برهان غليون: وجود «الأسد» فى السلطة رمزى ومعلق على ذراع الروس والأمريكيين الذين يساومون عليه مع الدول الغربية.. ولا أحد يعيره أهمية إلا إيران
غليون
قال المفكر والمعارض السورى الكبير الدكتور برهان غليون إن «المنطقة ستغرق أكثر فى النزاعات والمشكلات»، معتبراً، فى حوار لـ«الوطن»، أن «الشعوب العربية اختارت تعميم النموذج الأفغانى أو الصومالى بدلاً من التقدم التكنولوجى والتقنى».
وتناول «غليون»، فى حواره، الأسباب التى أوصلت البلدان العربية إلى الحالة التى هى عليها الآن، مبدياً قلقه من الأزمة الخليجية، مشيراً إلى أنها الأكثر إيذاءً للأزمة السورية.. وإلى نص الحوار:
■ بداية، ما قراءتك للمشهد السورى الحالى بعد هذه السنوات من الدمار والخراب؟
- سوريا والشعب السورى يدفعان ثمن 3 إخفاقات ليسا هما المسئولين عنها، ويتحملان عنف الحروب التى تفجرت بسببها ولم تجد مخرجاً لها بعد. لذلك كانت المأساة استثنائية والقتل والدمار غير مسبوقين فى أى نزاعات سياسية، مهما كانت الرهانات والغايات.
المفكر والمعارض السورى: الأزمة القطرية الخليجية هى الأكثر إيذاءً للقضية السورية.. وزيارة الرئيس الأمريكى إلى السعودية وما نتج عنها تكرار لأخطاء العرب التاريخية.. ولا أعتقد أن وجوده سيغير كثيراً من أوراق اللعبة فى المنطقة
■ وما هذه الإخفاقات؟
- الإخفاق الأول يتعلق بفشل الدول العربية خلال نصف القرن الماضى، وبالرغم من جميع الجهود والضغوط والتشجيعات من قبل المثقفين وقطاعات المجتمع المدنى العديدة، فى التوصل إلى حد أدنى من التفاهم والتعاون والتضامن من أجل إطلاق عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية واستيعاب الأجيال الجديدة فى النظام الاجتماعى ومواجهة قضايا الأمن والسلام والاستقرار، بما فى ذلك مواجهة التطرف الإسرائيلى والدفع فى اتجاه تسوية سياسية تضمن الحقوق الفلسطينية. والثانى فشل المنظومة الدولية فى الاستفادة من انهيار «الاتحاد السوفيتى» للإسراع فى الخروج من الحرب الباردة وإصلاح «الأمم المتحدة ومجلس الأمن» وتوسيع عضويته، بحيث يعبر فعلاً عن القوى الجديدة الصاعدة فى أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأفريقيا.
لقد أراد نظام الأمم المتحدة الراهن أن يجمد التاريخ والسياسة الدولية عند نتائج الحرب العالمية الثانية ويكرس قيادة ضيقة احتكارية واستبعادية لم تعد تتمتع بأى مصداقية فى تمثيل تطور القوى العالمية وتوازناتها الحقيقية. بالعكس، اختارت الدول الكبرى والغربية منها بشكل خاص أن تستفيد من نهاية الحرب الباردة لتوسيع دائرة نفوذها وعزل منافسيها. وها نحن نعود للحرب الباردة الثانية. ومن الواضح أن تعطيل «مجلس الأمن» من قبل الفيتو الروسى والصينى كان أحد الأسباب الرئيسية فى تمديد أجل الحرب وتفاقم تراجيديا القتل السورية.
