كان الأطفال أكثر من عانى في ظل احتلال "داعش" للموصل ومن ثم في معركة طرد التنظيم من المدينة؛ إذ أصيب الكثير منهم بسوء التغذية ووقعوا ضحية للأزمات النفسية من جراء ما عايشوه."انظري إنه يمشي على قدميه من جديد"، تقول حنان محمد، ذات الـ43 عاماً، ضاحكة وهي تحاول إيقاف طفلها ذي السنتين على قدميه. فرت العائلة، المكونة من ثلاث أفراد، من المدينة القديمة في الموصل حيث استمر القتال هناك ضارياً على مدار أسابيع.
وشح الماء والغذاء لدرجة الندرة على مدار شهور. "تركنا داعش نعاني الجوع. لم يكن هناك ما يمكن شراؤه. وما كان متاحاً للشراء كان باهظ الثمن"، تقول حنان. ومن جراء الجوع لم يكن بإمكانها إطعام أولادها وفقدت رضيعها ذي الستة أشهر بسبب سوء التغذية. وبدأ ابنها بالمشي ولكنه لم يعد يقوى على ذلك بسبب سوء التغذية أيضاً.
لجأت الأم بطفليها إلى مخيم السلامية، وهو أحد المخيمات التي أقيمت للنازحين من الموصل. أغلب الموجودين هنا مرتبطون بداعش بشكل ما . ربما طلّقت حنان زوجها بسبب انتمائه للتنظيم، ثم لقي الزوج مصرعه في قصف جوي. وعاشت وطفليها عند أبويها. بعد ذلك استخدمهم التنظيم كدروع بشرية. لم يكن هناك ماء ولا طعام. فقط القصف كان هناك على الدوام. من حاول الهرب من المدينة كان مصيره الموت على يد الدواعش.
الأطفال حالهم حال البالغين الكبار، كانوا ضحايا للتنظيم، بل ربما كانت حالتهم أكثر سوء بسبب عدم امتلاكهم خيارات أخرى. يأوي المخيم آلاف الأطفال المصابين بسوء التغذية، على حد تعبير كيلي ناو من منظمة الإغاثة "Samaritan's Purse. تعالج المنظمة الأطفال عن طريق إطعامهم وجبات خاصة وتعلّم أمهاتهم الفوائد الإيجابية للإرضاع الطبيعي.
خمسة بالمئة من أطفال الموصل يعانون من سوء التغذية، وبعضهم حالته سيئة، والأمر ينطبق كذلك على الكثير من الرضع تحت سن ستة أشهر. وفقدت الكثير من الأمهات أطفالهن، تماماً كحال حنان محمد. ندر وجود الماء إلا ماء النهر أو الآبار وكذلك فُقد الحليب المجفف. "لم أر ما رأيت في الموصل، ولا حتى في السودان أو في اليمن"، يقول كيلي ناو.
دماء وجثث وقنابل
لم يكن الجوع وحده ما فتك بأطفال الموصل؛ إذ تحملوا أيضاً العنف والقتل والضربات الجوية ندبات ورضوض في نفسياتهم. "دفع ما يقارب من 650 ألف طفل ثمناً كبيراً وتحمل الأهوال في ظل احتلال داعش للموصل"، على حد تعبير نائب ممثل اليونيسف في العراق، حميدة رمضاني، في بيان صحفي.
في المرحلة الأخيرة من معركة تحرير المدينة القديمة من "داعش" سجلت منظمات الاغاثة زيادة في عدد حالات الأطفال القصر الذين يرتدون المراكز الطبية لوحدهم غير مصحوبين بأحد من أهاليهم. علق بعضهم بين الركام والدمار ولم يكن بوسعهم أكل أي شيء بسبب رائحة الجثث حولهم. عُثر على أطفال رضع لوحدهم في حطام المباني، تقول حميدة رمضاني. وحسب رأي أحد الأطباء في مشفى في غرب الموصل في حديث لـ"هيئة الإذاعة البريطانية" فإن أولئك الاطفال ينحدرون من أمهات كن زوجات لعناصر في التنظيم. وقد تركن الأطفال وفررن بجلودهن في محاولة للهروب من ماضيهن مع التنظيم.
