يرفضه رفضاً قاطعاً، فيقول: إن هذه بدعة لم يعرفها الإسلام طوال تاريخه، أو إن هذا اختراع جاء من بلاد الكفار، وإذا جاز استخدامه فى أغراض الترفيه واللهو فإن إدخاله فى أماكن العبادة وإقحامه فى صميم شعائرنا المقدسة، حرام فى حرام، وربما قال قائل إن الصوت البشرى الطبيعى الذى ظل ينبه الناس إلى مواعيد الصلوات الخمس عبر قرون عديدة، يحمل نغماً عاطفياً وانفعالياً مباشراً، ويصل بين قلب المؤذن وقلب المؤمن المصلى، على نحو يعجز عنه ذلك الجهاز المصطنع الذى يقحم نفسه بين هذا وذاك.
«ميكروفون الجامع» رمز مصغّر للطريقة التى تتلاقى بها الثقافة الغربية العلمية والتكنولوجية مع ثقافتنا التراثية وفى الوقت ذاته مظهر واضح من مظاهر إخفاقنا فى الانتفاع من نواتج العبقرية البشرية من أجل دفع عجلة تقدمنا إلى الأمام
غير أننا فى واقع الأمر لا نسمع اعتراضاً واحداً يوجه إلى ميكروفون الجامع على هذا النحو، مع أن هذا هو السلوك المتوقع بين المتزمتين والمتمسكين بحرفية التراث، لو شاءوا أن يكونوا متسقين مع أنفسهم، فهنا يصبح التجديد الذى يصل إلى حد البدعة مقبولاً، وفى الحالات الأخرى يغدو مرذولاً، ولو تساءلنا عما أحدث الفارق بين هذا وذاك لوجدنا أنفسنا مضطرين إلى القول إن أصحابنا يتساهلون فيما يحقق لهم مصلحة (الجلوس باسترخاء فى ساحة الجامع بدلاً من عناء صعود الدرج مرات عديدة كل يوم)، على حين أنهم يتشددون ويتزمتون حين يتعلق الأمر بمصلحة الآخرين.
على أن التناقض الأكبر هو ذلك الذى تكشف عنه النتائج المترتبة على استخدامنا لهذا الاختراع الحديث فى أداء أهم شعائر العبادة فى عقيدتنا. ذلك لأن الغرب الذى ابتدع هذه الاختراعات، كان منذ بدء اتباعه لمبدأ المعرفة من أجل القدرة، يستهدف توسيع نطاق القدرة الإنسانية، وتوفير طاقة الإنسان ووقته، فى كل اختراع يتوصل إليه. وهذه النتائج لها، بطبيعة الحال، تأثير تراكمى. فإذا أمكن مثلاً توفير الوقت والجهد الذى يبذله الباحث فى جمع المعلومات والمراجع والمواد العلمية، عن طريق الحاسب الآلى، فإن هذا الباحث سيجد مزيداً من الوقت والطاقة للجانب الابتكارى فى بحثه، مما يؤدى إلى ارتفاع مستوى هذا البحث، فينعكس ذلك إيجابياً على مستوى الكشوف النظرية أو التطبيقات العلمية التى يقوم بها هو وأمثاله، ويؤدى ذلك إلى توفير مزيد من الوقت والجهد على الآخرين، وهلم جرا. ومن هنا فإن الاستخدام السليم للعلم والتكنولوجيا يـؤدى إلى حركة تصاعدية لا تنقطع، فى المجتمعات التى تمر بتجربة الكشف والاختراع.
أما فى مجتمعاتنا التى تتلقى ثمار هذه التجربة جاهزة ولا تعرف الخبرة والمعاناة المرتبطة بالكشف العلمى والاختراع التكنولوجى فإن هذه الإنجازات يمكن، فى أحيان غير قليلة، أن تسفر عن نتائج عكسية، ولا جدال فى أن ميكروفون الجامع من أبرز الأمثلة على ما نقول، فهذا الميكروفون، الذى هو من وجهة النظر الدينية الخالصة بدعة لم يعرفها الأوائل ولا معظم الأواخر، يستخدم من أجل إقلاق راحة الإنسان وحرمانه من النوم ومن الهدوء النفسى والعصبى الذى هو شرط ضرورى لاستمرار قدرته الإنتاجية، ولو تأملنا تلك الأصوات المتداخلة والمتنافرة، التى تقضى على جلال فكرة الأذان ذاتها، والتى تنبعث من عشرات الميكروفونات وتحاصر الإنسان بضجيج يصعب تمييز كلماته، لو تأملنا تفنن بعض المساجد فى رفع أصوات ميكروفوناتها وإطالة فترة أذان الفجر وما يليها من مدائح وتسابيح، دون رحمة لمريض فى مستشفى قريب لا شفاء له إلا مع النوم المريح، أو لعامل يود أن ينال قسطاً كافياً من الراحة حتى يستطيع أن يبدأ يومه الجديد بعمل مثمر يعود على أبناء مجتمعه وعقيدته بالخير ويسهم فى تقدم أمته، لو تأملنا ذلك لأدركنا مدى تشويهنا لنتائج التكنولوجيا التى نقتبسها دون فهم لأغراضها الحقيقية، ولتبين لنا أننا يمكن أن نستخدم المخترعات الحديثة لا من أجل القضاء على التخلف، بل من أجل تأكيده ومضاعفته. إن ميكروفون الجامع رمز مصغر للطريقة التى تتلاقى بها الثقافة الغربية العلمية والتكنولوجية مع ثقافتنا التراثية، ومن أسف أنه، فى الوقت ذاته، مظهر واضح من مظاهر إخفاقنا فى الانتفاع من نواتج العبقرية البشرية من أجل دفع عجلة تقدمنا إلى الأمام. إنه فى كلمة واحدة، تلخيص بسيط، واضح، مكثف، لأزمتنا الحضارية.