«رأس غارب».. أجساد المرضى شاهدة على أخطاء الأطباء وتدهور «المنظومة»
مرضى مستشفى رأس غارب تحت وطأة الأخطاء الطبية
مبنى صغير من طابق واحد، وأمامه ينام بعض من أهالى المرضى على الأرض فى انتظار ما يجود به الأطباء من أخبار عن ذويهم، أم تحمل رضيعاً فى المهد وتبحث عن كوب مياه نظيف تروى ظمأها، وفى انتظار ابنتها التى ولدت للتو هذا الرضيع، وفوق هامتها تظهر لوحة ممهورة باسم: «مستشفى رأس غارب المركزى»، لم يختلف الأمر فى الداخل، ما زال الهدوء يسيطر على الأمر، الممرات فارغة، والقمامة تظهر بين المبانى الصغيرة المتراصة داخل المستشفى، الممرضون يجلسون على كراسى ذوى الاحتياجات الخاصة فى الاستقبال، مقاعد متهالكة ومكسرة لا تصلح للجلوس عليها، وغرفة مغلقة بالأقفال، وأخرى مفتوحة ويظهر بداخلها أسرة فارغة، وغرفة أخرى خاوية على عروشها.
طبيبة: نستخدم «قناع الأكسجين» مع أكثر من مريض بسبب نقص المستلزمات الطبية.. والطبيب الواحد يعمل فى أكثر من تخصص لسد العجز
«هذا المستشفى الذى يبدو من الخارج هادئاً كان سبباً فى إصابة عدد من الأهالى بالعجز وإصابات بالغة وصل بعضها للوفاة بسبب الإهمال والأخطاء الطبية ونقص المستلزمات والأدوية».. هكذا لخص أهالى المدينة التى يعيش فيها أكثر من 60 ألف نسمة يعمل معظمهم فى شركات البترول الموجودة بالمنطقة على البحر الأحمر، حيث يوجد بالمدينة مقرات لأكثر من 35 شركة لاستخراج المواد البترولية تنتج 67% من إنتاج مصر من البترول، ويواجهون خلال العمل الكثير من الإصابات لكنهم لا يجدون فى مستشفى المدينة أى مقومات للعلاج فيضطرون للسفر مسافة تزيد على 150 كيلومتراً للعلاج فى مستشفى مدينة الغردقة.
جلست الطبيبة «م.ع»، وتحدثت لـ«الوطن» قائلة إنها فضلت الحديث معنا خارج المستشفى خوفاً من عقاب الإدارة الصحية إذا علمت أنها تحدثت معنا عن المشاكل التى توجد بالمستشفى، مضيفة أن «المنظومة الصحية فى رأس غارب فاسدة وبايظة وهناك نقص كبير فى المستلزمات الطبية»، صمتت برهة وعاودت الحديث: «مفيش بلاستر فى المستشفى.. إنت متخيل!!»، الطبيب فى الكثير من الأحيان يطلب من المرضى شراء أبسط المستلزمات الطبية والأدوية، وهو ما يقابَل من أهالى البلدة بغضب. وبرّأت ساحتها قائلة: «عملنا مذكرات كتير ورفعناها لمدير الإدارة الصحية فى البحر الأحمر، وكل اللى حاصل فى المستشفى هما عارفينه وعلى علم بيه».
وتابعت: نقص الأدوات والمستلزمات يدفع الأطباء لاستخدام أدوات من المفترض استخدامها لمريض واحد مرة واحدة، أكثر من مرة ولأكثر من مريض، على سبيل المثال «ماسك الأكسجين» قناع الأكسجين، يستخدمه أكثر من مريض فى اليوم الواحد. وأوضحت: «آه بنقوم بتنظيفه وإعادة تعقيمه بس دى برده حاجة أنا مرضاهاش على نفسى ولا على بنتى عشان نعملها فى الناس لكن، ما باليد حيلة».
ونقص المستلزمات ليس وحده هو ما يعيب المستشفى حسب الطبيبة، ولكن نقص الكوادر الطبية، حيث تعمل هى نفسها فى أكثر من تخصص ومسئولة عن أكثر من وحدة فى تخصصها وخارج تخصصها بسبب النقص الحاد فى الأطباء، فالمستشفى لا يوجد به سوى 13 طبيباً، ولا يوجد بالمستشفى طبيب أنف وأذن ولا رمد ولا أعصاب ولا جراحة، وفى أحيان كثيرة لا يكون هناك تخدير.
