«محرر الوطن» يروى شهادته: دخلت قبل «الفض» وخرجت بإصابة بخرطوش الإخوان
فض اعتصام رابعة العدوية
«ليس من رأى كمن سمع».. هذه العبارة الشهيرة تلخص الفارق بين توجهك وحكمك على «فض اعتصام رابعة» أياً كان، وبين تلك المشاهد التى رأيتها بعينى داخل الاعتصام قبل الفض بليلة، وصباح يوم الفض، وحتى إصابتى بالخرطوش أسفل عينى، بل ورؤيتى مُطلِق الخرطوش (عنصر إخوانى)، ومغادرتى ساحة المعركة، التى تسبب فيها قيادات الإخوان واستخدموا عناصرهم من الشباب والنساء.
فى الثالث عشر من أغسطس 2013 توجهتُ إلى الاعتصام لاستكشاف الأمر، ونجحت فى الدخول من البوابات التى أقامتها لجان الحراسة الإخوانية على أطراف الميدان، بعد تفتيش بسيط وسؤال عن سبب الدخول، وقتها أول ما لفت نظرى وجود نساء وأطفال بأعداد كبيرة، وإن كان الأمر يبدو غريباً، إن كنت لا تعلم سبب وجود هؤلاء فى تلك المنطقة بالذات، لكن الحياة الكاملة التى كانت بالداخل كانت توحى بتخطيط للبقاء مدة أطول على اعتبار أن ذلك يمثل ضغطاً وإحراجاً للدولة.
الصحفى طارق عباس: وقفت جوار مصور من قناة خاصة حتى مرت رصاصة على بعد سنتيمترات منا واستقرت فى لوحة إعلانية والقناصة على أسطح العمارات كانوا يستهدفون ممثلى وسائل الإعلام.. وآخرون أصابوا عدداً من ضباط وأفراد الشرطة بالخرطوش
طريقة الدخول كانت توحى بأنك على الحدود مع دولة أخرى، وداخل الخيام كان هناك طعام ونوم ولعب وقراءة وأحاديث جماعية وصور للرئيس المعزول محمد مرسى، وعبارات جهادية معلقة هنا وهناك، لكن كونك غريباً عن المكان لم يكن من السهل أن تتبادل الأحاديث مع أحدهم، ورغم أن نظرات المقيمين إليك لم ترق إلى السؤال عن الهوية أو سبب الوجود أو الانتماء للجماعة من عدمه، إلا أن الأمر كان يبدو خطيراً خاصة مع وجود أفراد بخوذات وعصى فى الميدان من الداخل يشكلون شرطة خاصة بهم.
فى نهاية اليوم، كانت الأمور على ما يرام بالنسبة للمعتصمين، الذين كان يغادر منهم عدد ويدخل أفراد آخرون فى عملية أشبه بالمناوبة للمبيت فى المنطقة بأعداد كبيرة حتى لا يتم السيطرة عليها من جانب الدولة، وكانت الأحاديث التحريضية على أشدها فى مكبرات الصوت على المنصة والتى تطالب «الإخوة المعتصمين» بالبقاء ومساندة الشرعية والمطالبة بعودة «مرسى» للحكم، وتصوير الأمر على أنه أقرب للتحقق فى ظل تماسكهم وإصرارهم.
غادرتُ ميدان رابعة العدوية، وفى اليوم التالى 14 أغسطس من عام 2013 تلقيت تكليفاً بالذهاب إلى هناك وتغطية عملية الفض، وكنت قد أغفلت إحضار أوراقى الثبوتية، ذهبت وترجلت إلى مقدمة الاعتصام من ناحية المنصة، حتى وجدت الشرطة تلقى القبض على بعض الأشخاص، وكانت أطراف الاعتصام من تلك الناحية تتقلص حتى وصلت إلى تقاطع شارع يوسف عباس، وكان هناك عدد من قوات الأمن يصطفون متأهبين لاشتباكات متوقعة، مع صوت صادر من مكبرات الصوت على عربات الشرطة يؤكد للمعتصمين أن النيابة سمحت بفض الاعتصام وأن عليهم المغادرة دون أعمال عنف أو شغب.
وكما هو الحال فى كل المداخل المؤدية للميدان، كانت هذه المنطقة محاطة بأكياس الرمل وحجارة الأرصفة المحطمة المرصوصة لتشكل مانعاً من الدخول، ووقفت إلى جوار مصور من إحدى القنوات الفضائية الخاصة، حتى سمعنا صوت رصاصة تمر على مقربة سنتيمترات من آذاننا، واستقرت فى حامل لوحة إعلانات إلى جوارنا، فقمنا بالابتعاد قليلاً لأن الأمر كان يبدو أنها رصاصة قناصة مقبلة من أحد أسطح العمارات وتستهدفنا كممثلى وسائل إعلام.
