بين الأَسْر والاستشهاد فى صحراء سيناء.. الأرض بتتنفس دم
«أمين» ممسكاً بـ«بنطلون جندى إسرائيلى»
ويلات حرب قاسية خلّفت ذكريات أليمة حفرت مكانها داخل رؤوس هؤلاء الجنود الذين بقوا على قيد الحياة رغم مرور خمسة عقود كاملة على «النكسة»، لم يتخيل أحد منهم ما رآه، ولم تكن الهزيمة ضمن قائمة توقعاته قبل أن يرتدى «أفروله» واضعاً سلاحه على ظهره فى طريقه إلى الضفة الأخرى من قناة السويس، ليعود بعد أيام قليلة تاركاً خلفه كماً هائلاً من الخراب والدمار طال كل شىء.
«أنا لو هتكلم عن اللى شفته فى 67 هحتاج مجلد ومش هيكفى».. جملة كانت كافية لأن يعبّر بها السبعينى «عيد كمال»، أحد جنود قوات الصاعقة فى «نكسة 67»، عما بداخله وما زال يتذكره من مشاهد دفعت عينيه للبكاء عليها حتى يومنا هذا، حيث كانت خدمته فى الجيش المصرى، ولا سيما سلاح الصاعقة، بمثابة أمنية راودته منذ أن كان طفلاً، حتى صار معلماً داخل مدرسة الصاعقة إلى أن اشتعلت نيران الحرب، يكمل كمال حديثه: «شكّلنا الكتيبة 163 واتحركنا على معسكر الجلاء فى الإسماعيلية وعدينا الناحية التانية، وعسكرنا هناك قبل ما نتوغل فى سينا، ومرة واحدة لقينا القائد بتاعنا بيقول لنا سيبوا الخيام زى ما هى واركبوا العربيات واتحركوا زى البرق، وأول ما اتحركنا لقينا الخيام اتدمرت، وبعد كده اتوغلنا لحد ما عسكرنا فى مكان اسمه الصحن».
«عيد»: «زمايلى غرزوا إيديهم فى الأرض بحثاً عن الميّه وحطوا بُقهم على الرملة المولعة لحد ما استشهدوا» ومشيت على رجلى لغاية قناة السويس
لم يكن هذا المكان فى مأمن من ضربات الطيران الإسرائيلى، وإنما تسببت طبيعته الجبلية فى محاصرة «عيد» ومن معه من جنود وضباط، إلى أن تم ضرب الكتيبة وتفرق شمل من بقى منهم على قيد الحياة، ليحكى «عيد» هذا المشهد بنوبة من البكاء الشديد قائلاً: «المدفعية المصرية كانت تضرب يقوم الطيران الإسرائيلى مطلع غازات كأنه اتصاب، نقوم احنا قايلين الله أكبر، وقبل ما نكمل الكلمة نلاقى الطيارة عدلت نفسها تانى وكسحت قدامها».
تحديد طريق العودة إلى قناة السويس لم يكن بالأمر الصعب على «عيد»، حيث اتخذ طريقه عكس اتجاه طائرات العدو العائدة بعد تنفيذ ضربتها، ليخوض رحلة قاسية فى صحراء سيناء: «أول حاجة ركبتها بعد ما مشيت فترة كبيرة كانت عربية نقل الشهداء، وبعد ما ركبت بشوية اتضربت، بس أنا كنت نطيت قبل ما تتضرب، وبعد كده ركبت دبابة، وتقريباً دية كانت آخر دبابة موجودة، ومرة واحدة سمعت كلمة طيران، قمت رامى نفسى من الدبابة، وعشان مكتوب لى إنى أعيش اتدحرجت لحد ما لقيت نفسى ورا ساتر مدارينى عن الضرب، ولما طلعت بعد الانفجار لقيت الدبابة سايحة بالطقم اللى كان فيها»، متابعاً: «كنت بعطش جداً وماكانش فيه ميّه، فكنت أشوف السراب من بعيد أفتكره ميّه ولما أعمل علامة واروح ما لاقيش حاجة، وكان ليا زمايلى من كتر العطش ومفيش ميه وكل شوية يشوفوا السراب ده ومايطلعش ميّه، فتلاقيهم غرزوا إيديهم فى الأرض وحطوا بقهم على الرملة المولعة لحد ما يستشهدوا».
مشاهد مرعبة مرّ بها «عيد» وهو فى طريق عودته، كان واحد منها عندما رأى أحد زملائه ملقى على الأرض مبتورة قدمه، فيجلس إلى جواره بضع دقائق يتبادلان نقاشاً صغيراً يحكيه بدموعه التى غمرت خديه: «رجليه كانت متعلقة على جلدة ممكن تتقطع بسهولة، قعدت جنبه وطلع الزمزمية بتاعته وادّانى غطا وهو كمان خد غطا، وبعد كده قال لى لو لقيت الصليب الأحمر بلغ بمكانى وتوكل انت على الله، الحى أبقى من الميت».
