د. محمد سعيد محفوظ يكشف كواليس 11 يوماً من العمل فى القناة القطرية أثناء ثورة يناير
محمد سعيد محفوظ
عملتُ بقناة «الجزيرة» فى قطر أحد عشر يوماً، أتاحت لى فرصة اكتشاف خبايا وكواليس لم أتوقعها.. جعلتنى أتحقق بنفسى من بعض الاتهامات الموجّهة إليها، التى يظن البعض أنها كيدية.. أعطتنى الفرصة لكى يكون تقييمى لأمانتها مقروناً بالأدلة، وليس مجرد استنتاجات أو تقديرات شخصية.
كان ذلك قبل ست سنوات أو أكثر.. تحديداً خلال أحداث الخامس والعشرين من يناير 2011.. وكان تفاوضى مع قناة «الجزيرة» قد استغرق شهوراً طويلة قبلها، لإصرارى على العمل من لندن، حيث كنت أقيم وأدرس.. اتفقنا فى النهاية على أن أشارك من «الدوحة» بشكل استثنائى فى تغطية الأحداث الساخنة فى مصر، لأظهر لأول مرة على شاشة «الجزيرة مباشر» يوم السابع من فبراير 2011.. كنت أتلقى اتصالات المراسلين والجمهور من محافظات مصر المختلفة، لنقل صورة حية عن الأحداث، كما كنت أتلقى اتصالات الجمهور المتفاعل مع ما يجرى فى مصر من كل مدن العالم.
حالفنى الحظ لأنقل على الهواء بيان تنحى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، وليلتها قضيت على الهواء ما لا يقل عن سبع ساعات، بديلاً عن زميلتى نوران سلام، التى غادرت قبل ساعتين من التنّحى لظروف أسرية!
ميثاق «الجزيرة».. فى «الاتجاه المعاكس»!
ما صدمنى خلال هذه الفترة، حدث عقب إحدى فترات التغطية.. حيث أنهيت عملى فى الاستوديو، وانتقلت لغرفة الأخبار، فإذا برجل فى منتصف العمر يعمل فنياً بـ«الجزيرة» يلحق بى، ويسألنى مازحاً: هل أعجبتُك؟ فسألته بدهشة: أعجبتنى فى ماذا؟ فأطلق رصاصة الشك الأولى، قائلاً بمنتهى البساطة:
- ما أنا منصور من الرياض اللى اتصلت بيك من شوية ع الهوا؟
- منصور من الرياض؟ بس انت هنا فى الدوحة!!
- آه، ما هو إحنا ساعات لما بنلاقى الكفة مايلة ناحية معينة، فبنتدخل علشان نعدلها!!
قالها وكأنه يُلقننى درساً فى الذكاء!
أراد عقلى الباطن أن يرفض القصة، فأوعز لى بالصبر، ربما كانت واقعة استثنائية.. لكن الحقيقة أنها تكررت مرتين.. وفى كل مرة يتقمّص الشخص نفسه اسماً مستعاراً، ومكاناً وهمياً، ويتصل ضمن عشرات المتصلين، ليدافع عن موقف ما، أو يروّج لرأى ما، أو يرد على ما قاله متصل آخر! هنا توجهت إلى رئيس القناة، وشكوت له، فإذا به ينفجر ضاحكاً:
- همّ عملوها فيك!
ويبدأ فى تبرير هذا الانتهاك الصارخ، بأنه يهدف إلى إحداث التوازن المطلوب على الشاشة!!
لكن أى توازن؟ وبمواصفات من؟ وهل يجوز لقناة تدّعى الأمانة والمصداقية أن تسمح بذلك؟ هذا كذب صريح، وخداع للجمهور!
ولم تمضِ أيام، حتى كنت قد حجزت تذكرة العودة لمصر، وتحايلت لاسترداد جواز سفرى الذى كان محتجَزاً لإتمام إجراءات الإقامة.. وتوجهت إلى المطار، فاتصل بى رئيس القناة خلال الطريق مصدوماً، ومحذّراً بأننى سأُدرج على القائمة السوداء! فشكرته، وأكملت الطريق.
