الأكراد يصوّتون على «الانفصال».. ويؤكدون: ندعم «بارزانى» وليست هناك ضمانات كافية من حكومة «بغداد»
أكراد فى مسيرة لدعم الاستفتاء
كان الطريق من مطار السليمانية فى إقليم كردستان شمال العراق، إلى وسط المدينة مليئاً بلافتات دعائية تحث مواطنى الإقليم على المشاركة فى تقرير مصيرهم بالانفصال عن الدولة المركزية فى العراق وإنشاء دولتهم الخاصة، أو الاستمرار فى الشراكة مع بغداد. لم يكن الأكراد فى حاجة لتلك اللافتات، فلا صوت يعلو هنا فى إقليم كردستان العراق على صوت الاستفتاء.. الجميع فى انتظار تحقيق الحلم الذى جال فى عقول أكثر من 30 مليون كردى يعيشون بين 4 دول لسنوات طويلة. وبينما كانت «بغداد» تشتعل بحرارة الأجواء السياسية بها، بسبب الاجتماعات المتواصلة لمسئولين ودبلوماسيين عرب وأجانب لمحاولة إثناء الرئيس الكردستانى مسعود بارزانى عن قراره بإجراء الاستفتاء، كانت العجلة قد تحركت فعلاً ولم يعد يمكن إيقافها فى الإقليم المطالب بالانفصال.
توقفت عقارب الساعة للحظات فى المقهى الذى يقع بوسط البلدة القديمة فى «السليمانية»، والتزم الجميع الصمت بعدما سربت وكالة أنباء دولية خبراً عن موافقة وفد الحكومة الكردية المجتمع فى «بغداد» مع مسئولين عراقيين على تأجيل الاستفتاء قبل يومين من إجرائه.. حبس الجميع أنفاسه، وخيم الصمت على المكان، حتى قال «محبى الدين»، وهو مواطن كردى يعيش خارج كردستان: «لا مش ممكن مستحيل.. انتظروا قليلاً، أكيد هذا الخبر عارٍ عن الصحة»، قالها وصمت وكأنه يشجع نفسه والآخرين، ففتح بعض الموجودين هواتفهم للتأكد من الخبر الذى نفته الوكالة الدولية فيما بعد.
رئيس لجنة استفتاء فى «زاخو»: أتوقع إقبالاً كبيراً والجميع سيصوت بـ«نعم».. والوضع فى «كركوك» لم يسمح بإجراء التصويت فيها
على مدار يومين قضيناهما فى مدينة السليمانية بإقليم كردستان شمال العراق، لم نلتق مواطناً واحداً يرفض الاستفتاء الذى انطلقت فعالياته صباح اليوم للتصويت على الانفصال عن العراق وتأسيس الدولة الكردية المستقلة، فهم يؤكدون أنه «حلم مشروع» لا يمكن التنازل عنه، خصوصاً بعدما فشل الحوار مع حكومة «بغداد» على مدار سنوات طويلة، بينما ذهب بعضهم إلى التأكيد أن حكومة بغداد تستولى على مقدرات إقليم كردستان وتتعنت ضدهم، وأن البعض يتعامل بعنصرية مع الأكراد، وهو ما يدفعهم إلى المطالبة بالانفصال أملاً فى تأسيس دولة توفر لهم الاستقرار والأمن والوظائف وتحسن أوضاعهم المعيشية. «الوطن» التقت مواطنين أكراداً فى «السليمانية» وتحدثت مع عدد من المسئولين والمحللين السياسيين، الذين أكدوا أن الاستفتاء ماضٍ كما هو، وأنه حتى إذا كان الرئيس «بارزانى» فى مرحلة من المرحلة، ولو قبل الاستفتاء بساعة واحدة، قرر تأجيله بعد تقديم ضمانات كافية من حكومة بغداد للحوار، فإنهم سيظلون يدعمونه لأن حلم الدولة الكردية «حق مشروع».