«داعش» شركة مساهمة والجميع له أسهم فيها.. وهى ثمرة تقاطع مصالح وتلاقح شبكات أمنية وغيرها.. وقد ولد مسخاً حقيقياً
■ وما الإخفاق الثالث؟
- إخفاق النظم العربية فى القيام بأى إصلاح سياسى واجتماعى خلال أكثر من نصف قرن، وتمسكها بالرهان على استخدام القوة وتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية لردع أى احتجاجات ممكنة وإقامة جدار عازل بين الطبقة الحاكمة الضيقة وبقية جماهير الشعب. وكانت النتيجة إغلاق أكبر للنظم وتحويلها إلى قلاع قوية صامدة من دون تغيير فى وجه الأكثرية الشعبية المتقهقرة، مع تفاقم الفساد السياسى والاقتصادى والأخلاقى والرهان بشكل أكبر على القمع وتدهور مطرد فى شروط حياة الشعب ومعدلات البطالة ومستويات الإدارة والخدمات الاجتماعية ومشاعر القهر والظلم.
■ وكيف انعكست هذه «الإخفاقات» على الأوضاع فى سوريا؟
- تحولت سوريا، بسبب الدعم الاستثنائى الذى تلقاه «نظام الأسد» من حلفائه الإيرانيين والروس، وصمت الأطراف العربية العديدة بسبب الخوف من انتصار ثورة شعبية حقيقية فى الشرق، إلى بؤرة تفجر لنتائج هذه الإخفاقات ومسرحاً مفتوحاً للحروب الثلاث التى نجمت عنها: الحرب الدموية الرامية إلى المحافظة على النظم من الانهيار، والحرب الإقليمية التى فجرها ضعف العرب وانقسامهم وتفككهم الذى شجع إيران على التطلع إلى التوسع الإقليمى لفك الحصار الغربى عنها، والحرب الباردة العالمية الجديدة التى أنعشت النزاع الغربى الروسى والصينى واللاتينو أمريكى. جميع أبطال هذه الحروب يريدون أن يحسموا معاركهم داخل سوريا وعلى حسابها من دون أى اعتبار للشعب السورى وحياته ومصالحه ومستقبله. هكذا تحول النزاع السياسى العادى الذى حصل من قبل فى تونس ومصر وكل بقاع العالم، ممثلاً بمسيرات الاحتجاج السلمية والمطالبة بالإصلاح والتغيير، إلى حروب دموية وتراجيديا لا مخرج منها.
الشعب السورى لن يندم أبداً لخروجه على نظامه.. ولن نتردد فى التعامل مع إيران إذا قبلت بتغيير موقفها من «بشار».. والكل يتحدث اليوم عن تقسيم سوريا لأنه يعتقد أن هذا هو الطريق الوحيد للاحتفاظ بمنطقة نفوذ أو مصالح.. ونظام «الأمم المتحدة» أراد أن يجمد التاريخ والسياسة الدولية عند نتائج الحرب العالمية الثانية
■ ما رأيك بأزمة الخليج والدول العربية مع قطر؟ وما انعكاسات ذلك على الأزمة السورية؟
- أى خلاف بين الدول العربية يؤثر سلباً على القضية السورية، والخلاف بين بلدان الخليج العربى هو الأكثر إيذاءً لهذه القضية، خاصة أنه يأتى فى ظرف بالغ الحساسية فى تقرير مصير سوريا وشعبها. وأملنا أن يتوصل إخواننا فى قطر وبقية بلدان الخليج إلى حل من داخل «مجلس التعاون الخليجى» يحفظ لهذا المجلس وجوده ووحدته ودوره الكبير الذى نحتاج إليه فى الحرب الكبرى الجارية منذ سنوات على تقرير مصير المنطقة بأكملها. والواقع أن أزمة دول مجلس التعاون الخليجى المتفجرة تعبر عن الوضع المأساوى الذى يشهده العالم العربى بأكمله، حيث لا يبقى أمام النخب التى رفضت سبل الحوار أو تخلت عنها، وابتعدت عن منطق السياسة ووسائل التشاور والمفاوضات إلا الانتحار الجماعى لمواجهة الخلافات التى تعجز عن حلها، والتى تتفاقم بمقدار ما تحل لغة التهديد والعنف محل اللغة السياسية وتنعدم إمكانية التفاهم والتوصل إلى تسويات دائمة وقابلة للحياة. هذا هو أصل المشكلة للأسف داخل الدول القائمة بين الحاكمين ومحكوميهم، وفى ما بينها أيضاً.
