30 دقيقة من الرعب داخل مسجد الروضة.. هنا قتل الإرهاب «ضيوف الرحمن»
مسجد الروضة
قرآن.. وأذان.. وبيت من بيوت الله قد فتح أبوابه ينتظر المصلين فى يوم جمعة.. أطفال بملابس بيضاء.. فرحون بـ«رحلتهم» هذه إلى عالم الكبار.. متطلعون إلى وجه خطيب يصعد المنبر.. آملون فى «طبطبة» على كتف تتبعها كلمة: «ما شاء الله.. جدع».. الجميع استقر فى مكانه بمسجد «عيد الجريرى» بقرية الروضة غرب العريش.. دقائق وانطلقت أصوات الرصاص، مؤكدة بداية «المجزرة».
ترصد «الوطن» فى السطور المقبلة مشاهد هذه الجريمة الإرهابية.. وهى الأكبر فى تاريخ مصر.. الرصد من واقع شهادات المصابين وأقوال بعض شهود العيان، ومن واقع بيان أصدره مكتب المستشار نبيل أحمد صادق، النائب العام، أمس.
«الوطن» ترصد 13 مشهداً من «مجزرة الروضة» قرآن وأذان.. وصلاة ودماء
المشهد الأول:
الهدوء يعم أرجاء القرية الصغيرة.. الروضة.. غرب مدينة العريش.. هذا «عم فتحى أحمد إسماعيل الطنانى» مؤذن مسجد «عيد الجريرى» قد وصل مبكراً.. تعوّد فى السنوات الأخيرة أن يذهب مبكراً يوم الجمعة.. هناك وجد اثنين من العاملين فى المكان.. وفتحوا أبواب المسجد الكبير ليستقبل المصلين.. فى العادة هناك.. يذهب الجميع حتى قبل قراءة «قرآن الجمعة».. يجدون مساحة روحانية و«هواءً جديداً» فى بيت الله فى ذلك اليوم.
المشهد الثانى:
«محمد رفيق مسمح»، 4 سنوات.. مثله مثل غيره من أطفال هذه القرية «الطيب أهلها» يرافقون آباءهم إلى المسجد.. «محمد» ارتدى جلبابه الأبيض وانطلق زى «عيال البلد» للمسجد.. تعود وهو فى الثانية من عمره أن يذهب بصحبة والده.. يهرول خلفه أو يتشبث بيده وفى قرارة نفسه: «أنا راجل».. «محمد» أيضاً ونحو 45 طفلاً آخرين.. أخذوا أماكنهم بجوار الكبار.
المشهد الثالث:
فى هذا التوقيت.. كانت سيارات الإرهابيين قادمة.. 5 سيارات دفع رباعى تحرّكت من «مخبئهم السرى» فى جبال سيناء الواسعة.. يعرفون جيداً شوارعها و«مدقاتها»، ويحفظون قراها عن ظهر قلب.. فى كل سيارة كان من 4 إلى 6 إرهابيين يحملون أسلحتهم.. بنادق آلية.. آر بى جى.. لديهم هدف واحد.
الإرهابيون حضروا فى 5 سيارات واستقروا بأسلحتهم عند 12 نافذة والباب الرئيسى وأطلقوا الرصاص.. والإرهابيون فروا بعد حرق سيارات المصلين.. وطائرات الجيش لاحقتهم.. ومقابر جماعية استقبلت شهداء «الروضة»
المشهد الرابع:
مسافة زمنية طويلة.. قد تقارب الساعة وقد تصل إلى ساعة ونصف قطعها الإرهابيون بسيارات الدفع الرباعى فى طريقهم من مكان تجمعهم إلى قرية الروضة التى تقع غرب العريش، وفى نطاق مركز بئر العبد.. ربما سمعوا فى الطريق أصوات «مؤذنين».. وأصوات قرآن الجمعة.. لكنهم لم «يُصّلوا».. ولم يفكروا فى الصلاة.. أسلحتهم فى أيديهم.. سياراتهم تقاوم رمال سيناء ومطباتها.. وفى أيدى البعض منهم أعلام «داعش».. أعلام سوداء مكتوب عليها: «لا إله إلا الله محمد رسول الله».. محمد رسول الله الذى كان عنوان خطبة أمس الأول فى المسجد.. خطبة أعدها الشيخ الشاب محمد رزيق، ليلقيها على آذان المصلين».. عن «نبى الإنسانية».