مواطنون أكراد: «بغداد» تسرق مقدراتنا.. ولا نرى شراكة من جانبها ولا نشعر بالأمان معها.. وإذا فشل الاستفتاء فلن يكون هناك تغيير فى أوضاعنا.. و«عبدالله»: إذا أرادت تركيا وإيران معاقبتنا فليفعلوا.. وهناك مسائل عالقة سنبدأ حواراً مع «بغداد» بشأنها
«حتى اللحظة الأخيرة قد يصدر قرار بتأجيل الاستفتاء».. هكذا يؤكد نيشوان على، رئيس إحدى لجان الاستفتاء فى مدينة «زاخو» بشمال إقليم كردستان، التى تحتوى على 9 لجان رئيسية، بينما تحتوى محافظة «دهوك» التى تتبعها «زاخو» على 44 لجنة للتصويت، فهو يؤكد لـ«الوطن»، أن «اللجان تسلمت بالفعل كل الصناديق والأوراق الخاصة بالاستفتاء، وقد أنهينا استعداداتنا له قبل يومين من الاستفتاء. وبشكل عام، الأزمة كلها فى محافظة كركوك فقط، التى أعلن حزب الاتحاد فيها عن نيته تأجيل الاستفتاء بسبب الوضع الأمنى فيها. ورغم ذلك، كل شىء متوقع، فالرئيس بارزانى نفسه قبل يوم واحد من الاستفتاء قال إنه حتى الساعة الأخيرة ربما يكون هناك تأجيل للاستفتاء إذا كانت هناك ضمانات كافية». وعن رأيه فى الضمانات التى يمكن أن تكون كافية لتأجيل الاستفتاء، قال: «بالنسبة لى، لا أرى أن هناك أى ضمانات كافية يمكن أن تقدم لتجعلنا راضين وقابلين بهذا الأمر، ولكننا على أى حال ندعم القيادة الكردية». وعن توقعاته بشأن الإقبال على التصويت، قال «نيشوان»: «أتوقع إقبالاً كبيراً على التصويت فى كل مناطق كردستان، باستثناء مدينة السليمانية فقط ربما يكون الإقبال فيها ضعيفاً إلى حد ما، وهذا يرتبط بطبيعة المدينة نفسها، وأتوقع أن تصوت الأغلبية بـ(نعم)، فالجميع بات يرغب فى الانفصال».
فى البلد القديم، وتحديداً أمام مسجد السليمانية الكبير، أحد أقدم الآثار فى كردستان العراق، التقينا «أحمد»، عامل الشيشة البالغ من العمر 17 عاماً، الذى أكد أنه سيصوت بـ«نعم» بالتأكيد فى استفتاء الانفصال. «أحمد»، الذى لم يكمل فى تعليمه سوى الصف الخامس الابتدائى، قال إن نجاح الاستفتاء يعنى أنه «سيكون هناك تنظيم أكبر للعمال وستكون هناك معاشات وتأمينات، خصوصاً أن المعاشات لم تُصرف منذ 3 أشهر»، مؤكداً أنه «فى حال إلغاء الاستفتاء أو تأجيله فإن كل شىء كما هو، لن يكون هناك تغيير وسيظل المواطنون كما هم فى مواقعهم الحالية». ويقول «أحمد»: «أحلم كأى شاب بالاستقرار والعمل، وأنا متفائل بأن نتيجة الاستفتاء ستقول (نعم للدولة) وسيكون هناك وظائف وأعمال، وحتى إذا فشل أو حدث أى شىء، فإننا لن نتأثر».
بينما كان عارف عبدالواحد، سائق الأجرة، يجوب المدينة ليلاً، أكد أن من سيقولون «لا» فى الاستفتاء هم «قلة لا تتعدى 5% من المواطنين الأكراد»، مؤكداً أنه يدعم الاستقلال لأن استقلال الدولة الكردية يعنى حصوله على حقوقه كاملة، متسائلاً: «من لا يحب الاستقلال فى أى مكان بالعالم؟ أنا لا أشعر بالأمان فى العراق.. هنا إذا حضر مواطن عربى فإنه سيلقى الأمان الكامل، وسنستضيفه فى منازلنا.. أما إذ ذهبت أنا ككردى إلى بغداد، فإنهم سيقطعون رأسى». «عبدالواحد» يؤكد أنه لن يكون هناك إلغاء للاستفتاء، ولكن تأجيله ممكن فى حالة واحدة فقط هى أن يتم تقديم بدائل حقيقية تلبى آمال وطموحات الأكراد، مضيفاً: «لكن المشكلة هى أنه ليست هناك ثقة متبادلة، فنحن منخرطون فى المحادثات منذ عام 1993، ولا يزال الأمر صعباً. لقد وصلنا إلى هذه النقطة لأننا لا نرى شراكة فى التعامل معنا رغم أننا جزء من العراق، كل ما نراه هنا فى مدينة السليمانية من إنجازات ما هى إلا مجهود شخصى، فتخيلوا لو كان العراق أنفق على الدولة.. كنا لنصبح أفضل كثيراً. ومن يقولون إن الرئيس جلال طالبانى كان كردياً، فإننا جميعاً نعلم أن منصب الرئيس شرفى لا يتمتع بالصلاحيات».
