أسرة الشهيد ناصر عياد تنعى فقيدها بالبكاء والصراخ: «كانت صدمة كبيرة علينا»
أهالى «عياد» يتحدثون لمحرر «الوطن»
عويل وصراخ مصحوبان بحركة لم تهدأ طوال يوم أسود مر على سكان قرية «دير الجرنوس» التابعة لمركز مغاغة بمحافظة المنيا، وفى ذلك الشارع الضيّق، أحد شوارع القرية، وقف سكانه، كلٌّ أمام باب بيته، وقد كست وجوههم تعابير حزن خيّمت عليهم جراء صدمة لم يستوعبوها بعد، حيث فقد شارعهم الصغير شاباً فى بداية عقده الرابع، شهدوا له جميعاً بسيرته الطيبة وحسن خلقه، وعلى بُعد أمتار قليلة، حيث ارتفع صوت البكاء والصراخ، كانت بوابة خشبية كبيرة فُتحت على مصراعيها، وفى الداخل كانت أسرة الشهيد ناصف عياد، أحد ضحايا الحادث الإرهابى.
أم الشهيد: «كان قاعد معانا فى البيت.. وهو اللى بيصرف علينا.. ومش هاقول غير ربنا يسامحهم»
طرقة ترابية واسعة لم تخلُ من مرتادى العباءات السوداء، كلٌّ ارتكن فى جانب منها، وفوق تلك الأريكة الخشبية، على اليسار من باب المنزل، كانت نوال فرج الله، زوجة الشهيد، تحمل بين يديها طفلتها التى لم تتخطَ شهرها الثانى بعد، تارة تبكى الزوجة وتارة أخرى تُهدهد طفلتها الصغيرة، فى محاولة بائسة منها لإسكات بكائها المستمر، وكأنهن يتشاطرن الحزن معاً على زوج وأب فقدوه بين ليلة وضُحاها، تقول: «كنت عند الدكتور إمبارح بالليل أنا وجوزى ورجعنا متأخرين، واشترينا مع بعض أكل، صحى من النوم وكان عامل حسابه إنه يزور دير الأنبا صموئيل، علشان بيعمل شوية شغل هناك فى الدير، فطر معانا، وفضل يبوس فى بنته الصغيرة اللى لسه ماكملتش الـ80 يوم، وبعدها مشى، مفيش ساعة، ولقيت الناس بتجرى فى الشارع، وبيقولوا إن العربية اللى راكب فيها جوزى عملت حادثة، وفضلت أجرى معاهم وعرفت بعدها أن فيه مجموعة من الإرهابيين قتلوه هو والناس اللى كانوا معاه».
أعوام ستة قضتها «نوال» زوجة لـ«ناصر»، لم ترَ منه مكروهاً، على حد قولها، اللهم إلا بعد الأزمات البسيطة فى الأيام الأخيرة، التى عرفت طريقها إليهم، نتيجة غلاء الأسعار، خصوصاً أن الشهيد كان يعمل باليومية، لتنظر الزوجة إلى طفلتها فى حجرها وتمسح من على وجهها دموعها المتساقطة عليها، وتقول: «إيه ذنب البنت الصغيرة دى اللى لسه (ماتعمدتش)، إنها تتحرم من أبوها، إحنا غلابة ومالناش حد غير ربنا بعد ما جوزى مات، وربنا وحده هو اللى يعلم بحالنا».
وزوجته: «نظرى ضاع بعد ما جوزى مات ومابقتش شايفة قدامى.. ومش عارفة أنا وأولادى هنعمل إيه»
عيون «نوال» أوشك نورها أن ينطفئ بسبب المياه البيضاء التى تملأها لتزداد هذه المياه بسبب الحزن على وفاة زوجها، فتقول: «أنا نظرى خلاص ضاع بعد ما جوزى مات، ومابقتش شايفة قدامى، والله أنا مش عارفة أنا وأولادى هنعمل إيه بعد ما جوزى مات، ربنا كبير ورحمته واسعة، وهو عارف وحاسس بينا وبحالنا».
