«الحسن بن على».. تنازل عن الخلافة لـ«معاوية» حفاظاً على الأمة.. وتحمل الأذى حتى لا يتجدد الصراع
الحسن بن على
شهد التاريخ الإسلامى نماذج مشرقة للتسامح والحلم ودعاة السلم الاجتماعى، ولم يكن كما يعتقد الكثير تاريخ دماء وحروب، وكان أبرز هذه النماذج الإمام الحسن بن على بن أبى طالب، حفيد النبى والخليفة الراشد الذى ولى الخلافة بعد اغتيال أبيه الذى خاض معارك عديدة دفاعاً عن شرعيته، ووقعت الفتنة الكبرى بين الصحب والأتباع، وحضر معاوية بن أبى سفيان غريم أبيه، الذى رفض البيعة للحسن بن على، بجيش الشام إلى الكوفة ليحسم الصراع مع الابن، واحتشد جيشا الشام والعراق بكامل عدتهما وعتادهما متواجهين وعلى أتم استعداد لإفناء بعضهما البعض، فتنبه الحسن بن على أن هذه معركة لا منتصر فيها، وأن مع بدئها البداية الحتمية لفناء الأمة الإسلامية، فكل الأمة فى جيشين، ولم يكن الحسن وحده من وعى هذا بل لقد تنبه له خصمه معاوية، يروى الحسن البصرى قال: «استقبل والله الحسن بن على معاوية بكتائب مثل الجبال فقال عمرو بن العاص: إنى لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية -: أى عمرو! إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لأمور المسلمين، من لنسائهم، من لبضيعتهم؟».
أنهى «الفتنة الكبرى» بين الصحابة
إن كلا القائدين متيقن من المأساة فمن سيمنعها؟
قبل لحظات قليلة من بدء المعركة قام قائد الجيش الذى كالجبال -الحسن بن على- فى جيشه خطيباً والجنود فى منتهى اللهفة لخطاب حماسى يلهب المشاعر ويذكر بالحقوق ويحث على البسالة فى القتال، فقال «قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلى بين معاوية وبين هذا الأمر (أى أمر الحكم) فقد طالت الفتنة وسفكت فيها الدماء وقطعت فيها الأرحام وقطعت السبل وعطلت الثغور.... يا أيها الناس إنى كنت أكره الناس لأول هذا الأمر وأنا أصلح آخره، إنى جدت بحقى لصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم» لقد تنازل الخليفة الشرعى المنتخب عن حقه فى الخلافة ليمنع هلاك أمة محمد وليضع حداً لقتال استعر بين المسلمين لسنين عديدة.
أذهلت الصدمة جيش الحسن بينما تفهم البعض، فالعقلانية والإنسانية والضمير والتسامح صفات ليست بجديدة على الحسن، فقد كان حب أتباعه له أكبر من حبهم لأبيه، كما يقول ابن كثير، وذلك لما اشتهر به من زهد وورع وصلاح، والكل يعلم أنه ليس بالجبان فقد عهدوا شجاعته مرات عديدة، منها حين أحاط المحتجون ببيت الخليفة عثمان بن عفان فى عام 35هـ كان الحسن من بين قليلين تباسلوا فى الدفاع عنه حتى أشفق عليه الخليفة الشهيد ذو النورين عثمان بن عفان وطالبه بأن يكف عن الدفاع عنه خوفاً عليه لأنه ثانى اثنين يحملان السلالة النبوية الطاهرة ولا يريد أحد لها أن تضيع.
اشتهر بالزهد والورع وكراهية الحروب والدماء.. وحقق بشرى النبى بأن يكون جامعاً لأمر الأمة
لقد تحرك الحسن من منطلق ضميره الحى وعقله الثاقب وحنكته السياسية التى بها يرى مآلات الأمور، لقد كان الحسن إنساناً راقياً سامياً شديد العداء بطبعه للحروب والدماء، وكان يجاهر برفضه لها أمام الجميع، فقبل موقعة الجمل التى وقعت فى البصرة عام 36 هـ بين قوات أمير المؤمنين على ابن أبى طالب والجيش الذى يقوده الصحابيان طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، بالإضافة إلى أم المؤمنين عائشة حاول مراراً ثنى والده عن خوضها ثم حاول منعها، فدخل على أبيه وهو باكٍ لا يخفى حزنه وتأثره وقال الحسن لوالده: قد أمرتك فعصيتنى، فقال على: إنك لا تزال تخن خنين الجارية (خن: أخرج الصوت من خياشيمه)، وما الذى أمرته فعصيته؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة، فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل أن لا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان (يعنى طلحة والزبير)، ما فعلا أن تجلس فى بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدى غيرك، فعصيتنى فى ذلك كله... «بكى الشاب المسالم بصوت مسموع حزناً على ما سال من دماء، وقد دافع الأب عن نفسه فى حوار نموذجى.
لقد كان الوالد على والأخ الحسين هما كل حياة الحسن من بعد وفاة أمه الزهراء فاطمة بنت النبى صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين، وقد كان منكباً على العبادة والطاعة حتى اشتهر بعبادته، واشتهر أكثر بكرمه وسخائه العظيمين يقول عبدالله بن عباس: «لقد حج الحسن بن على خمساً وعشرين حجة ماشياً، ولقد قاسم الله ماله ثلاث مرات، حتى إنه يعطى الخف ويُمسك النعل» وذكروا أنه رأى غلاماً فى حائط (بستان) من حوائط المدينة يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلباً لقمة، فقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: إنى استحيى من أن آكل ولا أطعمه، فقال له الحسن: لا تبرح مكانك حتى آتيك فذهب إلى سيده فاشتراه، واشترى الحائط الذى هو فيه، فأعتقه وملَّكه الحائط، ولقد عده المؤرخون من أشهر أهل الجود والسخاء فى التاريخ الإسلامى.
