«مبارك» طلب عدم الهجوم على «جيهان السادات».. وقال: «علشان لما أموت يحترموا مراتى»
«مبارك» خلال حديثه لزكريا عزمى فى أحد الاجتماعات
والآن سأبدأ.. مشحوناً بطاقة الفيروس الخبىء، وبنسيم عطر ليلى التى طلبت، وبالإحساس بالخوف من أن يأتى زمن أو حالة يكون قد فات الأوان.. وفى لحظة ارتباك مليئة بالالتباس والادعاءات والمزاعم.. قررت أن أنجو بنفسى.. لأكتب وكتبت.. هكذا بدأ الدكتور رفعت السعيد مذكراته.
كانت الكتابة شفاء من هم ثقيل، والأوراق والأقلام دواء من أمراض مرت بالجسد الذى اختلط فيه همه الخاص وما تعرض له عبر سنوات طويلة، بهم أعم وأشمل يرتبط بالوطن وما حل به بعد أن حاولت جماعة الإخوان السيطرة عليه هنا كانت الأزمة الحقيقية للدكتور رفعت السعيد، الجماعة التى قضى عمره فى حرب معها، تحاول السيطرة على مفاصل الدولة المصرية.. تحول الرجل الذى وصل وقتها إلى الثمانين من عمره إلى مقاتل شرس، يكشف التاريخ الحقيقى للجماعة، ويحلل الأهداف المستقبلية التى تسعى إليه.. وبدأت حرب جديدة.. خاضها دون كلل أو ملل، ليلتقط أنفاسه بعد الخلاص منهم ويبدأ فى تدوين ذكرياته تحت عنوان «ما تبقى من ذكريات» التى انفردت بها «الوطن» ليستكمل التجربة فى آخر كتبه، الذى انفردت «الوطن» بنشر فصول منه.. «مقاربات مع 3 رؤساء ومشير» وهو الذى يكشف تفاصيل دقيقة عن علاقته بالقصر الحاكم من أيام جمال عبدالناصر وحتى الآن، مروراً بالجملة الاعتراضية التى وصل فيها الإخوان للسلطة.. اليوم «الوطن» تنشر المذكرات التى يتحدث فيها عن علاقته بمبارك.
رفعت السعيد يتذكر فى كتابه الأخير ما حدث مع «عبدالناصر والسادات ومبارك وطنطاوى»
وربما لأن مدة حكم مبارك قد استطالت زمناً طويلاً.. فاستطالت معها تراكمات الأحداث والمقاربات، أو ربما لأن مبارك كان الأكثر تباسطاً «معى على الأقل» من عبدالناصر ثم السادات.. فإن المقاربات يمكنها إن حاولت التقارب معها كتابة أن تستغرق الكثير من الكتابة، وقد تتراكم لتصل إلى مجلد لا يمكن الاطمئنان إلى تواصل القارئ عبر صفحاته علماً بأن بعضها قد يبدو بالنسبة لى ملائماً للنشر أو معبراً عن شخصية الرئيس، لكنه قد يبدو فى نظر البعض ليس مما يمكن اعتباره فى التقييمات التاريخية جديراً بالمعرفة (ألم نقل أكثر من مرة إن علم التاريخ عند الإغريق القدامى هو علم إيراد الأحداث الجديرة بالمعرفة التى وقعت فى الماضى)، ومن ثم لا مناص من الانتقاء وليغفر لى القارئ إذا تلمس البحث عن شىء فلم يجده، فعبر مقاربات وتعاملات استمرت ثلاثين عاماً يمكن لشجرة الذاكرة حتى وإن اعتمدت على بعض مدونات سجلتها للتذكرة أن تتساقط بعض أوراقها أو حتى ثمارها، وطبعاً ولأن الأحداث قريبة ولأنها قد تماست مع شخصيات لم تزل فاعلة فى الحياة العامة.. فلسوف أحتفظ ببعضها دون إشهار.. أو سأحتفظ ببعض الأسماء.. أما الخصوم السياسيون كقيادات جماعة الإخوان الإرهابية فإن ضميرى لا يسمح لى بأن أهاجم أو أقتحم بعضاً مما فعلت هذه الجماعة.. فلست وغداً إلى درجة أن أهاجم خصماً فى محنة ومكمم القلم ولا يستطيع الدفاع عن نفسه.
