عائلة سعد السيد: كان المهندس الوحيد.. ولم نسمع منه كلمة إلا بعد العملية بأسبوع
زوجة الشهيد تتحدث لـ«الوطن»
بملابس مهندمة، ووجه أبيض اللون، تجلس الحاجة سنية القمحى، أرملة المرحوم البطل سعد السيد حسن، على أريكة، فى شقتها بالطابق الخامس بإحدى عمارات القوات المسلحة، بالإسكندرية، تتحرك عينا السيدة السبعينية لتمسح جدران المنزل الذى عاشت فيه مع زوجها الراحل وبناتهما الثلاث، تطوف بالصور التى تجمعه وزملاءه من أبطال إغراق المدمرة إيلات، لتستعيد ذكرى 50 عاماً مضت.
بملامح يكسوها الشيب بعض الشىء، تتحدث «سنية» ابنة مدينة بورسعيد عن ذكرياتها مع زوجها، فتقول إنه درس فى الكلية البحرية 6 شهور، بعد حصوله على بكالوريوس الهندسة، ثم سافر إلى روسيا فى بعثة من أجل الحصول على أركان حرب، كما هى العادة قديماً، وعقب عودته من روسيا التحق بالقوات البحرية فى الإسكندرية، ليدخل سلاح الطوربيد، ثم سلاح الصواريخ.
«أيام الإغراق كنت أنا وسعد مخطوبين، كان ساعتها لسه نقيب محلى 26 سنة، والطاقم اللى معاه كانوا لسه خريجين، وكانوا صغيرين فى السن، وكان المهندس الوحيد على اللنشين 501 و504، وكان بييجى المينا فى بورسعيد بعد الضهر، عشان يعمل صيانة للنشات الطوربيد، وكنت باروح له المينا، وآخد له أكل هو وأخويا اللى كان معاه وزمايلهم».. تستعيد «سنية» ما حكاه لها زوجها الراحل عن تفاصيل يوم إغراق المدمرة: «جت لهم أوامر إنهم يسيبوا كل حاجة، ويتحركوا بلنشات الصواريخ»، وصل الخبر لـ«سنية» فى منزلها القريب من الميناء، والذى اعتادت أن ترى من شرفته الميناء بوضوح: «يومها ما كنتش عارفة هو رايح فين، ولا هيرجع إمتى».
زوجته: «يوم عيد البحرية باسترجع فيه الذكريات الحلوة مع سعد».. وابنته الصغرى: «فخورة جداً لأنى بنت بطل.. وباحكى لأولادى عن بطولات جدهم»
لم يمر وقت طويل حتى وصلت أنباء عن اشتباك قوات من البحرية مع المدمرة إيلات لـ«سنية»: «لما عرفت اللى حصل، وإن اللنشين اشتبكوا مع المدمرة الإسرائيلية إيلات، كنت خايفة جداً على سعد، مش عارفة هو هيرجع ولا لأ، طب إيه اللى جرى له، لأن أيامها ما كانش فيه تليفونات، ولا يقدر يكلمنى واطمن عليه، كل الأخبار كنت باعرفها من الجرايد والتليفزيون».
نجح «سعد» ومجموعته فى إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات قرب سواحل بورسعيد، غير أنه احتاج لشهر كامل حتى يتصل بأسرته، تقول «سنية»: «بعد الإغراق بشهر، لما رجعوا إسكندرية، واحتفلوا بيهم، كلمنى وطمنى عليه إنه كويس وبخير، بعدها بكام شهر اتجوزنا، وجيت عشت معاه هنا فى إسكندرية».
تقول «سنية» إنها كانت مقدرة تماماً طبيعة عمل زوجها فى البحرية، وأنه سيكون موجوداً أغلب الوقت فى العمل: «كنت عارفة إن بعد الجواز مش هاقدر أشوفه على طول، وهيكون مشغول، وكنت موافقة على كده، لأنى كنت مؤمنة بيه وبشغله، وإن ده واجب عليه».
عقب نجاح عملية إغراق المدمرة الإسرائيلية حصل النقيب المهندس سعد السيد حسن على أكثر من وسام عسكرى، منها وسام «النجمة العسكرية» من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فى 22 يناير 1967، ثم حصل على نوط «الواجب العسكرى» من الطبقة الأولى من الرئيس الراحل السادات عام 1971، بالإضافة إلى إدراجه فى قائمة الشرف الوطنى المصرى باب القوات المسلحة، بعد منحه قلادة تاميكوم من الطبقة الماسية اعتباراً من 23 أكتوبر عام 2016، حسبما تقول «سنية».
بصوت يملأه الحنين، ووجه تكسوه الابتسامة، تتحدث «سنية» عن شعورها فى يوم عيد البحرية من كل عام: «اليوم ده باحس بالذكريات الحلوة اللى عشتها مع سعد، باحس فيه الحنين والشوق لأيام زمان لما كنا لسه صغيرين، وكفاحنا سوا، وإزاى بنينا بيت وبقى عندنا 3 بنات علمناهم لحد لما بقوا دكاترة».