المشهد الخامس:
الشيخ «رزيق»، أبن مدينة الحسينية فى الشرقية، والذى تسلم عمله فى سيناء منذ عامين، ولم يرفض، خاصة وأنه من أوائل كليته التابعة لجامعة الأزهر.. «رزيق» يتّخذ مكانه تمهيداً للصعود إلى المنبر.. ويظهر قريبه منه عم فتحى أحمد الطنانى، ليُؤذن الأذان الثانى.. وبعده وقف غالبية مَن فى المسجد.. وربما جميعهم لصلاة «ركعتى السنة».. وبدأ الشيخ فى خطبته.. ربما دقائق معدودة لم تتعد الخمس دقائق.. وكان «أهل النار» قد وصلوا إلى بيت الله.. واتّخذوا أماكنهم فى أقل من 40 ثانية.. كل واحد منهم وقف بسلاحه على نافذة بالمسجد.. وقفوا على 12 نافذة.. و3 منهم أخذوا أماكنهم عند باب المسجد.. وظل الباقى خارج المسجد.. وقد أعطى ظهره لـ«بيت الله»، تحسباً لأى هجوم.
المشهد السادس:
انطلقت رصاصات الغدر والخسة والندالة فى توقيت واحد.. من كل النوافذ.. ومن الباب الرئيسى.. توقف صوت الخطيب.. وانطلقت صرخات الأطفال.. حاولوا الاحتماء خلف ظهور الآباء والأعمام.. هذا سقط مباشرة بعد طلقات مباشرة استقرت فى جسده.. وهذا استقبل الرصاص بعده.. وهذه رصاصة عرفت طريقها إلى قلب طفل صغير.. وهنا سالت الدماء.. وحاول الجميع النجاة.. لكن الرصاص كان أقوى وأغزر وأكثر شراسة.. حاصرهم الرصاص.. بعضهم كان منصتاً للشيخ ولخطبته.
«الطنانى» أذّن للصلاة و«رزيق» أخذ موقعه والأطفال فى أحضان آبائهم.. والصرخات انطلقت والتكبيرات علت فى المسجد الغارق بالدماء.. ونحو 30 دقيقة كتبت «كل المأساة»
المشهد السابع:
إطلاق الرصاص مستمر.. ومعه تكبيرات.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا تعلم.. هل خرجت من أفواه «الضالين» (الإرهابيين).. أم أنها خرجت من قلوب المصلين وهم يواجهون الموت والغدر والخيانة وينادون على رب العالمين.. ضرب النار استمر أكثر من 15 دقيقة.. ربما وصل إلى 30 دقيقة كاملة.. الدماء الذكية كانت تُعطر المسجد.. الملابس البيضاء صارت «مخضّبة» بدماء الشهداء.. وسلم الكثير روحه إلى بارئها.. وظل أنين الكثير والرصاص يخترق قد استقر فى أجسادهم.. البعض منهم كانت إصابته خطيرة.. والبعض نجا عقب سقوطه وسقوط البعض فوقه أثناء لحظات الغدر. وقلة أخرى لم تمسسها الطلقات.. لكن شاهدت ما هو أقسى وأصعب من الموت.. رأت أطفالاً يموتون ويتألمون.. رأت كباراً يسقطون فى ثوانٍ غارقين فى دمائهم.