■ المعارضة تتحدث دوماً عن رحيل بشار الأسد، هل تعتقد أن ذلك ممكن، خاصة أنه يبدو أنه يثبت نفسه هذه الفترة أكثر من أى وقت مضى؟
- بشار الأسد لم يرحل جسدياً، لكنه لم يعد يمثل أى شىء فى سوريا، ولا يحكم أبعد من القصر الذى يسكن فيه. وربما حتى فى هذا القصر ليس هو صاحب القرار. يمكن لوزير الدفاع الروسى أن يستدعيه فى أى لحظة إلى «قاعدة حميميم» كما حصل العام الماضى، من دون أن يعلم هو نفسه إلى أين كان ذاهباً ومن هو الشخص الذى سيقابله. وجوده الرمزى معلق على ذراع الروس والأمريكيين الذين يساومون عليه مع الدول الغربية وينتظرون الثمن ليقطعوا الحبل الذى يحميه من السقوط. لا أحد يعير أهمية لبشار الأسد إلا إيران التى تراهن عليه للحفاظ على نفوذ غير مقبول وغير مبرر فى أى مقياس سياسى أو قانونى يهدف إلى التحكم بسوريا وحرمان شعبها من حريته وحقوقه إلى الأبد، من أجل ضمان تمرير السلاح لـ«حزب الله»، الذى فقد أى قيمة فى الصراع ضد إسرائيل بعد حرب ٢٠٠٦، وصار ممثلاً لدولة طائفية داخل الدولة اللبنانية.
جميع المحللين والمراقبين الدوليين يعتبرون أن بشار الأسد هو العقبة الرئيسية أمام أى تسوية سياسية تنهى الحرب السورية. وهذا يعنى أن رحيله هو مفتاح هذه التسوية، تماماً كما يعنى بقاؤه استمرار الحرب، حرب الديكتاتورية الدموية ضد حرية الشعب وحرب إيران التوسعية ضد استقلال سوريا واستقلال وأمن الدول العربية.
الإخوان تنظيم سياسى موجود فى معظم البلدان العربية وقوته فى سوريا أقل بكثير مما هى فى أكثر البلاد الأخرى
■ ما حقيقة الانقسامات الحادثة بين صفوف المعارضة، والتى يتحدث عنها النظام دوماً؟ هناك حديث عن معارضة لـ«الرياض» وأخرى لـ«أنقرة» وثالثة لـ«روسيا» ورابعة من «القاهرة»؟
- كل هذا جزء من الحرب الإعلامية والنفسية. كيف يمكن أن تتوحد المعارضة إذا كان بإمكان «الأسد» وحلفائه أن يشكلوا منصات جديدة للمعارضة كل يوم ويقدموا لها الدعم السياسى والدبلوماسى والمالى ليلتفوا على المعارضة الحقيقية وقوى الثورة، وحتى يبرروا رفضهم الدخول فى مفاوضات جدية؟. بعد أن تشكل «الائتلاف الوطنى» وقفت «موسكو» وراء «هيئة التنسيق للتغيير الديمقراطى» وتذرعت بها لتركز على انقسام المعارضة فى الوقت الذى كانت فيه الهيئة ترفض دعوة «المجلس الوطنى» للعمل من داخله فى جبهة عريضة، خوفاً من انتقام النظام منها. وعندما أنشئت «الهيئة العليا للمفاوضات» ودخلت فيها «هيئة التنسيق» ولم تعد هناك ذريعة انقسام للمعارضة، أنشأوا خلال أربعة أشهر منصات سياسية لتأكيد انقسام المعارضة، ولم يكن لأى منها أى وجود أو دور سياسى قبل الثورة أو بعدها. وهى «منصة موسكو ومنصة الأستانة ومنصة حميميم ومنصة القاهرة»، ثم «منصة بيروت»، وربما غداً منصات فى كل العواصم الدولية. هذه لعبة ممجوجة ولا يمكن قبولها حتى كنوع من الضغوط الدبلوماسية. هناك حدود للاستهزاء بالرأى العام السورى والدولى.