أما «أشرف»، وهو سائق أجرة أيضاً، فقد أكد أنه لا مجال للشك فى تأييده للاستفتاء، مضيفاً: «قلة فقط هى التى سترفض الاستفتاء.. نحن نطالب بحقوقنا الشرعية لا أكثر ولا أقل». «أشرف» اتهم العراق بالاستيلاء على الموارد الكردية فى إقليم كردستان، قائلاً: «نعم.. العراق يسرق مواردنا.. نحن لدينا نفط هائل يمكننا الاستفادة به بعد تأسيس الدولة، وسنتمكن من توفير الوظائف وتحسين معيشة المواطنين، وبالتأكيد سيكون هناك استقرار أكبر، فنحن لدينا موارد يمكنها خدمة الشعب بها». وأضاف «أشرف»: «نعم، أخشى كونى عراقياً.. وعموماً نحن نرغب فى الاستقلال ولا نرتكب جريمة، لكننى متأكد من أن كل شىء سيكون أفضل إذا تم الموافقة على الاستفتاء.. كل شىء سيتغير للأفضل».
محلل عراقى: «رئيس الإقليم» لن يتراجع حتى لا يخسر شعبيته.. وربما يكون هناك تخفيف لحدة التصعيد بعد انتهاء الاستفتاء
فى شارع الملك محمود، بالقرب من متحف ضحايا صدام، وهو متحف يضم مجسمات وصوراً لضحايا التعذيب فى عهد صدام حسين، و يضم كذلك عدداً من أدوات التعذيب، التى كان يستخدمها مسئولو الأمن فى عهد الرئيس الأسبق، الذى كان يستخدم كأحد أشهر المقرات الأمنية التى مورس من خلالها أبشع أنواع التنكيل بالمواطنين، لكنه تحول إلى متحف يحكى واحدة من القصص الكردية الحزينة، كان عبدالله مدحت المقاتل المتقاعد من قوات البشمركة الكردية، يمشى فى الشارع مرتديا الزى التقليدى. «أكيد سأصوت بنعم فى الاستفتاء»، قالها الرجل الخمسينى بنبرة الواثق، وأضاف: «الأكراد يتحدثون عن حق مشروع لهم، فنحن نعانى منذ أيام الملكية من القتل والكيماوى والتعذيب. نحن لم نضر أحداً أبداً، وطوال 23 عاماً توحدنا فيها لم نؤذ لا تركيا ولا إيران.. بالعكس منذ أن سيطرنا على المعابر لم تقع عملية إرهابية واحدة من جانبنا ضد تركيا». ورداً على تهديدات تركيا وإيران بإغلاق المعابر وفرض عقوبات اقتصادية إذا تم الموافقة على الانفصال، قال «عبدالله»: «فليفعلوا ما يريدونه.. ليغلقوا الحدود إذا أرادوا إغلاقها.. لا حاجة لنا بهم.. لدينا هنا كل ما نحتاجه، لدينا جيشنا ولدينا كل مقومات الدولة». «عبدالله» يؤكد أن «الاستفتاء ليس وسيلة ضغط على العالم، فهذا حق مشروع، خصوصاً بعد أن أثبت الحوار مع الحكومة فى بغداد فشله ولم ينفعنا فى شىء. والأهم أن الاستفتاء لا يعنى أننا سننفصل فوراً، فهذا أمر يحتاج إلى وقت طويل، وسيكون هناك حوار مع قادة بغداد لتحديد التفاصيل الخاصة بالانفصال، مثل المسائل المتعلقة بالنفط والكهرباء والماء، وكل تلك الأمور المتعلقة بالانفصال».
ويرى رئيس المرصد العراقى للحريات الصحفية هادى جلو مرعى، أن «فكرة إلغاء بارزانى للاستفتاء شبه منعدمة، لأنها فرصته لكسب قلوب الأكراد، وتراجعه يعنى أنه سيفقد حظوظه كزعيم للأمة الكردية وسيكون محط سخرية، وبعدها سينتقص منه خصومه، خاصة أنه وصل إلى اللحظات الأخيرة من السباق فى سبيل إثبات زعامته القومية، وهو أول زعيم فى تاريخ الشعوب الكردية يقوم بهذه الخطوة الاستثنائية بعد والده (المصطفى)، وكانت خطوة بدائية مقارنة بما يفعله الآن». «مرعى» يؤكد أن «مضى الأمور كما يخطط لها (بارزانى) يجعله يحظى بفرصة أكبر للبقاء، وبعدها يمكنها تبريد الأجواء من خلال وقف إجراءات التصعيد أو بمرور عاصفة ردود الفعل وإمكانية أن تكون إجراءات بغداد ودول الإقليم مقتصرة على العقوبات السياسية والتجارية التى يمكن الصمود فى مواجهتها نظراً لما يختزنه من أموال، ولوجود إمكانات اقتصادية ومشاريع عمرانية وطاقة كهربائية ومنشآت صناعية، وربما يطبق (بارزانى) العبارة الشهيرة: الصمود يصنع النصر».