«خالد وأحمد ومصطفى».. ضحايا «الحب والقهر والتسول» فى عالم الإدمان
ورش رسم يشارك فيها الأطفال للتعبير عن أنفسهم
أطفال صغار اخترقت المخدرات أجسادهم، فقضت على طفولتهم مبكراً، جعلتهم يسلكون طريقاً تعج بالمخاطر، الموت يطاردهم فى كل مكان، تبدلت أحلامهم من السعى وراء تفوق دراسى للبحث عن ثمن المخدر سواء حشيش أو كحول، روايات مختلفة يقصها ثلاثة أطفال «أحمد وخالد ومصطفى» تباعدت حكايتهم وجمعهم مكان واحد، وحدة علاج إدمان المراهقين بمستشفى العباسية التى فتحت ذراعيها أمام الأهالى لعلاج أبنائهم حتى التعافى تماماً بوسائل مختلفة ومتقدمة ومحفزة وكله «بجنيه».
الريشة والألوان كانت رفيقته فى الفصل، يتفنن فى الرسومات، ويستعرض موهبته بين أقرانه، يحلم باليوم الذى سيصبح فيه مشهوراً، ونظره موجه للفتاة التى تجلس أمامه فى المقعد، يبتسم لها بإعجاب شديد، مشاعر بريئة يتذكرها «خالد.ع» وهو جالس على مقعد بوحدة علاج إدمان المراهقين بمستشفى العباسية، ينظر لنفسه ولحاله الذى تبدل بعد رفض أهل حبيبته ارتباطه بها «حبيتها بس أمها بعدتها عنى فشربت مخدرات عشان أنساها»، طفل صغير حكم على نفسه بالإعدام فهجر موهبته وفقد لذة الحياة وحل محلها المخدرات «مخلتش حاجة ماشربتهاش كنت بنتحر بالبطىء بعد ما الدنيا اسودت فى عينى»، يتوقف فجأة عن الحكى ليخفى دموعه وراء كابه الكحلى، ينظر بطرف عينه للترابيزة التى أمامه فيجد الألوان تملأها بمختلف درجاتها وورق الرسم يناديه كأنه يبعث فى روحه الأمل الذى انطفأ، يخطف الألوان دون تفكير ليبدأ فى التلوين وكأنه لم يتركه يوماً، يعود لحديثه مع «الوطن»، ويقول بحماس «إنتى عارفة أنا جيت هنا ليه؟ عشان أتعالج وأخف وأتطوع فى الجيش عايز أكون ظابط وأحمى الحدود، هلعب رياضة عشان أرجع أجرى زى الأول».
«خالد» اتجه للتعاطى بعد رفض أهل حبيبته ارتباطه بها: قررت أبطل وأتعالج عشان أتطوع فى الجيش.. و«مصطفى»: صاحبى هو اللى عرّفنى طريقها ونفسى أتعالج وأدخل كلية التجارة
سنوات عجاف عاشها الطفل الصغير لمدة 4 سنوات يشرب الكحول والحشيش، ويتعاطى الحبوب المخدرة، كل ما يخطر على بالك دون توقف، يشجعه أصدقاء السوء «شُفت ناس منهم ماتت قدامى وما اتعظتش»، علم والده بأمره فضربه، تعامل معه بقسوة خوفاً عليه من الضياع، فقرر الولد أن يعود للحياة ويكمل دراسته نادماً على سنوات عمره التى ضاعت وصحته التى تراجعت وابتسامته التى اختفت.
لكن سنوات «أحمد. ع»، 20 عاماً، التى ضاعت كانت أكثر، 10 سنوات عاش فيها مع المخدرات؛ شهيقه وزفيره لا يخرج عن الحشيش والكحول ومهدئ باسم «فودو» وحبوب ترامادول، أنواع لا حصر لها بدأ يسردها بعد أن أخذ قرار التوقف عنها «شربت من أولى إعدادى، واحد صحبى عرض علىّ سيجارة كنت ميّال ليها عشان أبويا مدخن»، تطور الأمر ليصل للحشيش وغيره «حاولت أبطل بس ماقدرتش.. حسيت بخنقة»، كان يشرب يومياً 3 سجائر، مد يده وسرق من أبيه وجده ليوفر ثمن المخدرات التى تعود عليها كبديل لحضن أمه وأبيه «موجودين ومش موجودين مش حاسس بيهم دايماً بعيد عنى لا همّا فاهمنى ولا أنا فاهمهم»، لم ينس أحمد ضرب والده له، يقول بصوت غاضب مختنق «كان بيضربنى ويحرمنى من المصروف»، أهمل الشاب العشرينى دراسته وتوقف عن الذهاب للمدرسة بعد تكرار رسوبه «مابقتش طايق حد يكلمنى بقيت زى الطور الهايج بضرب فى إخواتى وبتخانق مع أى حد يقابلنى»، تعب أحمد من السموم التى سكنت جسده النحيل فاتجه للعلاج بعد أن سمع عن وحدة المراهقين من أحد معارفه «جيت على هنا عشان أخلص كنت تعبان أوى وعايز أرجع كويس».