■ ما موقع الإخوان فى المعارضة السورية؟
- الإخوان تنظيم سياسى موجود فى معظم البلدان العربية، وقوته فى سوريا أقل بكثير مما هى فى أكثر البلاد الأخرى. وهو لم يوجد بقرار من المعارضة السورية ولا يعتمد فى وجوده عليها. ولا تستطيع المعارضة أن تنكر وجوده، أو تتصرف كما لو لم يكن موجوداً، وإلا سيسخر العقل والعالم منها. السؤال: هل الخيار السليم للمعارضة الديمقراطية السورية، ومصلحة الشعب السورى فى اقتلاع جذور الديكتاتورية، يتماشى أكثر مع مقاطعة الإخوان وعزلهم، أم ضمهم لـ«الائتلاف الوطنى» الواسع لتعزيز جبهة العمل ضد «نظام الأسد» الدموى، خاصة بعد أن نشروا مشروعهم الذى يعترف بالدولة المدنية السورية ويقبل العمل فى إطار منظومة ديمقراطية؟، هذه مسألة سياسية واستراتيجية وأخلاقية فى الوقت نفسه. وعلى كل قيادة سياسية للمعارضة أن تقرر بنفسها حدود التعامل معها حسب مصالح القضية الوطنية، وعليها أيضاً أن تتحمل مسئولية خياراتها الاستراتيجية.
■ فى إطار السنوات الماضية، ما تحليلك لأهداف الدول المتدخلة فى النزاع السورى: روسيا، تركيا، السعودية، قطر، إيران، الولايات المتحدة؟
- ليس هناك دولة تتصرف بدافع آخر غير الدفاع عن مصالحها الوطنية أو السعى لتعظيمها. وهذا ينطبق أيضاً على الأحزاب والحركات السياسية. لا تتصرف الدول بدافع الخدمة الإنسانية والهداية الدينية، حتى عندما تدعى أنها دينية. لذلك ليس هناك معيار للتعامل مع الدول المتدخلة وغير المتدخلة، عربية أو أجنبية، سوى تقاطع المصالح أو تعارضها. هذا يعنى أولاً أنه ليس هناك موقف مسبق من أى دولة، ويعنى ثانياً أن تدخلات الدول ليست متساوية بالنسبة للمعارضة والثورة. لا يمكن للمعارضة أن تساوى بين موقف إيران التى تدعم بكل قوتها الديكتاتورية وترسل ميليشياتها لقتل الشعب السورى، وموقف بلدان الخليج العربية التى تقدم المساعدة لقوى الثورة والمعارضة، مهما كانت حدود هذه المساعدة. لكن إذا قبلت إيران بتغيير موقفها والقبول بإحلال نظام ديمقراطى يعبر عن إرادة الشعب السورى مكان «نظام الأسد» الدموى المتهاوى فلن تتردد المعارضة فى التعامل معها. هذا هو منطق العقل والحس السليم، ولا بديل عنه بالنسبة لأى حركة سياسية تحترم نفسها وشعبها وتاريخها.
مهمة «داعش» انتهت فى سوريا بعد تشتيت المعارضة وإضعافها.. وفى العراق بعد استفراد «طهران» بالسيطرة على «بغداد».. وأجهزة مخابرات ستتلقف عناصره وتجندهم فى مشاريعها الاستراتيجية الجديدة
■ يقال إن هناك دولاً، من بينها الولايات المتحدة، لا تريد حلاً فى سوريا، لأن النزاع السورى كغيره من نزاعات الشرق الأوسط سبب رئيسى لرواج تجارة السلاح الأمريكى فى المنطقة بعائداته الكبيرة، فما رأيك بهذا الخصوص؟
- لا أدرى من هى الدولة التى تريد أن تنهى النزاع فى سوريا. هل هى إسرائيل أم إيران أم «الجامعة العربية» «المشلولة». فى الوضع الذى وُضعت الثورة والشعب السورى فيه، وهو منع الانتصار لأى طرف، الجميع يساهم فى استمرار الحرب، لأن أحداً لن يقبل من الدول المنخرطة فيها بأن يسلم أو يستسلم ويقبل بهدر الاستثمارات الكبيرة التى وضعها فيها، المادية والسياسية والدينية. ولا يشذ السوريون أيضاً عن ذلك، فالنظام ومن يقف معه أصبحوا خارج أى تسوية محتملة، بسبب حجم الجرائم التى ارتكبوها.