فنى بالقناة سألنى داخل غرفة الأخبار: عجبتك؟ وعندما استفسرت عن معنى سؤاله فاجأنى بأنه أدى دور متصل من الرياض أثناء الفقرة الخبرية.. واعترضت على انحياز القناة فى قضايا كثيرة من خلال «المتصل المستعار».. وقررت العودة لمصر فهددنى رئيس القناة بالإدراج على القائمة السوداء
كانت هذه تجربتى الشخصية، ولكن ما رأيكم أن نقيّم مهنية «الجزيرة» بطريقة أخرى؟ تعالوا نفند معاً ما أطلقت عليه «الجزيرة» ميثاق الشرف المهنى لها، والمنشور على موقعها الإلكترونى، ونطابقه مع أدائها على الأرض، وما تبدو به على الشاشة.. فهل قناة «الجزيرة» هى قناة الرأى والرأى الآخر؟ أم أنها بالفعل ماكينة إعلامية وذراع خبيثة لتنظيمات إرهابية، وقوى معادية للدول العربية؟ وهل تسعى فقط للحقيقة، أم تكيل بمكيالين؟ وهل تتحرى الدقة فى كل أخبارها وتغطياتها، أم تعطى أولوية للسبق والمصلحة السياسية على حساب المصداقية؟ وغير ذلك من الأسئلة المحورية فى أى نقاش حول «الجزيرة».
فى ميثاقها المهنى، تعرّف «الجزيرة» نفسها بأنها (خدمة إعلامية عربية الانتماء)، وهنا يجدر بنا التساؤل: هل تبرير غزو الولايات المتحدة للعراق، والتمهيد له يعكس هذا الانتماء العربى؟ هل كان من الانتماء إلى الأمة العربية تجميل العدوان الأمريكى على البوابة الشرقية للوطن العربى، واستيلاء الشركات الأمريكية على نفط وثروات العراقيين، والتسويق لذلك على أنه تحرير لأبناء العراق من قبضة حاكم ظالم؟ وهل من الانتماء إلى العرب -كما تصف «الجزيرة» نفسها- تجميل صورة إيران، وتسهيل محاولاتها التغلغل فى الثقافة العربية، ومعروف ماذا تفعل إيران فى العراق وسوريا واليمن والسعودية؟ ويكفى الإجماع العربى على الحذر من إيران، فكيف نخالف الإجماع العربى، وندّعى انتماءنا إلى العرب؟
تقول «الجزيرة» إن (شعارها الرأى والرأى الآخر، وإنها منبر تعددى).. هل من التعددية إذاً تغييب المعارضة القطرية عن شاشتها؟ إذا كانت أصوات الوزراء والمسئولين القطريين تمثل رأياً، فأين الرأى الآخر؟ ما موقفها من انقلاب الشيخ حمد بن خليفة على أبيه، والاعتقالات التى أعقبت ذلك؟ ما موقفها من محاكمة وتعذيب رموز قطرية بتهمة إهانة الأمير؟ ما موقفها من مصادرة ممتلكات المعارضين الذين اختصموها أمام المحاكم الدولية؟ ما حقيقة اعتقال الصحفيين المعارضين دون تهمة، لمجرد انتقاد إجراءات حكومية؟ متى أثبتت «الجزيرة» حيادها ونزاهتها وانتقدت النظام القطرى، كما تفعل مع بقية الأنظمة التى تُصنّفها على أنها مستبدة؟
يقول ما تطلق عليه «الجزيرة» ميثاق الشرف المهنى، إنها (تتمسك بالقيم الصحفية دون تغليب للاعتبارات السياسية على المهنية).. لم أرَ ذلك فى تغطيتها للشأن المصرى منذ استفتاء 19 مارس عام 2011، حيث طغت فيها وجهة نظر واحدة، منحازة إلى تنظيم الإخوان، حليف النظام القطرى.. كما لمسنا ذلك فى تغطية أحداث 30 يونيو 2013 وما بعدها، ويستطيع الزملاء المصريون الذين استقالوا من «الجزيرة» فى الأيام الأولى عقب هذه الأحداث أن يرووا كيف تم تعميم سياسات تحريرية ومفردات إخبارية تروج لرؤية واحدة للأحداث، هى الرؤية التى فرضتها السياسة القطرية الداعمة للإخوان.