من خلال الكاميرا التى بحوزة الزميل، شاهدنا على شاشتها الصغيرة أشخاصاً يستخدمون «محطة البنزين» على ناصية يوسف عباس، كمأوى يدخلون إليه بسرعة، مع بدء تبادل إطلاق الرصاص بين الطرفين، خاصة بعد أن زادت كثافة النيران من جانب الإخوان المعتصمين، وكان معظمها طلقات خرطوش لتصيب العدد الأكبر من الضباط والأفراد، وتبادل شخصان يرتدى كل منهما ملابس سوداء وخوذة، إطلاق الخرطوش، أحدهما يتكئ على الأرض ويخرج ويطلق ويعود خلف الحائط، والثانى يقف وراءه ويصوب ويضرب ويدخل بالتبادل.
انتقلت إلى الممرات بين العمارات وكانت هناك مطاردة أمنية بين العناصر المسلحة وقوات الشرطة، وحاول الأهالى والسكان حماية عماراتهم بتشكيل حوائط بشرية أمام البوابات والمداخل حتى لا يصعد أحد إليها ويهدد السكان، فى الوقت الذى تعرضت فيه سيارات كثيرة للإتلاف بالخرطوش والرصاص المتبادل، فى ظل إصرار من العناصر المسلحة على عدم الاستسلام أو محاولة الخروج من الاعتصام دون التورط فى تلك المعركة.
شاهدناهم من خلال شاشة الكاميرا الصغيرة يستخدمون «محطة البنزين» كمأوى لتبادل إطلاق الرصاص مع الشرطة.. و«حرب عصابات» فى ممرات المساكن
استمر الوضع لأكثر من ساعتين، وزادت حدة تبادل إطلاق الرصاص، فيما كانت هناك مناطق أعلنت عنها أجهزة الأمن لخروج المعتصمين كممرات آمنة، إلا أن هناك 3 حاولوا الخروج أمامى من الاعتصام لكن الأمن ألقى القبض عليهم بعد أن بدا عليهم أنهم يحاولون الهروب مسرعين وليس الخروج الآمن، فقام ضابطان بتفتيشهما، ولا أعلم ماذا وجدا بحوزتهما بسبب المسافة بينى وبينهم، حتى قام ضابط شرطة بربط يدى أحدهم وقام بتوجيه لكمات له وشد شعر ذقنه بيده، فيما ضبطوا بعدها أيضاً شخصاً من جنسية أفريقية خارجاً من الاعتصام بعد فحص أوراقه وتبين وجود مشكلة بإقامته.
فى الجانب الآخر كنت قد اقتربت من بعض الأشجار القصيرة المحيطة بالعمارات المجاورة للبنزينة، وتلقيت اتصالاً من إحدى القنوات لإجراء مداخلة لشرح ملابسات الأمر من أرض الواقع، وقتها كان الخرطوش يطلق بكثافة من داخل البنزينة وشاهدت شخصاً يقف أمام الأشجار أصيب إصابة بالغة فى قدميه، وذكرت ذلك للمذيعة، وبينما لم أكمل الجملة إلا وشعرت بإصابة برش الخرطوش أسفل عينى اليسرى وفى الفخذ اليسرى، فأغلقت الخط، وحاولت التوجه لمستشفى لكنها كانت معاناة لحدوث مشادة كلامية مع أحد العسكريين الذى ظن أنى إخوانى خارج من الاعتصام، وتم إلقاء القبض علىّ حتى تم احتجازى فى ستاد القاهرة وخرجت بعدها بيومين.
ورغم كمية الأخبار والروايات المتداولة عن القتل الجماعى وما شابه، الذى حاولت الجماعة التسويق له، فإن ما رأيته من أسلحة بحوزة المعتصمين وقت الفض واستخدامها بكل القوة ضد قوات الشرطة كان يستدعى التدخل قبل أن تتحول تلك البؤرة لمنطقة إرهابية خارج سيطرة الدولة، وأى عاقل فى الوطن لا يقبل أن تسيطر جماعة أو تنظيم على مكان بهذه الطريقة، وما يدل على أنه لم يكن مسانداً للشرعية كما روج قادة الإخوان الذين هربوا فيما بعد، هو أن معظم المعتصمين حضروا من المحافظات لمجرد أنهم تم استدعاؤهم بأوتوبيسات وتم تعويضهم بالأموال لمجرد الحشد دون فهم أن ذلك تحدٍ لإرادة المصريين بتغيير نظام الحكم الإخوانى.
ويبقى أكثر من 700 شخص يحاكمون فى تلك القضية باتهامات متعددة، ويبقى قادة الإخوان هم المحرض الأول والمسئول الأساسى عن تلك المأساة الإنسانية التى راح ضحيتها عدد ليس بالقليل من الطرفين، فيما حاولوا هم الهروب، أحدهم مرتدياً «نقاباً»، والآخر حاول التسلل لدولة مجاورة، ولم يصمدوا فى الاعتصام كما طالبوا شباب الجماعة طيلة الاعتصام.