«هيكل»: «لما كنا فى معسكر الأسْر كانوا بيورونا الأكل وبعد كده يبعدوه عننا.. وكل شوية كانوا يقتلوا واحد عشان الباقى يخاف لأن قواتهم كانت قليلة».. و«أمين»: «كانوا بيحطوا اللى بيمسكوه مننا على صدر دبابة ويضربوه بدبابة تانية»
أيام قليلة، لم يتذكر «عيد» عددها، كانت كافية لأن يعود مرة أخرى إلى حيث مكان العبور الأول، ليتم نقله وغيره إلى الضفة الأخرى بمساعدة عدد من أهالى مدن القناة، ومن هناك إلى أحد معسكرات الجيش المصرى بالعباسية، ليعود بعدها إلى بيته لأول مرة منذ 3 شهور: «رجعت البيت ورّيتهم نفسى وإن أنا لسه عايش، لأنهم كانوا عملوا لى صوان وجنازة، وبعد كده رجعت تانى على مدرسة الصاعقة أكمّل جيشى وفضلت فى الجيش لحد ما حضرت حرب 73، وقتها كنت ماشى فى البلد وحاسس إنها بلدى أنا بس ومفيش حد شريكنا فيها»، ليختم «عيد» حديثه قائلاً: «أنا مش عايز حاجة خالص غير إنهم يعترفوا بيّا من ضمن قدماء المحاربين، عشان لما رحت الجمعية قالوا لى إنى لازم يبقى فيّا عاهة عشان آخد الكارنيه».
وفى جانب آخر من جوانب المعركة، كانت معاناة أخرى عاشها «على هيكل»، من مواليد 1949، وأحد ضباط الصف، والذى كان برتبة «عريف» وقتها، فقد كانت له حكايته عن مشاهد النكسة التى عاصرها بعمر 18 سنة، من داخل الكتيبة 27 إمداد مياه فى منطقة بير الحمة فى الطريق الأوسط بمنطقة سيناء: «عشان إحنا فى الطريق الأوسط كنا بنشوف كل قواتنا وهى بتعدى عشان تروح الحدود، ويوم ما حصل الانسحاب فوجئنا إن فيه ناس بترجع، قائد الكتيبة رفض الانسحاب لحد ما دخلت علينا كتيبة دبابات إسرائيلية، اتسببت فى إنه يكون أول شهيد للكتيبة».
تفجير أجهزة تكرير المياه داخل الكتيبة كان أول ما فعله جنود الكتيبة بعد الهجوم عليها، حسب «هيكل»، حتى لا يستفيد منها العدو، وبعد الانتهاء من عمليات التفجير بدأوا فى الانسحاب: «كل واحد بدأ يروح فى اتجاه حسب ما توديه رجله، لحد ما الميه خلصت من الزمزمية، وبدأنا ندوّر على ميه، كان معايا مجموعة وفكرنا نطلع على الطريق الأوسط، واحنا طالعين لقينا دورية إسرائيلية اشتبكنا معاها، وكنا نحو 13 استشهد مننا 10».
بضعة أيام قضاها «هيكل» وزملاؤه فى المشى داخل صحراء سيناء حتى وصل عددهم إلى 30 جندياً، حتى قاربوا على الوصول إلى القناة: «كان فاضل نحو 8 كيلو ونوصل مطار المليز، بس قابلتنا دورية إسرائيلية ضربت فوق مننا نار عشان نقف، بس على غير العادى عاملونا كويس لأنهم كانوا يهود غربيين، ووصفوا لنا طريق المطار لأن كان فيه معسكر تجميع هناك، وقالوا لنا أى عربية تقابلكوا ارفعوا الفانلة البيضا عشان ما يقتلوكوش، وفعلاً وصلنا المطار وسلمنا نفسنا وقعدنا هناك نحو 5 أيام، وكانوا بيصرفوا لنا كوباية ميه الصبح وواحدة بالليل، وكانوا بيورونا الأكل وبعد كده يبعدوه عننا، وكل شوية كانوا يقتلوا مننا واحد عشان الباقى يخاف لأن قواتهم كانت قليلة، وبعد كده نقلونا لقناة السويس، لأننا كان معانا مدنيين، وجت قوارب نقلتنا على الضفة الغربية، وهناك اتصرف لنا لبس جديد واترحّلنا على مراكز تدريب لإعادة التأهيل». حالة من الصدمة سيطرت على «هيكل» طيلة هذه الرحلة حتى بعد عودته مرة أخرى من سيناء، وهو ما عبّر عنه قائلاً: «لحد ما رجعنا ما كناش مصدقين إن ده حصل، وماكنتش متخيل إننا هنرجع مصر تانى أصلاً بعد اللى الواحد شافه، وبعد كده شفنا كتير فى حرب الاستنزاف وخدنا تارنا وأكتر، وكان عندنا إحساس إننا هنرجّع الأرض يعنى هنرجّعها، ولما كنا نقول عايزين ناس تعدى تروح شرق القناة تحط ألغام أو يعملوا استطلاع تلاقى الكتيبة كلها تتقدم، وبعد 73 حسيت بفخر غير عادى».