حتى مساندة مطالب ميدان التحرير فى الخامس والعشرين من يناير، كانت بضوء أخضر من النظام القطرى، وكان هذا حديثاً مسموعاً ومقبولاً فى غرف الإدارة بـ«الجزيرة» آنذاك.
ميثاق «الجزيرة» الإعلامى يزعم أنها «خدمة إعلامية عربية الانتماء» بينما أداؤها يخالف الإجماع العربى ضد إيران فى سوريا والعراق.. والقناة تؤكد أنها «منبر للرأى والرأى الآخر» فلماذا تغيب المعارضة القطرية عن شاشتها ولماذا لا تنتقد سياسات النظام الحاكم مثلما تهاجم باقى الأنظمة؟!
يقول الميثاق المهنى لـ«الجزيرة» إنها (تسعى للوصول إلى الحقيقة وإعلانها بشكل لا غموض فيه ولا ارتياب فى صحته أو دقته).. ولعلى هنا أذكر مثلاً واحداً ناقشته على الهواء فى نوفمبر 2013، وهو قصة الطفل محمد بدوى، أو من عُرف فى الإعلام حينها بطفل العمرانية، الذى قالت «الجزيرة» إن بلطجية خطفوا جثته من المستشفى بعد قتله فى المظاهرات، ثم اكتشف مراسلنا فى «سى بى سى» أن من تسلم جثته هم أفراد أسرته، وأن من قالت «الجزيرة» إنه والده، هو مجرد صديق للأسرة حمل الجثة إلى المستشفى، وظل مرافقاً لها حتى حضرت الأسرة لتسلمها، وحين استمع إلى الرواية المغلوطة لـ«الجزيرة»، حرّر ضدها بلاغاً فى الشرطة.. كانت هذه القصة نموذجاً من عشرات النماذج التى افتقدت فيها «الجزيرة» إلى الدقة والتدقيق.. فى تناقض واضح مع ما يدّعيه هذا المبدأ فى ما تصفه بالميثاق المهنى، بالإضافة إلى مبدأ آخر تم انتهاكه فى هذا الميثاق، وهو (ألا يصبح السبق الصحفى هدفاً فى حد ذاته).
تقول «الجزيرة» فى ميثاقها، إنها ملتزمة بـ(الاعتراف بالخطأ فور وقوعه، والمبادرة إلى تصحيحه وتفادى تكراره).. وأذكر أن هذا المبدأ كان -فى أعقاب الثلاثين من يونيو- محل نقاش بينى وبين أحد الزملاء فى «الجزيرة»، الذى سبق أن عملت معه فى «الأهرام» ثم «بى بى سى»، حيث عاتبته هاتفياً على قبوله بتزييف الحقائق، خصوصاً فى ما يتعلق بقصة طفل العمرانية، ووعدته إذا اعترفت «الجزيرة» بخطئها فى رواية القصة، سأُعلن ذلك فى تغطياتنا الإخبارية، بل أشيد بذلك كبادرة لحُسن النية.. فما كان من الزميل إلا أن خصّص حلقة برنامجه فى اليوم التالى للتهكم والهجوم الشخصى علىّ، دون أن يُرهق نفسه فى تفنيد القصة والاستماع إلى أطرافها المختلفة! فهل هذا التزام بالاعتراف بالخطأ؟ أم مكابرة وشخصنة وإصرار على الخطأ؟
تقول «الجزيرة» فى ميثاقها إنها تلتزم بـ(الممارسات الدولية المرعية فى ما يتعلق بحقوق المصادر)، وأهمها بطبيعة الحال حق المصدر فى إخفاء هويته.. فما ردها إذاً على ما أورده جمال إسماعيل، مراسلها السابق فى باكستان، فى كتابه (بن لادن وأنا)، الذى اتهم فيه «الجزيرة» باستخدامه لصالح المخابرات الأمريكية كطعم لاصطياد «بن لادن» ومطلوبين آخرين فى أفغانستان؟ وما قولها فى ما رواه يسرى فودة عن استخدامه فى القبض على رمزى بن الشيبة وخالد شيخ محمد، المتهمَين بالضلوع فى تفجيرات سبتمبر 2001؟ ولماذا يهتم أمير قطر شخصياً بمقابلة يسرى فودة على العشاء فى لندن دون موعد مسبق لمساومته على شرائط المقابلات، وفقاً لرواية «فودة»؟ ما مدى مطابقة هذه الروايات الموثّقة للممارسات الدولية المتعلقة بحقوق المصادر؟ وإذا سلمنا بالدواعى الأمنية التى قد تلزم الصحفى بالتعاون مع جهات التحقيق المحلية والدولية، فهل وفرت «الجزيرة» لمراسليها الحماية بعد الكشف عن مصادرهم؟ أم تم استغلالهم ثم تركهم فريسة لانتقام هذه المصادر؟
تقول «الجزيرة» فى ميثاقها إنها تلتزم بـ(التمييز بين مادة الخبر والتحليل والتعليق لتجنّب الوقوع فى فخ الدعاية والتكهن).. لكن ماذا عن توجيه الضيف فى المقابلات، والتأثير والضغط عليه، وافتضاح الموقف الشخصى للمذيع، الذى يُفترض أن يقف على مسافة واحدة من الجميع؟ وماذا عن القسوة مع المختلفين، والرقة مع المؤيدين، والمقاطعة المقصودة لإجهاض الفكرة إذا لم تكن على هوى المقدّم؟ وماذا عن صياغة التقارير التليفزيونية بلغة ثورية وكأنها بيانات حرب؟ وماذا عن الفواصل الإعلانية التى تروّج لمواقف سياسية لا يوجد اتفاق بشأنها؟ وماذا عن استغلال عواطف الجمهور فى هذا النوع من الدعاية باستخدام الصور والموسيقى والمؤثرات البصرية؟ كل هذا ولم تقع «الجزيرة» فى فخ الدعاية؟
تقول «الجزيرة» فى ميثاقها إنها تلتزم بـ(الوقوف إلى جانب الزملاء فى المهنة، وتقديم الدعم لهم عند الضرورة، خصوصاً فى ضوء ما يتعرّض له الصحفيون أحياناً من اعتداءات أو مضايقات).. لم تذكر لنا «الجزيرة» هل قامت بتقييم المخاطر Risk Assessment بشكل علمى وواقعى، قبل أن تدفع بالصحفيين إلى المهام التى تعرّضوا فيها لهذه الاعتداءات والمضايقات؟ هل قامت بتقييم المخاطر فى المهمة التى انتهت بما يُعرف بقضية خلية الماريوت؟ هل قامت بتقييم المخاطر قبل أن تطلب من صحفييها الاحتفاظ بشرائطها فى منازلهم؟ هل قامت بتقييم المخاطر قبل أن تطلب من صحفييها التلصص فى الشوارع بكاميرات الهواتف المحمولة لتسجيل لقاءات ونقل مظاهرات واشتباكات، دون تدريبهم، أو على الأقل تنبيههم إلى العواقب القانونية والأمنية؟
أضف إلى ذلك المتاجرة بقضايا مراسليها المحتجزين، دون تقديم الدعم القانونى الكافى لهم، والاكتفاء بالتصعيد الإعلامى لمثل هذه القضايا، واستخدامها كذريعة للهجوم على خصومهم السياسيين!
هذه بعض لمحات من الميثاق المهنى لـ«الجزيرة»، ومدى تطبيقه والالتزام به فى تغطياتها وبرامجها..
ولا يعنى ذلك أن إعلامنا منزّه هو الآخر عن الأخطاء، ونحن نسعى لإصلاحه، ومبادراتنا معروفة فى هذا المجال، المطلوب أن تترفّع جميع وسائل الإعلام عن المصالح السياسية.. وأن تدافع فقط عن القيم الإنسانية والوطنية، والمصلحة العامة، وألا تكون أداة فى يد المغامرين، والمنتفعين، وأصحاب المصالح!