«مبارك» وصف العراقيين بـ«المتشددين».. والساسة السوريين «تجار مهرة».. و«أبوعمار» بيتكلم بروحين و«القذافى» عبيط بيرتب لنسف السد العالى.. فقلت له نسيت اليمن الجنوبى فانفجر ضاحكاً: «دول مجموعات قبلية متصارعة».. ويحيى الجمل حاول أن يفسح مساحة للتعامل مع «مبارك» وقال له: «نحن لنا علاقات عربية واسعة ويمكن أن نوظفها لصالحكم».. فرد عليه: «هذه مسائل سيادية ولا يجوز لأحد أن يتدخل فيها»
ولنبدأ
وبطبيعة الحال سنبدأ باللقاء الأول، فبعد وصول الرئيس إلى السلطة.. بفترة وجيزة اتصل د. أسامة الباز ورتب اللقاء (ولم يكن د. زكريا عزمى قد ظهر فى الأفق بعد) وذهب وفد من التجمع ليقابل الرئيس.. الأستاذ خالد ود. يحيى الجمل وعبدالعظيم المغربى وأنا، وكان مبارك ودوداً ودائم الابتسام وعندما دخل علينا أدى التحية العسكرية بجدية تامة للأستاذ خالد.. الذى قدمنا له.. وما إن قدمنى له حتى قال ضاحكاً منك لله طلبت ملفك لأعرف معلومات عنك فكل عدة صفحات أقرأ قُبض عليه، حُكم عليه، سُجن.. انت إيه يا ابنى؟ ولم أجد ما أرد به، لكنه لم يفته أن يفعلها مع د. يحيى الجمل.. فكما رأيته بعد ذلك وهو يفعلها عشرات المرات مع كثيرين تلمس «كرشه» قائلاً: كرشك كبر يا دكتور يحيى، فقلت محاولاً إذابة ما قد يعلق بالأذهان من هذه العبارة «نبعته يا سيادة الرئيس ليلعب معك إسكواش» فنظر إلىّ الرئيس نظرة إشفاق، وبدأ الحديث مغلفاً بالمودة.. وتعلقت بالذاكرة فقرتان الأولى.. عندما قال الأستاذ خالد: يا سيادة الريس فى السنوات الأخيرة كان ثمة تصادمات عديدة وشد وجذب بيننا وبين الرئيس الراحل السادات الذى كان يفاجئنا كل يوم بقرار يجعل من تجاوزه خطاً أحمر، ونحن نريد أن نقلل الخطوط الحمراء التى كانت مفتعلة أيام الرئيس الراحل.. فقال مبارك: مفيش خطوط حمراء فقط لا تتصادموا مع ذوى الكابات الحمراء (قادة الجيش) والثانية لا تهاجموا السيدة جيهان السادات.. فقال الأستاذ خالد: نحن نحترم القوات المسلحة وقياداتها.. وصمت، وأنا سألت «أنا لست معترضاً على موضوع السيدة جيهان لكن تسمح لى عايز أعرف ليه حضرتك طلبت كده؟» فأجاب إجابة لم تزل ماثلة أمامى خاصة بعد ما حدث لأسرة مبارك.. فقال «علشان أضمن لما أموت إن محدش يشتم مراتى» (ودار الزمان ليأتى بما لم نتوقعه ولم يتوقعه أحد)، أما الفقرة الثانية فعندما حاول يحيى الجمل أن يفسح مساحة للتعامل، وقال نحن لنا علاقات عربية واسعة ويمكن أن نوظفها لصالحكم، فرد مبارك: هذه مسائل سيادية ولا يجوز لأحد أن يتدخل فيها، ثم تطرق الحديث إلى الحكام العرب فكانت رؤية مبارك تتبدى مبسطة وإن كانت تتلامس مع طبيعة كل رئيس منهم، صدام (العراقيون دائماً متشددون والتعامل معهم صعب) الأسد (الساسة السوريون يتعاملون معنا كتجار مهرة يتظاهرون بالمودة والطيبة لكنهم يسعون لأكبر كسب ممكن).. ومضى ليذكر ملاحظاته على كل رئيس، فمثلاً عن أبوعمار قال بيتكلم بروحين فهو يبدى رأياً ثم يدفع أحد رجاله ليقول رأياً معاكساً.. ثم يتصرف وفق منطق آخر، أما عن القذافى فقال مخادع ولكن عبيط، وكلما تقارب وطلب المصالحة نعلن حالة طوارئ تجاه التصرفات الليبية، وساعتها نكتشف أنه يدبر مؤامرة ضدنا، وصمت قليلاً وقال: تصوروا كان بيرتب إنه ينسف السد العالى.. المهم اختتم مبارك تقييم الرؤساء العرب دون أن يذكر جمهورية اليمن الجنوبى، فقلت حضرتك نسيت اليمن الجنوبى.. فانفجر ضاحكاً.. وقال وقعت فى الفخ.. مش انت كتبت عنها النجم الأحمر الساطع فى سماء اليمن.. دول مش دولة دول مجموعات قبلية متصارعة، وفيما حاولت الرد قال مبارك: تقبل شهادة خالد بك.. فقلت طبعاً، فتحدث مبارك متسائلاً يا خالد بك الراجل ده وأشار إلىّ يقول إن الماركسية هى نظرية علمية.. ونظر إلىّ قائلاً صح؟ فقلت صح، فقال فين الدولة الماركسية؟ هم مجموعات تدعى الماركسية لكنهم فى الجوهر قبليون.. وهو يعنى طائر النظرية العلمية والعلم رفرف فوق العالم العربى كله، ومالقاش غير أكثر البلاد أمية وتخلفاً وأقام دولته هناك.. ومضت المناقشة سلسة بعد ذلك. ومضت العلاقات بعدها سلسة هى أيضاً.
ثم كانت غضبة تلاشت سريعاً، بعد وصول مبارك إلى السلطة كنت أزور دمشق وكان الرئيس حافظ الأسد يقابلنى كلما مررت هناك، وفيما كنت جالساً عنده جاء اتصال تليفونى.. فقال الأسد بعد أن استمع للمتحدث انتظر، ثم توجه لى.. أحمد حمروش وصل الآن لمطار دمشق، ونحن نعلم أنه مقبل لدعوة لجنة التضامن الآسيوى الأفريقى السورية إلى اجتماع لجان التضامن العربية بالقاهرة لإصدار بيان بتأييد مبارك ومساندته، فما رأيك؟ قلت نحن لم نزل نحاذر من تأييد مبارك، لأنه لا يكف عن التصريح بأنه سيتبع سياسات السادات ونحن اختلفنا مع السادات ومع سياساته، ومن ثم صعب جداً أن نقول نحن نؤيده، وأنا أقترح ألا تحضروا الاجتماع فأنت ثلاثة أصوات، فقال: كيف؟ فقلت: معكم صوتكم وصوت لجنة التضامن الفلسطينية (عبدالمحسن أبوميزر) ولجنة التضامن اللبنانية، فضحك: أنت تعرف قواعد اللعبة، وماذا عن الآخرين؟ فقلت لجنة التضامن فى اليمن الجنوبى سألتنا وأجبنا بأن نتريث حتى نتابع بعضاً من ممارسات مبارك.. ولم يرد الرئيس حافظ فقط أعاد سماعة التليفون وقال يمنع دخول أحمد حمروش ويعود على ذات الطائرة التى أتى بها.. وفيما حاولت أن أعترض على هذا الأسلوب.. وضع سماعة التليفون وقال «صار» وحاولت إقناعه بالسماح بدخوله ورفض الحضور، قال «صار» انت شرحت موقفك ونحن تصرفنا بمنطقنا.