المشهد الثامن:
الإرهابيون.. حملوا أسلحتهم.. وأسرعوا نحو 7 سيارات خاصة بالمصلين.. وأشعلوا بها النيران.. لا أحد يعرف.. هل حرق السيارات لمزيد من «العقاب والعنف».. أم لإحداث رعب.. أم لتوصيل رسالة إلى القادمين للدفاع أو لإجلاء الضحايا والمصابين: «لا تقتربوا».. لم يتوقف «كلاب النار» عند ذلك.. لكنهم أطلقوا رصاصهم تجاه عشرات من سيارات الإسعاف التى حضرت لـ«تنقذ من يمكن إنقاذه».. بعدها استقلوا سياراتهم.. وهربوا من المكان.. قبل أن تتبعهم طائرات الجيش وترصد تحرّكهم بعد نحو ساعتين من ارتكاب المذبحة.. وتقضى على من فى هذه السيارات.
المشهد التاسع:
أهالى القرية جميعاً.. والمصلون فى المساجد الأخرى يهرعون إلى مسجد «عيد الجريرى».. يكرّمون موتاهم.. يغطون وجوه من ماتوا.. ويقلبون فى الجثامين الطاهرة بحثاً عن مصابين لإنقاذهم.. هذا يجد والده وقد فارق الحياة.. وهذا يعثر على ابن عم له غارقاً فى الدماء وأسلم روحه لرب العالمين، وهذا طفل رقد فى «سلام» إلى جوار جثة والده.. وهذا وهذا وهذا..
المشهد العاشر:
ارتباك غير عادى.. وصرخات تخرج من منازل القرية الصغيرة.. وقلوب تبحث عن «محبيها».. تبحث عن قتلى ومصابين وناجين.. القرية التى تشتهر بـ«صناعة الملح».. وتشتهر بـ«الطيبة».. وحسن استقبال الضيف.. فيها.. عدد كبير من الأهالى تركوا الشيخ زويد واستقروا بها.. تركوها هرباً من موت.. ولاحقهم ولاقاهم فى «الروضة».. الجميع فى سيناء.. لديه قريب أو حبيب من بين هؤلاء.. حضروا جميعاً من مسافات قريبة وبعيدة ليلقوا نظرة الوداع.. ويكفنوا الضحايا واحداً تلو الآخر، فى مشهد حزين.
المشهد الحادى عشر:
تتحرك الجنازات جميعاً إلى مقابر جماعية.. هناك.. كان الله حاضراً فى قلوب كثيرين.. وكانت الأحزان والآلام والدموع قوية وحاضرة.. هناك فى تراب سيناء الغالية وفى حضن رمالها.. دفنوا «أعظم الرجال» و«أطهر الأطفال».. و«أحكم الشيوخ».. تركوهم بين يدى رب العالمين.. كانوا يصلون له حين اغتالتهم الرصاصات.. وإليه ذهبوا فهو أرحم بهم من كل أهل الأرض..
المشهد الثانى عشر:
مصابون فى مستشفيات الإسماعيلية ومعهد ناصر.. أحضرتهم سيارات الإسعاف.. منهم من فى غيبوبة.. ومنهم من يتألم وهو يتمتم «الحمد لله»، وقد لا يعلم أن رفيقاً له أو صديقاً أو جاراً قد لاقى وجه ربه.. من بين هؤلاء المصابين الطفل «محمد رفيق سميح» ابن الـ4 سنوات، الذى قال لزميلتى عبير العربى فى مستشفى الإسماعيلية: «أنا راجل، ومش هاعيط علشان الإرهابيين مايفرحوش، وأنا بابا علمنى الصلاة، وإنى أحب ربنا، لكن هما مابيخافوش من ربنا، علشان كده دخلوا بيته وضربونا بالسلاح وخرجوا، طيب هما لو كويسين كانوا دخلوا صلوا، مش يدخلوا يقتلونا، هما كدابين وبيكرهوا كل المصريين».
المشهد الثالث عشر:
القرية صامتة.. هادئة.. حزينة.. سكنها الموت.. هذه منازلها المتناثرة.. وهذه مصانع الملح بها.. وتلك نظرات أطفالها ودموع سيداتها وألم بعض رجالها.. جميعهم يعلم أنه ليس فى القلب مكان لأحزان، ولا فى العقل مساحة لصدمات جديدة.. جميعهم لا ينتظرون عودة من مات.. جميعهم ينتظر «الثأر»..