كما عُثر على أطفال إيزيدين كان التنظيم قد اختطفهم قبل ثلاث سنوات. وكان كل أولئك الأطفال في حالة نفسية سيئة للغاية. وقد أشارت حميدة رمضاني إلى أن الندبات والرضوض الجسدية والنفسية، التي تركت أثارها سنوات احتلال "داعش" للمدينة، قد يستغرق علاجها سنوات.
منظمة "أنقذوا الأطفال" عنونت تقريراً لها بـ"الواقع الذي لا يحتمل". وقد استند التقرير على بحث ميداني على أطفال الموصل في مخيمين للجوء. تحدث الأطفال للباحثين عن حياتهم في ظل "داعش" وفرارهم من المدينة القديمة والجثث في الشوارع والدماء في كل مكان والقنابل المتساقطة على بيوتهم. يقول الباحثون إن الكثير من أطفال الموصل ما يزالون ضحية الخوف من التنظيم وتنتابهم كوابيس الدواعش في عز النهار.
أطفال عمراً..وشيوخ هيئةً
الملفت في سلوك أطفال الموصل هو أنهم فقدوا القدرة على التصرف كأطفال وأضحوا كالرجال الآليين (الروبوتات)، بحسب تعبير إيلن مكارثي من منظمة "أنقذوا الأطفال" والتي كانت من بين العاملين على التقرير. "الأطفال هادئون ومسترخون. وعند سؤالهم ما الذي يجدونه مفيداً لهم يجيبون: "كن أديباً وأطع ولي الأمر".
معظم الأطفال، الذين شملهم البحث، فقد أحد أفراد أسرته ويعاني من كوابيس وتصيبهم مراراً وتكراراً موجات من العدوانية. وبينما يعمل عمال الإغاثة من خلال الفن واللعب على مساعدة الأطفال على التخلص من ماضيهم وأثاره، يعمل زملاء لهم أخرون على معالجة الآباء من اضطراب ما بعد الصدمة النفسية، بحيث يمكن لهؤلاء دعم أطفالهم نفسياً، كما تقول إلين مكارثي في حديث لـDW.
وتشدد عاملة الإغاثة على ضرورة تلقي العلاج؛ إذ أن الضغط النفسي ربما يتطور ويصبح سُّمِّيّاً وينتج عنه اكتئاب ومشاكل صحية أخرى. "بالنسبة للأطفال، قد يؤثر الضغط السُّمِّيّ على الدماغ والسلوك ويؤدي إلى مشاكل عقلية في بلد يعتبر ذلك المرض وصمة اجتماعية سلبية". وإلى جانب الوصمة الاجتماعية يقف في وجه معالجة المشكلة مصاعب جمة كالنقص في الاخصائيين. تعمل منظمة "أنقذوا الأطفال" مع الحكومة العراقية لمواجهة المشكلة. "الأطفال الذين تعرضوا لصدمات ورضوض نفسية شديدة ربما يتسببوا بالعدوى لأقرانهم"، حسب ما جاء في تقرير "أنقذوا الأطفال".
وفي ختام تقريرهم يحذر الباحثون من أنه "إذا لم يتم التطرق ومعالجة الأسباب الجذرية للنزاع في العراق ولم يقدم منتهكوا حقوق الإنسان للعدالة، فإنّ الصدمة النفسية قد تصبح مرضاً مزمناً وتعيد إنتاج نفسها لعدة أجيال قادمة. عندها سيعاني كل المجتمع العراقي من ثقافة الوجع والأسى وإلى الأبد".
يوديت ينويرك/خ.س