لكن المثير للدهشة هو أن مبارك عاتب الأسد (وكانا صديقين حميمين لأن مبارك عاش زمناً هو وأسرته فى دمشق قائداً لسرب طيران مصرى لتعزيز سوريا، وكان الأسد وقتها قائد سلاح الطيران، وقال له الأسد فعلنا ذلك بناء على طلب رفعت السعيد، وعاتبنى أسامة الباز نيابة عن الرئيس، وأضاف إلى عتابه أحسن تبعد عن العلاقات مع الرؤساء، لكن العلاقات أتت هذه المرة مع أمريكا، ففجأة وبعد غياب طويل فى أمريكا انقضت علينا مدام صوصة (لتقول إنها صاحبة المبنى حيث يوجد المقر المركزى) وقال محاميها الذى أتى معها: أوراقنا جاهزة ومستندات الملكية معنا، والحراسة سقطت ومن ثم تسقط معها تصرفاتها، والسيدة المتأمركة عجوز متعجرفة لا تعترف بأى حقوق للغير، فقط تقول «هذا المبنى ملكى.. واتفضلوا اخرجوا بره، حاولت أن أشرح لها بهدوء أن الأمر ليس بهذه البساطة وأن عقد الإيجار يحتفظ بحجيته حتى لو انزاحت الحراسة، لكنها رفعت صراخاً مفعماً بتهديد بأنها ستلجأ للسفارة الأمريكية والسفارة قادرة على طردنا.. وخرجت غاضبة بينما تتناثر شتائمها بالعربية والإنجليزية، والمثير للدهشة أن السفارة الأمريكية حاولت فعلاً أن تتدخل، واتصلت ببعض المسئولين الذى ردوا بأنه لا مجال لطردنا من المقر بهذا الأسلوب.
وكان أن أتى إلى مكتبى المستشار السياسى للسفارة، حاول إخافتى فى البداية وذكر وبشكل عارض لكنه ماكر أسماء مثل زكريا عزمى ووزير الداخلية ثم أقحم اسم الرئيس مبارك فى الأمر، وقال إن السيدة أتت معززة برسائل من أعضاء بالكونجرس، وإن السفير مهتم شخصياً بالأمر، وإنه قد يضطر إلى مفاتحة الرئيس مبارك فى الأمر.. وأوضح أنه شخصياً لا يفهم كيف أن مالكاً لا يستطيع أن يتخلص من مستأجر لا يريده، وكان «كروكر» (وهذا اسم المستشار السياسى.. الذى أصبح فيما بعد شهيراً جداً فى أحداث بيروت والعراق وباكستان) متعجرفاً، وكأنه يمتلك علينا حق السيادة ثم فجأة ولما وجدنى مصمماً على موقفى سألنى كم تريد لإخلاء هذا المبنى (ولا أدرى لماذا تخيلت ساعتها أنه يساومنى شخصياً، وأنه يريد بأى ثمن أن يبعدنا عن مقر فى قلب المدينة وتعقد فيه مؤتمرات شبه يومية تهاجم فيها أمريكا وعملاؤها وأصدقاؤها) وحاول كروكر بلطف دبلوماسى أن يهددنى، وقال تقريباً «لقد قررنا أن نأخذ هذا المقر منكم وسنأخذه» فقلت غاضباً «نحن نكرهكم بما يكفى ويزيد، فلا تدفعنا إلى مزيد من الكراهية، وخرج كروكر غاضباً.. أما السيدة صوصة فقد وجدت مشترياً للمنزل بثمن بخس وباعته ورحلت، وبعدها بأسبوع واحد أتى د. إبراهيم سعد الدين، وكان يقيم على ناصية شارع ضيق أنيق من تلك الشوارع التى تتهادى من شارع مراد أمام حديقة الحيوان نحو الحديقة وفى الطرف الآخر نحو النيل، وقال «الأمريكيون يحتلون الآن فيلا فى هذا الشارع ويعرقلون المرور فيه كل مساء حيث تحتل سيارات نقل ضخمة الشارع فى المساء أساساً، بينما المارينز يحتلون الشارع والجانب الملاصق لسور حديقة الحيوان وضفة النيل من الناحية الأخرى وأسطح المنازل على ناحيتى الشارع وهناك معدات ضخمة تحملها أوناش ضخمة إلى داخل الفيلا بينما يجرى تثبيت أعمدة ضخمة أعلى سطح الفيلا، ثم كانت مصادفة أخرى لا تتكرر كثيراً فقد حضر زميل لنا يعمل مهندساً معمارياً، وقال إن خاله يعمل مهندساً متخصصاً فى أجهزة الإرسال والاستقبال بالسفارة الأمريكية منذ زمن طويل قد أحضر له الرسوم المعمارية للفيلا وللأساسات التى أقيمت عليها وطلب رأيه فى إمكانية احتمال المبنى لأجهزة تبلغ عدة أطنان.. وأنه طلب منه عدم الحديث فى ذلك الأمر مع أى إنسان، لأن الأمر سرى للغاية ومنحه مبلغاً ضخماً نظير الاستشارة، وقال له وهو يحذره بالفيلا أجهزة حساسة جداً ولا يجوز لأحد أن يعرف مكانها، ولم أكن بحاجة إلى مزيد، وقررت أن ألقن «كروكر» درساً، وفى الأربعاء التالى كان مانشيت الصفحة الأولى فى «الأهالى» «مركز للمخابرات الأمريكية فى فيلا بالجيزة» وفى متن الخبر اسم الشارع ورقم الفيلا وصور المارينز.. وفى صباح ذات اليوم حضر كروكر وكان منزعجاً جداً، وإن كان فى البداية حاول أن يقلل من خطورة الأمر مؤكداً أن ما فى الفيلا مجرد مكتب عادى، قلت إذن لا مبرر للانزعاج، لكنه كان منزعجاً فعلاً، وفيما يغادر تلكأ عند فوهة السلم حيث لا مجال لتسجيلات، وقال: هل يمكن أن أسألك سؤالاً؟ قلت: تفضل، قال أعرف أنك رجل مباشر، وسأكون مباشراً معك وأحدثك بصراحة، وقال: الخبر بذاته أضر بنا لكنه ضرر يمكن تلافيه.. وقد اكتشفنا أننا ارتكبنا فى هذا المكان أخطاء ساذجة.. فالبعض عندنا تصوروا أنهم فى بلد من بلدان أفريقيا السوداء وتصرفوا بغباء.. وأقول لك بصراحة الخبر الذى نشرتموه صحيح وقد قررنا نقل كل المهمة خارج مصر، وصمت قليلاً وقال هادئاً: تكلمت معك بصراحة كاملة فهل تجيبنى بصراحة؟ ثم قذف نحوى بسؤال حيرنى قائلاً «غضبنا من نشركم للخبر لكن ما أفزع السفير أنه يعتقد أن مبارك أراد أن يضربنا من تحت المائدة وأنه علم بالخبر وسربه لكم، كسبيل غير مباشر لإبعاد محاولتنا لإيجاد «محطة» قوية لنا فى القاهرة، وقلت بصراحة لقد اشتكى جيرانكم من الضوضاء واحتكاكات المارينز الاستفزازية بهم.. فأرسلنا صحفياً تأكد من الأمر، فسأل مرة أخرى فعلاً؟ قلت فعلاً، فقال: ألم أقل لك إن بعض رجالنا يتصرف بغباء. وصافحنى وهز يدى بقوة وهو يقول هامساً «تقبل منى نصيحة، أنا أحببت فيك أنك خصم مباشر وشريف وتتصرف كرجل حقيقى.. لهذا أنصحك لا تتعمدوا الدوس على ألغامنا ولا تستثيروا غضب المؤسسة فحتى الكبار فيها قد يتصرفون بحماقة»، وسألته هامساً هل أنتم لا تثقون بمبارك إلى هذه الدرجة؟.. فقال بصراحة «نحن من حيث المبدأ لا نثق فى أى مسئول ولكن مبارك بالذات مراوغ ولا نعرف فى كثير من الأحيان ماذا يريد منا ولنا بالضبط».
سألنا «مبارك» عن الخطوط الحمراء فقال: «مفيش.. لا تتصادموا مع أصحاب الكابات الحمراء».. وكان يقصد قادة الجيش
وكان مبارك فى أحيان كثيرة يوجه انتقادات لرجاله أمام الجميع لعلها تأتى كتحذير فى ثياب فكاهة أو لإشهار أنه ليس كبقية رجاله.. لكنه ظل يفعلها باستمرار وأكثر من مرة (حكيت قصته مع دكتور يحيى الجمل فى أول زيارة له كرئيس عندما تحسس كرشه قائلاً «كرشك كبر يا دكتور يحيى») كانت هذه العبارة هى انتقاده أو حتى تحذيره المفضل.. وقد كررها عديداً من المرات مع الوزير كمال الشاذلى الذى اعتاد يتقبلها ضاحكاً وقائلاً «من فضلة خيرك يا ريس»، لكن تعليقات الرئيس العلنية ظلت دائماً مثاراً لمخاوف وتساؤل رجاله عن السر فى هذا التحذير أو ذاك بشكل علنى، وأذكر أن رجل أعمال شهيراً أصبح محسوباً على شلة جمال مبارك وكان يمتلك مشاريع كثيرة بالضبعة أو بالقرب منها.. ظل وكلما قابل شخصاً مهماً أو شبه مهم يقسم له أن الضبعة هى أسوأ مكان يمكن أن يبنى فيه المفاعل النووى ويحكى قصة عن اتجاهات الرياح التى ستحمل الإشعاعات إذا وقع خلل فى المفاعل والتى ستؤدى إلى فناء أغلب سكان الوجه البحرى.. وكنت أنا واحداً ممن تلقوا هذا التحذير خاصة بعد أن تحدثت فى مجلس الشورى قائلاً: إن للشعب المصرى قاموسه الخاص فعندما يتكلم عن مفاعل نووى فهو يعنى بالتحديد «الضبعة»، ويبدو أن هذا المستثمر الكبير قد ثرثر بذلك مع البعض حتى وصلت للرئيس.. وفى مؤتمر عام وفيما الناس ينصرفون صاح مبارك بالمستثمر «يا فلان.. ابعد عن موضوع الضبعة»، وكاد الرجل يغمى عليه، وأكثر من مرة فعلها مبارك.
وحتى فى يوم كتب كتاب ابنة كمال الشاذلى وأمام جميع المدعوين صاح مبارك ضاحكاً فى المأذون وكان عضواً فى مجلس الشعب «بذمتك يا شيخ حسن، كمال خد منك كام علشان تكتب كتاب بنته»، وهناك أيضاً حكايتى مع فاروق حسنى.. ففى يوم كتب كتاب جمال مبارك وقف الرئيس والسيدة سوزان وإلى جوارهما جمال وحرمه لتلقى التهانى وتراكم المهنئون كالعادة، وتباعد البعض حتى يخف الزحام وكنت من المتباعدين واقتربت عندما أوشك الطابور على الانتهاء وفيما أصافح الرئيس مهنئاً فاجأنى قائلاً: عايزينك تكتب كتاب تهاجم فيه فاروق حسنى، ووجدت نفسى أقول: «يا سيادة الرئيس بعد مائتين أو ثلاثمائة سنة سيكتب المؤرخون أنه كان هناك وزير اسمه فاروق حسنى فى زمن الرئيس مبارك وقد قام هذا الوزير بإعادة إعمار وترميم الآثار الإسلامية والقبطية فحافظ عليها»، وفوجئت بمبارك يخاطب شخصاً خلفى قائلاً: «ابسط يا عم آدى شهادة لصالحك»، والتفت لأجد خلفى فاروق حسنى، وظل مبارك لسبب ما كلما رآنى وكان فاروق حسنى حاضراً يسأل كتبت الكتاب ضد فاروق؟ وظللت أجيب يا ريس فاروق حسنى صديقى ومش حاكتب حاجة ضده، وحاول البعض ممن شهدوا هذا التحريض المتكرر تفسير الأمر بتفسيرات لم أهتم بها، واستخدم مبارك ذات الأسلوب معى عندما حاول أن يتحسس موقفى إزاء توريث جمال، فسألنى أكثر من مرة «بيقولوا إنى عاوز أورث جمال» وكنت أجيب بإجابات غير واضحة، ولكن فيها من الرفض أكثر مما فيها من قبول، مثل «خليهم يقولوا المهم حضرتك حتقول إيه؟» وأكثر من مرة لم أجب بنعم أو لا، ففاجأنى يوم احتفال بعيد من أعياد الشرطة وفيما نغادر صاح فى: يا رفعت يا زئبقى واقتربت وحاولت أن أشرح موقفى ووجدت نفسى أتقارب فأضع يدى على كتفه وهنا انقض حبيب العادلى ليزيح يدى من على كتف الرئيس، فالتفت إليه الرئيس: سيبه مفيش حاجة لما يحط إيده على كتفى.. ثم قال ابعد عنه ده زئبقى ولا يمكن تاخد منه جواب صريح.