مدخل البيت لم يخلُ من «الباكيات الصارخات» طوال حديث الزوجة، فهذه زوجة الأخ تنعى فقيد البيت بأعلى صوتها المبحوح من كثرة الصراخ طوال اليوم، وعلى يسارها جلست جارتها تشاطرها حزنها بالبكاء تارة والصراخ تارة أخرى، وتطييب الخاطر تارة ثالثة، حال لم يتغير، بينما كان فى الداخل مشهد آخر، حيث الغرفة المجاورة لمدخل البيت، فيها اختلفت طريقة الحزن وإن كانت المشاعر واحدة، فعلى يسار باب الغرفة، جلست تلك العجوز، وقد أضفت عليها عباءتها السوداء مزيداً من وقار العمر المنقضى، وكأن عقود عمرها السبعة أشبعتها حزناً على من فارقتهم، لتستقبل صدمة فقدان ابنها الأكبر برضا لم يظهر على غيرها.
«إحنا مابنخافش من اللى يقتل الجسم، لكن بنخاف من اللى بياخد الروح».. كلمات كانت كافية لتعبر بها «نرجس متاى»، والدة الشهيد «ناصر» عما بداخلها من صبر على فجيعتها فى فقدان ابنها، لتُكمل حديثها بنبرة هادئة، وتقول: «ابنى ماكانش ليه فى حاجة، وكان من الشغل للبيت، ومفيش فى إيدى حاجة غير إنى أدعى ربنا إنه يساعدنا ويصبّرنا، ومش هاقول حاجة غير إن منهم لله اللى بيقتلوا نفس بريئة من غير ذنب، لأنهم كده مش بيحاربونا إحنا، هما بيحاربوا يسوع، واللى بيحارب يسوع لا يمكن يكسب».
لم تعرف «نرجس» بما حدث لابنها فى الوقت الذى عرف فيه كل من حولها، حيث لم يخبروها باستشهاده إلا بعد ساعات من علمهم بالأمر، وهو ما أوضحته الأم فى حديثها لـ«الوطن»، مشيرة إلى أن «ناصر» كان ابنها الأكبر على ابنين آخرين، أحدهما يعانى من إعاقة ذهنية، والآخر لا يعمل، لتضيف قائلة: «ناصر ابنى كان قاعد معايا فى البيت، وكان هو اللى بيصرف علينا، واللى هيساعدنا من بعده ربنا»، أطفال ثلاثة تركهم «ناصر» لزوجته وأمه، ابنه الأكبر لم يبلغ عامه الخامس بعد، وطفلة أخرى تخطت العام بشهور، وثالثة لم تبلغ شهرها الثانى بعد، وهو أكثر ما أحزن الأم التى أصبحت مسئولة عن أحفاد ثلاثة بلا أب، لتختم حديثها، قائلة: «مش هاقول غير ربنا يسامحهم على اللى عملوه، لأن ربنا دين محبة، وحقنا ربنا هو اللى هياخده، ومش هيسيبه».
ولم يكن خبر الحادث الإرهابى واستشهاد «ناصر» بمثابة صدمة لأسرته فحسب، وإنما شكّل صدمة للجيران أيضاً، وهو ما أوضحته الثلاثينية «هناء عزيز»، التى وقفت بجوار أم الشهيد تحمل على يديها طفلته الوسطى، بعد أن جاءت تواسيهم فى مفقودهم، لتتحدث بنبرة مرتفعة عبرت عما بداخلها من غضب، قائلة: «ناصر كان طيب وغلبان، وكان هو اللى بيساعد أمه فى مصاريف البيت كله، علشان كده لما عرفنا الخبر مارضيناش نقول لها خالص علشان كنا خايفين عليها يجرى لها حاجة»، لتُنهى حديثها، قائلة: «ربنا عمره ما يرضى بحاجة زى دى، ودول عالم ماليهم الشر ومايعرفوش حاجة عن المحبة أو التسامح، علشان كده ربنا هينتقم منهم».
زوجة ناصر عياد