رحلة طويلة خاضها البطل مع القوات البحرية منذ تخرجه حتى ثمانينات القرن الماضى، حين قرر التقاعد من وظيفته: «لما طلب إنه يقعد من البحرية، فى الأول طلبه اترفض، لأنهم ما كانوش عاوزينه يمشى، لكن هو صمم، وبعدها اشتغل فى الملاحة، وتوفى عام 2013، وكان عنده 73 سنة». علاقة خاصة ربطت الجد بأحفاده من بناته الثلاث: «كان بيجمعهم كلهم، ويقعد يحكى لهم عن تاريخه، والحروب اللى شارك فيها، وإزاى كان النصر، وكل حاجة عنه وعن بطولته، وكانوا بيبقوا مبسوطين جداً وهو بيحكى لهم، لحد دلوقتى هما فاكرين اللى سمعوه من جدهم وهما صغيرين»... تروى «سنية».
بابتسامة يشوبها الحزن، تروى «سلوى»، ابنة النقيب سعد الصغرى، 40 عاماً، ذكرياتها مع والدها، قائلة إنه كان يعاملها معاملة مختلفة عن شقيقاتها الأكبر منها: «بابا كان دايماً بيقعد يحكى لى عن تفاصيل الحرب، لأنه كمان اشترك فى حرب أكتوبر 1973، وتاريخه فى الكلية البحرية، وإزاى دخلها ونجح فيها، وعمل إيه عشان يكون بطل وطنى، وكان كل مرة بيحكى لى بيطلع بتفصيلة جديدة، وكواليس تانية بيفتكرها».
تضيف «سلوى»: «بابا ما كانش بيحب الظهور فى التليفزيون أو الجرايد، بالعكس تماماً، كان عايش وسط الناس من غير ما يعرفوا إنه بطل من أبطال التاريخ، أو إنه كان ليه دور فى انتصار مصر بعد النكسة، ولما كان يقعد يتفرج على أفلام الحرب فى التليفزيون، كان يقول إن الأحداث اللى فى الفيلم دى غلط، وكنا دايماً نتحايل عليه إنه يطلع فى برنامج أو فى حوار صحفى، عشان يعرض للناس الأحداث الحقيقية، لكنه كان دايماً بيرفض».
تتابع «سلوى»: «بابا كان بيحب شغله جداً، ومخلص له بدرجة كبيرة، وعمره ما اشتكى من التعب فى شغله، لكن ده ما كنش بيمنعه من إنه يقعد معانا فى البيت، ويتكلم معانا، ما كناش بنحس إنه بعيد عننا أو إن شغله واخده مننا».
تتنهد «سلوى»، فيما تغيم عيناها: «بابا كان دايماً يعلمنا إزاى نتقن شغلنا، ويكون عندنا ضمير وانتماء للى إحنا بنعمله، أياً كان هو إيه العمل ده، فإحنا طلعنا بنحب شغلنا وبنتقن فيه وبنتعب عشان نوصل للى إحنا عاوزينه، وعلمنا إزاى نعتمد على نفسنا، وإزاى ما نحتاجش لحد».
بصوت متقطع، ونفس طويل، تحكى «سلوى» عما ينتابها من شعور فى ذكرى عيد البحرية من كل عام: «يوم 21 أكتوبر من كل سنة باستناه بفارغ الصبر، بحب أطلع صور بابا وكتبه اللى كان بيألفها، وأقعد أتفرج عليها، وبحس إن اليوم ده مش بابا لوحده اللى بيتكرم، لأ كلنا بنتكرم، وبحس إن بابا اليوم ده قريب منى، وحاسس بيا، وأنا حاسة بيه».
تضيف: «دايماً بحكى لولادى عن جدهم، وإزاى هو بطل، ولازم يفتخروا بيه ويحكوا عنه لصحابهم، ودايماً باقولهم إن الورث اللى سابه لهم جدهم مش فلوس، هو ساب لهم تاريخ واسم لازم يفضلوا شايلينه، وإنه مش هينتهى، ولازم يورثوه لأولادهم». واختتمت حديثها بقولها: «أنا بافخر إن أبويا البطل سعد، مع إنى متجوزة ظابط شرطة، لكنى عايشة باسم أبويا مش باسم جوزى، لما حد بيتكلم معايا بيتكلم على إنى بنت البطل، مش مرات الظابط، وأتمنى إن بطولة بابا تتعرف أكتر بين الأجيال، عشان الناس تعرف همّا مين أبطال مصر، اللى دافعوا عنها وكانوا مستعدين يفدوها بحياتهم.. كل ده عند ربنا، هو اللى عارف أد إيه الناس دى تعبت عشان خاطر يدافعوا عن وطنهم، مش عشان أى حاجة تانية».