بعد وصول «مبارك» للسلطة بفترة وجيزة رتب «الباز» لقاء معه وذهب وفد من «التجمع» ليقابله وكان ودوداً ومبتسماً فدخل علينا وأدى التحية العسكرية وقال لى ضاحكاً: «طلبت ملفك لأعرف معلومات عنك.. وكل عدة صفحات أقرأ قُبض عليه.. سُجن.. حُكم عليه.. انت إيه يا ابنى؟»..وفى المراحل الأخيرة من مرض الباوا شنودة همس أحد أحبائه فى أذنى: «قداسة البابا مريض جداً» فاتصلت به تليفونياً فرد أحد المرافقين له وقال: «قداسته بخير لكنه يستريح الآن» وسمعت صوتاً يسأل بحدة: «مين؟».. فقال: «رفعت السعيد».. فصاح: «هات».. وحدثنى متظاهراً بالضحك
وفى يوم أحسست «وهذا مجرد إحساس» أن مبارك ضاق ذرعاً بحلقة النار التى فرضها زكريا عزمى ليمنع أى اتصال بالرئيس عن غير طريقه، فقد اتصل بى وزير الإعلام أنس الفقى معاتباً على مقالين نشرا بالأهرام، (ولم أكن أعرف سر السماح بنشر مقالين متتاليين هاجمت فيهما أحمد عز وقلت إن انتخابات 2010 هى الأسوأ فى تاريخ مصر الحديث)، وبعد المعاتبة التى تبدت فى ثناياها إيماءات بالموافقة على ما كتبت قال تعالى نكمل النقاش فى مكتبى، وزرته فإذا به يفاجئنى: عايز تكلم الريس؟ وقبل أن أجيب نظر إلى ساعة الحائط وقال هو دلوقتى بيريح.. نشرب كمان قهوة ونطلبه وسألته إيه المناسبة؟ فقال أبداً أنا عايزك تشرح له موقفك، وتلاحمت علامات تعجب وقلت ممكن، ونظر نظرة أخرى إلى ساعة الحائط ويبدو أنه توقيت متفق عليه مسبقاً، ونهض الوزير وأدار رقماً وطلب الرئيس مخترقاً حلقة النار، أو بالدقة متعمداً اختراقها، مستنداً شكلياً إلى شكوى منى، وتحدث أنس إلى الرئيس واستأذن أن أشرح وجهة نظرى فى الانتخابات، وتبدى مبارك ودوداً واستمع إلى وجهة نظرى، وقلت عبارة يبدو أنها متجاوزة، وهى أن الأمر يهدد مصداقية النظام ككل، فقال مبارك ضاحكاً: مش قوى كده، وكنت وأنا أتحدث أتابع حالة الارتياح الشديد على وجه أنس الفقى، وأدركت ساعتها أن مبارك يحاول أن يقاوم حلقة النار التى يحكمها زكريا عزمى وجمال معاً أو هذا ما تخيلت.
والحقيقة أن مبارك كان يستمتع أحياناً بإرباك رجاله حتى كبار كبارهم، فأثناء زيارته لمجلس الشورى ليفتتح الإصلاحات بعد الحريق وفى الاجتماع تحدث عن ضرورة الضرائب التصاعدية كسبيل لتحقيق تقدم جاد لمصر، وكان رده: بيقولوا إن ده يطفش المستثمرين، فقلت «طيب يقولوا هل فيه بلد مفيهوش ضرائب تصاعدية؟ مش حيلاقوا» وفى نهاية الاجتماع وفيما الجميع يحيطون بالرئيس تقرباً نادانى وانتحى بى وسرنا معاً بعيداً عن الجميع وهمس فى أذنى وهو يضع يده على كتفى قائلاً: «خليهم يضربوا أخماس فى أسداس بس انت متقولش، وفيما يغادر صاح خلى بالك، اللى ضد الضرائب التصاعدية هيقطعوك، فقلت بصوت مرتفع أنا مبخافش، ولزمن ظل صفوت الشريف وغيره من علية القوم ينظرون إلىّ ويتوددون لكن أحداً لم يتجاسر أن يسألنى ماذا قال الرئيس وهو يضع يده على كتفى ويتهامس معى.
ولعل كثيرين لا يعرفون أن مبارك لم يتبادل أبداً أى حديث مع البابا شنودة ولو بمكالمة تليفونية، ورغم علاقتى الوثيقة بقداسة البابا فإننى لم أسأله لماذا؟ خشية إحساسه بأننى استثقل مهمة التواصل بينهما، لكن أحد الأساقفة قال «لسببين أولهما أن قداسة البابا حاول الاتصال من الدير لتهنئة مبارك بتوليه رئاسة الجمهورية فأبلغوه أن الرئيس سيرد عليه بعد فترة ولم يرد، والسبب الثانى أنه ظل مستمراً فى احتجاز قداسة البابا بالدير لفترة طويلة بعد رحيل السادات»، والحقيقة أننى أنا شخصياً سألت الرئيس مبارك فى مقابلة معه، لماذا لا يعود البابا إلى ممارسة دوره البابوى فقال «انتظر شوية لأنى مش عايز مشاكل مع اللى بتسميهم انت المتأسلمين» المهم وقعت مهمة التواصل بينهما على عاتقى وكانت مهمة صعبة ولكنها مثمرة.