■ تشعر أن الأوضاع فى المنطقة تحولت إلى صراع بين السعودية وإيران، ما حقيقة ذلك؟ وهل تحولت الأزمة السورية إلى صراع سنى شيعى؟
- هذا كلام تبسيطى ولا أخلاقى فى الوقت نفسه، لا السعودية ولا بلدان الخليج الأخرى ولا تركيا ولا أوروبا وأمريكا وروسيا فى وضع الهجوم على الأراضى والمصالح الإيرانية، العكس هو الصحيح. إيران هى التى تهاجم المصالح العربية عندما تُشعل حرباً طائفية فى أكثر من دولة عربية وتسعى إلى فرض الوصاية على عدد من الأقطار العربية، وترسل ميليشياتها وتمولها من كل الجنسيات علناً لقتل الشعب السورى. السعودية، كبلدان الخليج الأخرى، فى موقف الدفاع عن النفس، ولا ينبغى للخلاف السياسى أو الأيديولوجى مع هذا النظام أو ذاك أن يُلغى التحليل الموضوعى ويلغى واقع ما يحصل. ومساواة المعتدِى والمعتدَى عليه لا يساعد على حل المشكلة ووقف الحرب، بالعكس إنه يشجع على استمرارها. فى جميع الأحوال ليس فى سوريا حتى اليوم صراع سنى شيعى، هناك عدوان من قبل الميليشيات الإيرانية الطائفية على سوريا، وصراع من قبل أكثرية الشعب السورى ضد نظام فاسد وإجرامى بصرف النظر عن العقيدة الدينية لقادته. وهم ليسوا علويين فحسب، بل ليس لمعظمهم علاقة بالدين وأى عقيدة أو مبدأ، لكن لا يوجد نزاع سنى شيعى سورى.
■ ما رأيك بزيارة الرئيس الأمريكى إلى السعودية والحديث عن تحالف فى مواجهة الإرهاب وانتقاد تلك اللقاءات الشديد لإيران؟
- لا أرى فى هذه الزيارة وما نجم عنها أى جديد، إنها تكرر أخطاء العرب التاريخية التى تراهن على الحماية الأجنبية بدلاً من بناء قاعدة الأمن والسلام الذاتية، التى كانت تقتضى فى حالتنا بناء الاتحاد أو «التحالف العربى» وتوفير الأموال الفائضة فى الخليج وغيره من أجل دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتأهيل ملايين العرب والارتقاء بمستوى علمهم ومعيشتهم، بما فى ذلك تأمين وسائل الدفاع الذاتى عن السلام العربى، وتطوير صناعة عربية كما هو الحال فى الهند والصين وتركيا وغيرها من الدول، التى أصبحت مهمة اليوم بسبب نجاحها فى خطة التنمية وحفاظها على سيادتها واستقلالها وقوة حمايتها الذاتية. وحجم العرب ووزنهم فى المنظومة الدولية ليس أقل من حجم تركيا أو إيران. وكان عليهم أن يقيسوا أنفسهم بالهند والصين، ويتنافسوا معهم فى استيعاب التقدم التقنى والعلمى والصناعى، لا أن يقبلوا بتعميم النموذج الأفغانى أو الصومالى كما هو حاصل وسيحصل أكثر على عموم الأقطار العربية.
■ وهل تعتقد أن المنطقة مقبلة على إعادة ترتيب الأوراق والتحالفات بوصول «ترامب» وتعزيز علاقته بالسعودية؟
- هى مقبلة حتماً بوصول «ترامب» أو من دونه. ولا أعتقد أن وصوله سيغير الكثير من قواعد اللعبة. وربما يكون ضرر سياساته أكثر من نفعها إذا نجم عنها تشجيع العرب على العودة إلى المراهنة على الحمايات الأجنبية، وتأجيل قائمة الإصلاحات الجذرية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية المؤجلة منذ عقود فى البلاد العربية.