وتقول الطبيبة إن هناك نقصاً كبيراً فى الحضانات فى المستشفى، فهناك سبع حضانات يعمل منها فقط 3 والباقى معطل. وطالبت الطبيبة وزملاؤها بإصلاحها دون مجيب، وهناك الكثير من الحالات وُلدت فى المستشفى وكانت تحتاج لحضانة ولم نجد وتم تحويل الطفل إلى مستشفى الغردقة: «مش ده بس، تخيل إن سخان المغسلة اللى بتغسل مفارش السراير والملايات فى مستشفى، المفروض تكون كل حاجة فيه نضيفة ومعقمة، بايظ».
مرتدياً قميص النادى الذى يعشقه، جلس إلى جوار والديه، رفض أن ينخرط فى اللعب مع أقرانه من أهل البلد أمام منزلهم الذى يقبع على إحدى الهضاب المرتفعة التى تتميز بها رأس غالب، الطفل مروان عبدالناصر ببشرته السمراء وملامحه المتعبة، وقع ضحية خطأ طبى فادح بمستشفى رأس غارب المركزى، حسب ما يروى والده عبدالناصر مصطفى، الذى يقول إن طفله الذى لا يتعدى الخامسة من عمره: «جاء بعد شوقة؛ ولد على خمس بنات، كنت بترجاه من الدنيا كان حيضيع من إيدى بسبب المستشفى الفاشل اللى عندنا ده».
لم يتعدّ الأمر فى البداية مجرد عملية ختان للطفل، قرر الأب أن يجريها له فى عيادة خاصة يمتلكها المدير السابق للمستشفى فى وسط البلد، الذى حوله بدوره لإجرائها فى المستشفى المركزى الذى كان يديره آنذاك، وعهد به إلى أحد الأطباء الصغار لإجراء هذه الجراحة التى يصفها الأب بـ«عملية طهارة بسيطة يعنى عمرى ما كنت أتخيل إن الموضوع يتطور بالشكل ده».
دخل «مروان» غرفة العمليات فى المستشفى، بعد إجراء كل التحاليل التى طلبها الطبيب الجراح، وبعد ساعة خرج الطفل مغشياً عليه، وحين سأل الأب الطبيب قال له: «عشان هو كبير تعبنا شوية والعملية أجريت بالليزر».
بعد أيام من إجراء الجراحة، وأثناء حركات الطفل الأولى على قدميه بعد الجراحة، فوجئت الأم بوقوع جزء من العضو الذكرى للطفل على الأرض، فسقطت على الأرض مغشياً عليها، فهرول الوالد ليطمئن على زوجته، فوجد بجوارها الطفل وجزءاً من عضوه الذكرى؛ فدخل فى غيبوبة سكر ليسقط هو الآخر إلى جوارهما.
«مريم» دخلت المستشفى لإجراء عملية الزائدة الدودية فخرجت بعكازين.. والطبيب قطع عضو «مروان» الذكرى خلال عملية الختان
أفاق «عبدالناصر» من الغيبوبة على هذه الكارثة، وتوجه لطبيب آخر فى عيادته الخاصة، كشف على الطفل، ثم خلع قفازه وقال: «الواد منتهى خالص ملوش حل ولا علاج عندى»، خرج الأب إلى قسم الشرطة ليحرر محضراً، فى الوقت الذى توجه فيه أفراد عائلته للإمساك بهذا الطبيب والقصاص منه لولا تدخل بعض العقلاء، فقد دمر الليزر العضو الذكرى لـ«مروان» بالكامل، حسب رواية الأب «عبدالناصر» لـ«الوطن»، وبعد «لف ودوران» على جميع المستشفيات وصل فى النهاية لإجراء عمليات للطفل لمحاولة سحب عضو جديد من الداخل وترقيع من جلد قدم الطفل، وعمليات تجميل لإصلاح التشوه الذى حدث: «وفى انتظار أمر ربنا والله أعلم»، ويستطرد: «ده إهمال ما بعده إهمال».
«مروان» وحده لم يكن ضحية الإهمال والأخطاء الطبية فى مستشفى رأس غارب، ولكن مصطفى سيد لم يكن بعيداً عن الموت، خلع قميصه، فظهر جرح غائر فى بطنه أحدث تشوهاً كبيراً وانتفاخاً ضخماً، وقال: «ده اللى عمله فينا المستشفى.. كانوا هيموتونى».