وقد تواصلت العلاقات مفعمة بمحاولات تجنب التصادم. وثمة نماذج.. ففى ذات يوم كلمنى د. زكريا عزمى طالباً أن أزوره فى مكتبه بقصر عابدين.. وقال لى: الدكتور زقزوق «وكان وزيراً آنذاك للأوقاف» كتب تقريراً للرئيس عن زيارة قام بها للنمسا، وهناك لاحظ حالة من الاحتقان وسط الأقباط خاصة أن أعداداً من مجلة الكرازة المرقسية كانت توزع عليهم حاملة شكاوى وحالات من الغضب القبطى، وأضاف: الرئيس عايز يعرف إيه أهم طلباته وتحاول معاه وتراضيه، وفيما أغادر قال لى د. زكريا عزمى: لا تقول له إن الرئيس باعتك هاتها من عندك، وبالفعل زرت قداسة البابا فى الدير وسألته عن الأحوال وكالعادة كانت هناك شكاوى عديدة، وقال مثلاً أنا طلبت كنيستين فى الواحات وقالوا لى الرئيس وافق ولكن فاتت سنتين ولسه مفيش موافقة، وانت عارف أن المسيحى لما يتولد بيتعمد فى الكنيسة ولما يتجوز يتجوز فى الكنيسة ولما يموت يصلوا عليه فى الكنيسة، فتصور واحد يشيلوه وهو ميت على حمار علشان يصلوا عليه فى كنيسة الخارجة والمسافة من قرية موط للخارجة 200 كيلو، وبعدها سألته فيه شكوى تانية ولم يجب وسألت مثلاً عايز محافظ قبطى؟ فقال ده إذا كان مسموح لنا بمحافظ وهل لديك مرشح فقال؟ رتب الحاجات دى مع ثروت باسيلى، وفيما أغادر نادانى قداسة البابا وقال ضاحكاً، زى ما قالولك متقوليش إن همه اللى بعتوك أنا بقول لك متقولش لهم إنى طلبت حاجة.
وعدت إلى د. زكريا حاملاً الطلبين فتركنى جالساً لفترة ثم عاد حاملاً طلباً من الكاتدرائية مؤرخاً منذ سنتين ببناء كنيسة فى «موط» وتأشيرة الرئيس لا مانع، وقال روح لحبيب العادلى وشوف معاه الموضوع، وذهبت للعادلى وكانت التعليمات قد وصلته، فاتصل بمدير أمن الوادى الجديد الذى قال له: هم لم يحضروا أى عقد ملكية يثبت ملكيتهم للأرض، وقلت يمكن الأرض دى مملوكة للكنيسة من مائتى سنة وحتى النهارده مفيش شهر عقارى فى موط، وشخط العادلى فى مدير الأمن اتصرف، وتصرف وبنيت الكنيسة، أما المحافظ فقد رشح د. ثروت باسيلى طبيباً اسمه اكلمنديس، وضحك د. زكريا: معقول يبقى فىه محافظ اسمه اكلمنديس؟ وكنت أدرك من البداية أن أى محافظ سيتم اختياره وفق معايير خاصة جداً.. ولن تكون باختيار الكنيسة وبالفعل تم اختيار لواء جيش مسيحى محافظاً للأقصر.
كان «مبارك» فى أحيان كثيرة يوجه انتقادات لرجاله أمام الجميع لعلها تأتى كتحذير فى ثياب فكاهة وكان يقول لكمال الشاذلى: «كرشك كبر» ويرد: «من فضلة خيرك يا ريس».. وقالها لـ«الجمل» فقلت له: «خليه يلعب إسكواش معاك»
ومن طرائف الوساطة التليفونية أن قال قداسة البابا وهو يضحك كعادته شاكياً: «تصور فيه أستاذ بكلية الطب يصمم أن يمتحن الطلبة الأقباط شفوى يوم عيد الميلاد المجيد»، وأنه كان بيمتحن طالب مسيحى شفوى وسأله اسمك إيه فأجاب مجدى - مجدى إيه؟ إبراهيم - إبراهيم إيه؟ كامل - وضيق الأستاذ على الطالب الخناق فاضطر أن يفصح عن اسم أبو الجد.. وأجاب «بطاريس» فطرده الأستاذ قائلاً: «أنا باسقط بطرس واحد، عايزنى أنجح بطاريس.. مرة أخرى أقول إن قداسة البابا رواها كنكتة وهو يضحك «لكنه ضحك كالبكاء» وحكيت القصة للرئيس تليفونياً فقال كلم حسين كامل بهاء الدين وشوف حل مع الأستاذ ده وبلاش امتحانات يوم عيد الأقباط.
واتصلت بالدكتور حسين وكان آنذاك وزير التعليم والتعليم العالى فاعتذر قائلاً: هذا الدكتور كان أستاذى وفى الطب نحن نحترم الأقدميات وأنا لا أستطيع أن أجبره على شىء.
ونقلت الموضوع إلى د. زكريا عزمى وبعدها بيوم كلمنى وقال خلاص يا سيدى الرئيس سيصدر مرسوماً باعتبار 7 يناير إجازة رسمية، وممكن كمان نعمل عيد القيامة أجازة، واتصلت على الفور بقداسة البابا وكان سعيداً، وقال لى ستذكر لك الكنيسة أنك صاحب هذا العيد.. أما عيد القيامة فقد اعترض البابا قائلاً: هناك خلافات حول موضوع القيامة بين الأقباط والمسلمين، واتصلت بالدكتور زكريا فقال والله البابا طلع أشطر مننا.
ولكن ورغم كل محاولات مبارك إرضاء أو حتى استرضاء البابا فقد ظلت العلاقات غائمة بينهما وكأنها مهيأة لأن تمطر ولكنها لم تمطر.