«الناس كلها كوم وأنا كوم تانى».. هكذا بدأ السبعينى «أمين جمعة» حديثه عن حكايته مع النكسة، منذ أن أصبح جندياً فى الجيش المصرى عام 1964، ليقضى هذه الأعوام الثلاثة فى اليمن: «كانوا كلهم تدريب لحد ما بقيت مدرب فى التكتيك العنيف فى مدرسة المعركة فى اليمن». وبمجرد أن بدأت الحرب عاد «أمين» من اليمن لينضم إلى المقاتلين فى سيناء: «سينا وقعت يوم 5 يونيو الساعة 9 الصبح، وفى نفس اليوم الساعة 5 المغرب كنا فى سينا خلف خطوط العدو، لأننا كنا مجموعة قتال رئيسى للجيش المصرى، وكنا مجموعة من 180 شخص».
بدأ «أمين» وبقية أفراد مجموعته فى الانتشار داخل سيناء، ليظل عملهم الرئيسى لمدة 10 أيام هو إرشاد الجنود العائدين على طريق العودة، حتى انقطعت عودتهم: «من هنا بدأنا نعيش حياتنا مع الإسرائيليين جوه سينا»، حياة ليلية عاشتها المجموعة فى مهام محددة، فلا وجود لهم بمجرد طلوع شمس النهار: «طول النهار مدفونين فى رمل أو مستخبيين فى جبل، المهم إننا مانبانش خالص، وكنا نلف طول الليل على معدات وعربيات الجيش المصرى ندمرها عشان مياخدهاش الجيش الإسرائيلى سليمة، وكان الطيران الإسرائيلى يعرف إحنا فين من الحرايق يقوم جاى يضرب فينا بالطيران».
عمليات كر وفر متعددة لـ«أمين» وزملائه من الجنود، يقعون فى الأسر تارة، ويهربون منه تارة أخرى، ويستمرون فى اصطياد الجنود الإسرائيليين وقتلهم تارة ثالثة: «أول واحد استشهد فى المجموعة كان القائد وكان مسيحى، لحد ما حصلت معركة رأس العش، وقتها كان عددنا وصل 80 واحد، جمعنا العربيات الجيب اللى كانت موجودة وحطينا على كل عربية اتنين جرينوف، وكل واحد ركب على عربية، وطلعنا على اتجاه راس العش وسنترنا نفسنا ورا القوات الإسرائيلية وعملنا فى ضهرهم ستارة نيران اتسببت فى هزيمتهم»، أكثر من 50 شهيداً فى هذه المعركة، ليخرج أمين ومعه 32 من زملائه بعد أن تولى قيادة المجموعة: «بعد كده رُحنا منطقة جبل سحابة، كان فيه هناك مغارات وفيها ميّه، ولقينا هناك مجموعة من العرب، اديناهم العساكر المصابة وعرّفناهم اتجاه القناة، وسابوا لنا الجمال والغنم بتاعتهم، وخدنا منهم لبس ملكى وقلعنا اللبس الميرى، وقتها كان عدى علينا فى سينا أكتر من 50 يوم، وعشنا جوه المغارات فى جبل سحابة، وبقينا نطلع نسرح بالجمال والغنم وندخل المعسكرات الإسرائيلية ونتكلم بلهجة البدو عشان نعرف مداخل ومخارج المعسكرات، وبقوا ياخدونا يشغّلونا فى شيل الذخيرة ويدّونا أكل، وفضلنا على الحال ده فترة لحد ما اكتشفوا إن احنا جنود لما مسكوا واحد مننا بيسرق صندوق قنابل من المخازن، وقتها حاصروا جبل سحابة وضربوه بالطيران وبكل حاجة، وكانوا بيحطوا اللى يمسكوه مننا على صدر دبابة ويضربوه بدبابة تانية، وقتها أنا الوحيد اللى عرفت أهرب لحد ما اتمسكت أسير وأنا مغمى عليّا بعد أربعة أيام ماشى من غير ميّه»، عام كامل من الأسر قضاه «أمين» داخل المعتقلات الإسرائيلية ذاق فيها أنواعاً مختلفة من العذاب، حتى حُكم عليه بالإعدام ليتمكن من الهرب فى أثناء ذهابه إلى مقر إعدامه ليعود مرة أخرى إلى مصر بعد رحلة طويلة خاضها فى طريق العودة.