الشاب الثلاثينى جلس على أحد الأرصفة المتاخمة للمستشفى وإلى يمينه كم هائل من الأشعة والتحاليل، تحمل داخلها طريقاً طويلاً مع العلاج بسبب خطأ طبيب، بدأ حينما شعر بألم فى بطنه، فتوجه للمستشفى حيث علقوا له محاليل، وأعطوه مسكنات دون إعطائه أى علاج وطالبه بالرحيل وقالوا إنه سيتماثل للشفاء مع الصباح، ولكن مع مرور بضع ساعات عاد الألم من جديد ولكن بشكل أكبر.
عاد «سيد» إلى المستشفى ومكث بداخله أربعة أيام وفى اليوم الخامس وبعد إجراء عدة تحاليل، قرروا أنه يجب أن يجرى عملية إزالة الزائدة لتضخمها، دخل العمليات وسط هرج ومرج من الأطباء تبادر إلى مسامعه كلام واحد يحدث الآخر أن الطبيب لم يستطِع تحديد مكان الزائدة بالتحديد فصرخ فيهم وطالبهم بإخباره بما يحدث، فما كان من الطبيب إلا أن طالب دكتور التخدير بإعطائه «مخدراً كلياً، وليس جزئياً»، ليدخل فى نوم عميق.
خرج «سيد» من غرفة العمليات ولكن الألم لم يذهب بعد، ظل يعانى أياماً وبطنه بدأ فى الانتفاخ، وبدأ يتقيأ مياهاً سوداء، دخل المستشفى مرة أخرى ودخل فى غيبوبة، نُقل على أثرها للمستشفى العام فى الغردقة، وبعد نفس عميق قال: «فى الغردقة محدش سأل فيّا ولا حد عرفنى حالتى مالها حتى شارفت على الموت»، مما اضطر أسرته لنقله لمستشفى خاص بمحافظة قنا، وهناك اكتشف الكارثة أن الزائدة ما زالت فى مكانها وأن العملية التى أجريت له تسببت فى إزالة جزء من أحشائه وتقطيع البعض الآخر: «شال 10 سم من القولون بالغلط، وقطعوا أجزاء من الأمعاء».
على عكازين بدأت مريم على تخطو بمساعدة والدتها، هى فتاة لم تتم العقد الثانى من عمرها، وأصابها العجز فى قدميها بعدما دخلت لإجراء جراحة لإزالة «الزائدة»: «دخلت المستشفى على رجلى خرجت منه على عكازين».
جرعة تخدير خاطئة أصابت النخاع الشوكى، وضعت مستقبل «مريم» على عكازين وأصابتها بالعجز، بسبب طبيب التخدير شعرت مريم برعشة فى بدنها، وخرجت من العملية لا تستطيع الوقوف على قدميها، وبالكشف ظهر أن العصب أصيب من جراء الحقنة التى وضعت فى غير موضعها، وتقول إن الأطباء قالوا لها إن دكتور التخدير كان لا بد أن يكون حذراً حين أعطاها الحقنة، والبعد عن موضع العصب ولكنه أخطأ وهو ما تسبب فيما هى عليه الآن، على مدار 3 سنوات وتحاول مريم وأسرتها العلاج ولكن دون جدوى.
ببشرته السمراء وجلبابه الرمادى يجلس تاج الدين أحمد، على أريكة خشبية متهالكة أمام منزله بعدما ودع شقيقه «مبارك» لمثواه الأخير، حيث دخل المستشفى لإجراء غسيل كلوى ولكن دخل فى غيبوبة، وكان لا بد من إجراء أشعة مقطعية لمعرفة سبب الغيبوبة ولكن الجهاز كان معطلاً ولا يوجد فنى لتشغيله أو إصلاحه: «معايا ابن أخويا فضل يحاول يشغله»، ولكن لم يكن هناك طابعة لاستخراج نتيجة الأشعة: «فضلنا أكثر من 3 ساعات عشان نقدر ننقله لمستشفى خاص فى الغردقة وبعد وصوله لم يستمر إلا قليلاً حتى فارق الحياة».
ويحمّل «تاج الدين» مسئولية وفاة شقيقه مبروك لتأخر إسعافه فى المستشفى وبعد نقله للغردقة أثبتت نتيجة التحليل أنه دخل فى غيبوبة بسبب ميكروب انتقل إليه خلال عمليات الغسيل الكلوى التى كان يجريها هناك، والشاهد على ذلك حسب «تاج الدين»، أن التنكات التى يستخدمونها فى الغسيل غير نظيفة.
جسد سيد بعد أخطاء فى عملية جراحية
الطفل «مروان» ضحية خطأ طبيب مستهتر