وذات يوم صدور الأحكام فى قضية قرية الكشح اتصل مكتب البابا: «قداسة البابا عايز يشوفك»، وذهبت على الفور لأجده غاضباً بصورة لم أره عليها من قبل، وصاح وأنا داخل إلى مكتبه وكان محاطاً بقيادات كنسية عدة «روح قول له أن دم الأقباط مش ميه» قالها وكأنه يهدد، وحاولت تهدئته وفشلت وغادرته وهو أشد غضباً مما كان فى بداية اللقاء بعد أن تناثرت تعليقات ومعلومات من القيادات الكنسية الحاضرة. وتحدثت إلى د. زكريا وبعدها طلبنى الرئيس وقال قول للبابا أن النيابة ستطعن على الأحكام، (وكان أغلبها بالبراءة أو أحكام خفيفة بتهمة التجمهر أو إحراز سلاح بدون ترخيص)، ولم يقتنع البابا، وبالفعل تحقق ما توقعه فقد جاءت أحكام النقض بتأكيد ذات الأحكام تقريباً ومرة أخرى علق مبارك «نعمل إيه إذا كان ورق التحقيق بايظ».
حاول «مبارك» أن يتحسس موقفى إزاء توريث جمال فسألنى أكثر من مرة: «بيقولوا إنى عاوز أورث جمال» وكنت أجيب بإجابات غير واضحة.. ولم أجب بنعم أو لا.. وفى احتفالات عيد الشرطة حاولت أن أشرح موقفى واقتربت من الرئيس ووضعت يدى على كتفه فانقض حبيب العادلى ليزيح يدى فقال له «مبارك»: «سيبه.. ده زئبقى ولا يمكن تاخد منه جواب صريح».. و«الأسد» و«مبارك» كانا صديقين حميمين لأن الأخير عاش زمناً هو وأسرته فى «دمشق» قائداً لسرب طيران مصرى لتعزيز سوريا وكان «الأسد» وقتها قائد سلاح الطيران وصفوت الشريف كان عند حديثى فى المجلس يعطين
وفيما كانت دماء الكشح لم تجف بعد كان هناك تجديد نصفى لعضوية مجلس الشورى وطبعاً ستكون هناك تعيينات لأعضاء جدد، وخطرت فى بالى فكرة لإرضاء البابا فاتصلت بالدكتور زكريا وعرضت عليه فكرة أن يعين مسيحياً من قرية الكشح فى الشورى، وبعدها بساعتين اتصل د. زكريا سائلاً: صاحبك عنده اقتراح باسم معين؟ وسألت صاحبى مين؟ قال البابا، قلت له البابا لم يطلب شيئاً ولا أنا فاتحته خوفاً من أن يرفض الرئيس هذا الطلب فتزداد الأمور تعقيداً، وصدر مرسوم التعيينات وبه اسم رجل أعمال مسيحى من قرية الكشح، والمثير للدهشة أن جاء فى نص المرسوم أمام اسمه وبين قوسين (من قرية الكشح)، وتصورت أن خطأ إدارياً أبقى هذه العبارة مكانها وفيما أتندر بذلك أمام البابا أسند قداسته يديه على العصا وقال فى هدوء وكأنه يوجه كلامه إلى سقف الغرفة «ربما أراد أحدهم أن يسجل فى وثيقة رسمية ما قد يهتم به البعض بعد سنوات عديدة».
ولعل من حق من يدرسون سيرة قداسة البابا شنودة أن أحكى ما قد يوضح طبيعة مواقفه بشكل عام.. فقد كنت فى زيارته فى الكاتدرائية وكانت الغرفة مليئة بالآباء الكهنة من مختلف المراتب وعندما دخلت توقف المتحدث لكن البابا أمره أن يكمل قائلاً «أكمل ما كنت تقوله.. الدكتور رفعت حبيبنا» والمطران كان مقبلاً من إبراشيته فى الصعيد وتفجرت كلماته شاكية من سوء المعاملة التى يلقاها رعايا كنائسه: «أنت يا سيدنا تأمرنا بالهدوء وكلما سكتنا ازدادوا هم تطاولاً واضطهاداً لنا، يا سيدنا نحن أبناؤك وأنت لا تقبل لنا المذلة فامنحنا الإذن بالاحتجاج»، انتهى المطران وظل البابا صامتاً فصمت الجميع وبعد فترة صمت قال قداسة البابا: «ليس فقط لأن الرب يأمرنا أحبوا مبغضيكم وباركوا لاعنيكم وإنما لأن سلامتكم وحقوقكم فى عنقى ومعها وفوقها سلامة مصر واستقرارها.. فأنا أضع فى الاعتبار ألا يتخذ أحد منا خطوة ينتج عنها دماء طائفية فتكون مصر فى خطر».
وفى المراحل الأخيرة من مرضه همس أحد أطبائه فى أذنى «قداسة البابا مريض جداً، ويعانى من آلام لا تحتمل.. لكنه يخفى آلامه عن الجميع حتى نحن المعالجين له»، وبعدها سافر البابا إلى كليفلاند، حيث اعتاد أن يعالج فاتصلت به تليفونياً ورد علىّ أحد المرافقين وقال «قداسة البابا بخير ولكنه يستريح الآن».. وسمعت صوت البابا وهو يسأل بحدة: مين بيتكلم؟ فقال: «فلان»، فصاح قداسته: هات، وحدثنى متظاهراً بالضحك وقال: «أنا كويس وأول ما أرجع سأتصل بك».
وبالفعل اتصل بى فور عودته وقال بصوت خفيض: عاوز أشوفك.. وأحسست ولست أدرى لماذا، بغيامة من الحزن، فقد تلقيت إشارة ما.. أنه سيكون اللقاء الأخير، وانتظرت دقائق تبدت طويلة جداً فى مكتبه وأتى البابا محاولاً أن يبدو متماسكاً وهو ينتزع ابتسامة تأتى مرغمة، وكما أفعل دائماً احتضنته ويبدو أننى أطلت فتخلص برفق.. وخوفاً من أن أرهقه استأذنت سريعاً ولم يمانع ووقف يودعنى وأدركت من همساته أنه الوداع الأخير.. وانسكبت إلى أذنى أنفاسه العطرة وهو يقول هامساً «خلى بالك من نفسك ومن صحتك وربنا هيحميك وأنا حادعى لك باستمرار»، واصطحبنى كما كان يفعل دائماً إلى الخارج وكنت أحاول منعه لكن صمم فى وهن وأنا كنت بحاجة لأن أبقى معه أطول فترة ممكنة.. كنت دوماً استعجل السيارة لكى لا يبقى قداسته واقفاً بالخارج.. لكننى فى هذه المرة تمنيت ألا تأتى السيارة.. وأحسست أيضاً أنه لا يلتفت إلى مسار السيارة وإنما ينظر إلىّ متمتماً -ربما بدعوات- وكان لا بد للسيارة أن تأتى وأتت فاحتضننى فاحتضنته من جديد وقال «ربنا يحميك».. وبعدها بيومين كان رحيله.