■ هل تخشى على سوريا التقسيم، خاصة أن هناك أطروحات قُدمت بهذا الخصوص؟
- نعم، الكل يتحدث اليوم عن التقسيم، لأنه يعتقد أن هذا هو الطريق الوحيد للاحتفاظ بمنطقة نفوذ أو بمصالح ليس من الممكن أن تستمر إذا استعاد الشعب السورى سيادته وسيطرته على مصيره. لكن هذه مرحلة انتقالية، وهى مرحلة تنامى الأوهام وغياب الحسابات الواقعية وحتميات ومعطيات الجغرافيا والتاريخ العنيدة أيضاً. سوريا ستعود لشعبها بصرف النظر عن الصيغة التى سيختارها لتنظيم شئون حياته الإدارية والسياسية.
■ هل ترى أن المنطقة تقترب من حل نزاعاتها ومشكلاتها، أم ماذا؟ ولماذا فى الحالتين؟
- المنطقة ستغرق أكثر فى نزاعاتها ومشكلاتها، لأننى لا أرى أى بوادر إصلاحية جدية لا فى الدول الإقليمية الكبرى ولا فى الدول العربية. لكن هذا لا يعنى بالضرورة استمرار الحرب السورية إلى ما لا نهاية. على الأغلب سوف تنتقل بؤرة الأزمة إلى بلدان أخرى.
■ هناك من يقول إن أمريكا ودولاً أخرى وراء ظهور تنظيم «داعش»، وهناك أطراف تقول إن إيران وراء «داعش»، وفى كلتا الحالتين الكل يدّعى أنه يحارب الإرهاب و«داعش»، فما رأيك فى هذا الجدل؟
- داعش شركة مساهمة، الجميع له أسهم فيها، أى إنه استثمر فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، ولا يزال. وهى ثمرة تقاطع مصالح وتلاقح شبكات أمنية وغير أمنية ولدت مسخاً حقيقياً متعدد الأوجه والهويات. لكن هذا لا يمنع أن لهذا المسخ دماغاً خاصاً به، وأن للشركة المساهمة مجلس إدارة شبه مستقل عن هذه الدول، وله رئيس، يقرر أيضاً ويطمح إلى تأسيس مشروع خاص به، وهو مشروع الدولة المسخ، أيضاً، الذى أصبح مهدداً الآن. لكن خسارته مشروع الدولة لن يضع حداً لوجوده. ستولد مسوخ أخرى فى حرب عالمية لا تنتهى، طرفاها الجيوش الجديدة التكنولوجية من جهة، والتنظيمات الإرهابية الموزعة فى مختلف بقاع الأرض والتى تلعب على عنصر المفاجأة المباغتة، تماماً كما أرادها قادة الدول الكبرى من جهة ثانية، لتبرير النفقات العسكرية الأسطورية، وإشغال الرأى العام العالمى عن مشاكل الفقر والبؤس والجوع والقتل والديكتاتورية وانعدام الأمل والمستقبل التى لم يعد من الممكن حلها أو حتى التحكم بها. هذه لعبة الحرامى والشرطى التقليدية.
■ ما الأغراض والأهداف التى يراد أن يحققها تنظيم «داعش» فى سوريا؟ ومتى يمكن أن تكتب النهاية لذلك التنظيم؟
- «داعش» أراد أن يستغل الفوضى التى أحدثتها التدخلات الأجنبية المختلفة وانحسار سلطة الدولة، ليحقق وهم العديد من الحركات الإسلامية المتطرفة المتجسد فى بناء دولة على نمط الدول التى كانت قائمة قبل ١٤ قرناً، باسم الإسلام، أى إمارة بدائية قائمة على العنف والقهر والغزو والنهب. واستفاد من تشجيع بعض الأطراف، بما فى ذلك النظام السورى والإيرانى، الذين كان لهم مصلحة كبرى فى أن يدفعوا به لاستعادة السيطرة على الأراضى الواسعة التى كانت قد سيطرت عليها كتائب الثورة السورية، وشجعته انتصاراته السريعة على كتائب لم تلقَ أى دعم وحُرمت من السلاح الذى يقدم اليوم بكرم بالغ، على النجاح لفترة فى تحقيق هذا المشروع الوهم. وفى اعتقادى انتهت مهمة «داعش» فى العراق بعد أن حققت إيران هدفها بالاستفراد بالسيطرة عليه، وانتهى دوره أيضاً فى سوريا بعد أن شتت المعارضة وأضعفها واحتل أراضيها، ولم يعد يخدم أحداً، لذلك سيزول كدولة، لكن ذلك لا يعنى أنه سيزول أو يختفى نهائياً، هناك كثير من الدول وأجهزة المخابرات التى ستتلقف عناصره وتجندهم فى مشاريعها الاستراتيجية الجديدة، وهكذا سوف يحافظ على وجوده ولن يموت.