وكان الحسن بن على أكثر دهره صامتاً هادئاً وديعاً يرفض أى تمييز له لأنه حفيد النبى ويقول: إننى لا أرضى أن أستفيد من مكانتى من رسول الله.
شرع من اللحظة الأولى لخلافته فى التمهيد للصلح والسلام العام لأمة أنهكتها الحروب والصراعات والحرب الأهلية، يروى الطبرى «اشترط الحسن بن على على أهل العراق عندما أرادوا بيعته فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت» يقول الصلابى «ويستفاد من الروايات السابقة ابتداء الحسن فى التمهيد للصلح فور استخلافه»
كان الحسن يؤمن بالشورى ويحث عليها وله فيها فهم راق، يقول: «والله ما تشاور قوم قط إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم» لم يقل الحسن إلا هداهم الله للحق، وإنما لأفضل ما يحضرهم، فالشورى ليست طريقاً للحق المحض فهو يؤكد على نسبيتها.
وقد ذكر ابن العربى أسباباً هيأت الحسن لقبول الصلح مع معاوية رضى الله عنه، حيث قال: (وعمل الحسن بمقتضى حاله فإنه صالح حين استشرى الأمر عليه وكان ذلك بأسباب سماوية ومقادير أزلية ومواعيد من الصادق صادقة منها: ما رأى من تشتت آراء من معه، ومنها: أنه رأى الخوارج أحاطوا بأطرافه، وعلم أنه إن اشتغل بحرب معاوية استولى الخوارج على البلاد، وإن اشتغل بالخوارج استولى عليه معاوية، ومنها: أنه تذكر وعد جده الصادق عند كل أحد صلى الله عليه وسلم فى قوله: (إن ابنى هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
ولما نزل الحسن عن الخلافة لمعاوية بايعه (الأمراء من الجيشين واستقل بأعباء الأمة فسمى ذلك العام عام الجماعة لاجتماع الكلمة فيه على رجل واحد) ولاجتماع المسلمين بعد الفرقة.
(ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها واجتمعت عليه الكلمة فى سائر الأقاليم والآفاق وحصل على بيعته عامئذ الإجماع والاتفاق - ورحل الحسن بن على ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم، وابن عمهم عبدالله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية، وجعل كلما مر بحى من شيعتهم يعنفونه على ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية) ودخل عليه أحد أتباعه قائلاً بفظاظة بالغة السلام عليك يا مسود وجوه المسلمين (يعنى بالصلح) فقال الحسن: لا تقل ذلك إنى خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض، فأردت أن يكون للدين ناعٍ، فقال الرجل بأبى أنت وأمى «ذرية بعضها من بعض»، وقال له آخر: يا مذل المؤمنين! فقال: لا، ولكن كرهت أن أقتلكم على الملك، وروى الذهبى فى السير أنه قيل للحسن: يقولون: إنك تريد الخلافة. فقال: كانت جماجم العرب فى يدى، يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها لله.
لقد تحمل الإمام الحسن الكثير من الأذى من أتباعه وخصومه وتلقى ذلك فى صبر وهدوء شديد، فكان يعارض بالصمت خوفاً من تفجر الأوضاع وعودة الفتنة، فعقب الصلح مباشرة بدأت مضايقات السلطة وظل يجاهدها بصمته وصبره حتى لا يراق دم مسلم، فنصف الأمة أنصاره وهو لا يريد للحرب أن تعود، يروى ابن عساكر فى تاريخ دمشق قَائلاً: كَانَ مَرْوَانُ بن الحكم أَمِيراً عَلَى المدينة لسِنِينَ، فَكَانَ يَسُبُّ عَلِياً كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقِيلَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِى: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ مَرْوَانُ؟ فَلَا تَرَدُّ شَيْئاً؟ فَكَانَ يَجِىءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَيَدْخُلُ حُجْرَةَ النَّبِى، فَيَكُونُ فِيهَا، فَإِذَا قُضِيَتِ الْخُطْبَةُ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ» لقد تعرض الحسن لأبشع الضغوط وأعطى صورة من أسمى صور المعارضة السلمية بكل نبل وشرف.
وكانت وصيته للحسين قبل وفاته سنة 50 هـ: ادفنى عند أبى، يعنى النبى إلا أن تخافوا الدماء، فادفنى فى مقابر المسلمين، فلما قبض، تسلح الحسين، وجمع مواليه، فقال له أبوهريرة: أنشدك الله ووصية أخيك، فإن القوم (يعنى الأمويين) لن يدعوك حتى يكون بينكم دماء، فدفنه بالبقيع، يقول أخوهم من أبيهم محمد ابن الحنفية، جعل الحسن يوعز للحسين: يا أخى، إياك أن تسفك دماً، فإن الناس سراع إلى الفتنة، ولما توفى، ارتجت المدينة صياحاً، فلا أحداً تلقى إلا باكياً كما نقلت كتب التاريخ.