جلسة الشورى الأخيرة
لعل الكثيرين لم يتصوروا أنها الجلسة الأخيرة بل لعلهم قد استعدوا لها كفرصة سانحة لسكب الكثير من النفاق عبر كلماتهم استعداداً لجنى ثمار تخيلوها آتية، أما أنا فكنت قد توقعتها الأخيرة.. الميدان الصاخب والخيام الممتلئة وسيارات الشرطة المحترقة، إنها رائحة لا تخطئها أى أنف تمتلك بعضاً من الحساسية، لكن وحتى الأحداث الجسام يختلف الكثيرون فى قراءتها، القاعة أصبح شكلها مختلفاً فى عينى، حتى السعاة شكلهم تغير، تشابهاتهم تشابهت فى صمت مكتئب هم صنف من الناس لا يمتلكون حتى القدرة على النفاق.. هم فقط يمتلكون الطاعة الممتزجة بمرارة مستقبل ستأتى أيامه كغيرها مما سبقتها من أيام مريرة مفعمة بالفقر.. والفقر ليس مجرد احتياج لكنه للأسف يتحول فى بلادنا بسبب من التفاوت الطبقى إلى مذلة أيضاً. أعضاء الأغلبية يحاولون قدر طاقاتهم المتفاوتة أن يتظاهروا باللاخوف واللامبالاة، تجمع أغلبهم فى غرفة زعيم الأغلبية لعلهم يلتقطون منه خبراً «يبل الريق» أو «يسقى بعضاً من العطش»، أما الأمين العام المساعد اللواء رفعت مطاوع، الذى كان دوماً بشوشاً وضاحكاً وكانت ثلاجته مزدحمة دوماً بمشروبات وزبادى ورز بلبن فقد كان هادئاً بلا أى ابتسامات ولا حتى نطق ربما كان حسه المتقن قد منحه إحساساً بأن الأمور إلى نهاية.
ثم دخل إلى القاعة عديد من نواب الوطنى ملتفين حول زعيم أغلبيتهم يتضاحكون ربما للإيحاء بأن الأمور عادية، المتجهم صفوت الشريف أعلن افتتاح الجلسة لمناقشة الوضع السياسى الراهن وأنا السبب ما لم أدركه فيما بعد كنت ولأول مرة قد كتبت كلمتى وطبعت منها عشرين نسخة وقمت بنفسى بتوزيعها على الصحفيين المتراكمين فى شرفتهم، تحدث زعيم الأغلبية ومن معه من كبار المهمين من الأعضاء.. ولا جديد حتى ذات الرطان الذى جرى تداوله طوال فترة عبدالناصر.. وما بعدها وحتى أيام مبارك التى كانوا يتمنون استمرارها أبداً.. لكن هذا الرطان كان يفتقد ذات المذاق كالفارق بين ممثلين محترفين وبين تلاميذ هواة يتلون ذات النص دون أى إتقان.. نفس الرطان «إن إرادة الجماهير الشعبية تفرض علينا أن نمضى قدماً لحماية مكتسباتها»، ومثل «وأقول بكل الصدق إن هؤلاء الذين يسعون بالدمار لا يمثلون الإرادة الشعبية»، وكثيرون آثروا الصمت فهم يخافون مجرد النطق فى مناخ لا يعرفون منطقه ومكامن الخطر فيه.. ثم ممثلو الأحزاب وكان كلامهم أكثر تزلفاً ونفاقهم أكثر افتضاحاً وكان لا بد للدور أن يأتى عندى.. وربما أدرك صفوت الشريف بخبرته أن كلمتى ستكون مختلفة ولعله قد عرف ببعض ما وزعته على الصحفيين عبر ورقة رأيتها تتسلل إليه مع الساعى.. ألقى على أثرها نظرة متفحصة نحوى ولعله أى شىء آخر لكنه نطق اسمى وبعدها مباشرة قال «الكلمة من الآن ثلاث دقائق»، وكنت قد أعددت نفسى كى أكون هادئاً فتقديرى أن المناخ لم يكن يحتمل، لكننى وجدت نفسى أقول بصوت عال «ظللتم تتكلمون ثلاثين عاماً.. والآن أنا أتكلم ثلاث دقائق.. لكننى لم أضيع وقتاً فى اللجاج فقلت عبارتين حملتا كل ما أريد قوله» من الضرورى أن يقدم الأمين العام للحزب الوطنى اعتذاراً لجماهير الشعب الغاضبة على كل ما كان فى الماضى من أخطاء وفساد وإفساد وأن يتقدم ببرنامج جديد يستجيب لمطالب الميدان «عيش - حرية - كرامة إنسانية - عدالة اجتماعية» ثم عبارة أخرى تقول إن نص الدستور يقول «يتولى رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية ويمارسها» وبهذا فإن الرئيس يكون مسئولاً عما تولاه وعما مارسه عبر السلطة التنفيذية.. حيث كانت عشرات من الخطايا وعليه أن يتقدم للشعب باعتذار واضح ومحدد.. وأن يستجيب لإرادته «وهنا صاح صفوت الدقائق الثلاث انتهت وأغلق الميكروفون ونادى على متحدث آخر.. أما أنا فقد جمعت أوراقى وخرجت دون أن ألتفت لأحد.. والمثير للدهشة أننى تلقيت لحظة خروجى تحيات وقبلات من السعاة والموظفين وحتى من أعضاء سبقونى بكلمات منافقة.