■ ما رأيك بخصوص ما سمى «الربيع العربى» بعد هذا الدمار الذى لحق بدول كبيرة فى المنطقة العربية، ألم يكن الوضع فى السابق أفضل من الآن؟
- هل سمعت السوريين الذين قتل أبناؤهم بأبشع الطرق الوحشية وشردوا فى مختلف بقاع الأرض بالملايين يظهرون ندمهم على خروجهم ضد نظام «الأسد» الجائر؟ أبداً. بعض أصحاب المصالح المستفيدين من نظم القهر نعم، هم نادمون وغاضبون من الثورة وناقمون على جمهور الشعب الفقير والمقهور الذى فجرها. لكن الشعب لن يفعل ذلك أبداً، أولاً لأن الثورة أعادت له الاعتزاز بنفسه والثقة بإنسانيته بعد أن حاول الاستبداد إذلاله وإفقاده الشعور بكرامته. وثانياً لأنه اكتشف قدراته وتجرأ على المخاطرة بحياته، وتجاوز عجزه، بعد خنوع طويل.
■ ولماذا تحولت أحداث «الربيع العربى» إلى الصورة الحالية، من أمل فى الديمقراطية والحرية إلى الحديث عن إرهاب وتطرف وعمالة وخلافه، تحولت من صورة وردية إلى صورة قاتمة؟
- لأن التحالف بين جبهة العداء للشعب الداخلية وجبهة العداء للعرب وانعتاقهم وخروجهم من انقساماتهم وضعفهم وتخلفهم الإقليمية والدولية لا يزال قوياً. وتنبع قوته من حجم المصالح الاستراتيجية وغير الاستراتيجية التى تجمع بين هذه الأطراف وتجعل من دخول الشعوب العربية إلى الساحة السياسية، ساحة الحرية، وميادينها، والتحكم بمصيرهم والاستخدام السليم لمواردهم، خطراً داهماً عليها ونهاية لحكم التبعية والاستبداد والفساد الداخلى والخارجى. الشرق الأوسط، والمشرق منه بشكل خاص، كان ولا يزال منذ تشكيل النظام العالمى بعد الحرب العالمية الأولى ثم تصحيحه فى الثانية من أكثر المناطق حساسية من الناحية الجيوسياسية والاستراتيجية، وزاد عليه أنه تبوأ مركزاً كبيراً فى صادرات الطاقة. وقد بقى تحت سيطرة الدول الكبرى خلال الفترة السابقة بأكملها، وهذا ما حوّله إلى مسرح رئيسى من مسارح الحرب الباردة والذى أبقى فيه على هذه الحرب الباردة حتى بعد زوالها فى المناطق العالمية الأخرى. وقد كان تفجير الأزمات وإدارتها هو الأسلوب والمنهج الرئيسى لإدارة المنطقة منذ ذلك الوقت، ومنعها من توسيع هامش مبادرتها وسيادتها النسبية والخروج من نظام التبعية. هنا ممنوع على الشعوب أن تتحرر وتكون سيدة، لأن المصالح العليا للدول الكبرى تحتاج إلى نظم تطبق سياساتها ولا تحيد عن الأجندة الخارجية التى تضعها لها الدول الوصية والحامية. هذا يفسر العنف الذى واجهت به قوى الثورة المضادة المحلية والدولية «ثورات الربيع العربى».