«أحمد»: «شربت من أولى إعدادى وحاولت أبطل بس ماقدرتش وقسوة أبى وأمى دفعتنى للإدمان» والأب: «أنا المذنب» ورش رسم يشارك فيها الأطفال للتعبير عن أنفسهم
يراقبنا والده من بعيد، يقترب ليدخل فى الحديث «الحمد لله أننا جينا هنا ابنى كان هيروح منى، مرة لاقيته مرمى على الرصيف داخ بعد الشرب وأغمى عليه، أصحاب السوء خافوا راموه وجريوا ولولا ستر ربنا واحد شافه من بلكونته نقله بسرعة للمستشفى كان راح فيها»، يعترف الأب بضربه المتكرر لابنه «كنت بضربه بأى حاجة تيجى قدامى حديدة، الحزام، إيد المقشة، لما بغضب غضبى وحش أوى»، اكتشف تعاطى ابنه للمخدرات فى وقت مبكر لكنه تركه ليمتنع عنها بكامل إرادته «تجاهلته شوية كنت عايزه يبطل لوحده لاقيته للأسف تمادى»، حالة من الندم الشديد ظهرت على وجه الأب وكأنه يبحث عن عقاب لنفسه يكفّر به عما اقترفه فى حق ابنه الأوسط «عرفت متأخر أن الضرب بيضره مش بينفعه.. حاسس أنى مذنب وسبب فى اللى ابنى وصل له»، يعترف بتقصيره وإهماله «أخوه الكبير خد الاهتمام كله أكمنه معاق ما بيتحركش»، صدمة الأب فى ولده المعاق كانت أكبر، غفلته عن توزيع الحب بين أولاده الثلاثة حتى زرع الكره والغيرة بينهم «تفكيرنا واهتمامنا كان مع الولد المريض لدرجة أن أحمد كرهه عشان ما أخدش قسطه الكافى من الحنان والطبطبة واللعب»، ينصح الأب الذى رفض ذكر اسمه كل الأهالى برعاية أبنائهم وتوزيع الحب بينهم بالعدل «بحاول أعوّضه دلوقتى نفسياً ومعنوياً ومادياً.. نفسى يرجع بنى آدم سوى».
على المنضدة الطويلة داخل الغرفة المكيفة يجلس عدد لا بأس به من الأطفال من بينهم طفل لفت انتباهنا بزى أزرق أنيق يوحى بأنه ميسور الحال، اقتربنا منه، قابلنا بابتسامة شجعتنا على مصافحته «أنا مصطفى.م 14 سنة والله ماشربتش غير سجاير» يقولها بتأكيد آملاً فى تصديقه «عيّل صاحبى هو اللى عرّفنى طريقها علّمنى الشرب والسرقة»، لم تقصر أسرته فى حقه ولم تتهاون فى شىء يخصه أو طلب له، لكنه بدأ فى سرقة الدراجات ليشترى سجائر «كنا بنهرب من البيت ونروح إسكندرية اتمسكنا تسول والشرطة وديتنا الأحداث»، 13 يوماً قضاها الصغير فى شوارع الإسكندرية بعيداً عن بيته يمسح السيارات فى إشارات المرور «كنت بكسب فى اليوم 400 جنيه»، تكرر الهرب مرات عديدة والأم تبحث عن صغيرها حتى انفطر قلبها عليه «أمى كانت بتيجى تاخدنى»، حالة من اللامبالاة عاشها الطفل ثلاث سنوات يسرق كل ما يأتى فى متناول يده ليتحول لمدمن سرقة وأصبح يتردد على أقسام الشرطة أكثر من تردده على بيته «لما كنت فى القسم كنت بحس بإهانة تمنيت ساعتها ربنا يشفينى من مرض السرقة فجيت على هنا مع أمى». يحرص مصطفى على تناول العلاج فى موعده والالتزام بالبرنامج العلاجى الذى وضعه الطبيب حتى يستأنف دراسته ابتداءً من العام الدراسى الجديد «نفسى أدخل كلية تجارة وأكون محاسب زى أخويا الكبير».