زاوية «الجريرية» بـ«الروضة»: مريدون ومتصوفون يواجهون الإرهاب بـ«المحبة»
التكفيريون حرقوا سيارات الأهالى بعد تنفيذ العملية الإرهابية
مبنى من طابق واحد، جدرانه من الطوب اللبن، وأمامه ساحة شاسعة مفروشة بالرمال والحُصر، محاط بأسوار قصيرة من كل الاتجاهات، وفى أركانه بعض الوسائد التى يستند عليها كبار السن ذوى اللحى القصيرة البيضاء، وتعلو هاماتهم «الغترة» و«العقال» البدويان.. هذه هى زاوية الطريقة الجريرية الصوفية فى قرية الروضة بشمال سيناء، التى لم تشهد منذ إقامتها سوى حلقات لذكر الله و«حضرات» صوفية وأدعية ومدائح نبوية، ودروس تدعو للمحبة والتسامح، فضلاً عن روح المقاومة التى تتلبس أتباعها، والتى ورثوها عن مشايخ الطريقة، ومشايخ القبائل، أبرزهم الشيخ عيد أبوجرير، مؤسس الطريقة الجريرية بسيناء، وعلى بعد خطوات قليلة من الزاوية يوجد مسجد الروضة، الذى شهد التفجير الإرهابى الكبير، يوم الجمعة الماضى، وراح ضحيته مئات الشهداء والمصابين.
الطريق المؤدى للزاوية مغلق بمتاريس من الرمال، أقامها الأهالى لحمايتها، وعلى مقربة من بوابة الزاوية تقف سيارات متفحمة أشعل المتطرفون النار فيها، أثناء تفجير مسجد القرية، الجمعة الماضى، وفى الداخل كان من تبقى من رجال الطريقة من أهل القرية يستقبلون المترددين على الزاوية من مختلف أنحاء شمال سيناء وخارجها، الذين توافدوا لمؤازرة رجال القرية التى تعد معقلاً للطريقة التى أسسها الشيخ عيد أبوجرير، ابن قبيلة السواركة، فى ستينات القرن الماضى، ومنها انتشرت فى كل بقاع شمال سيناء وجنوبها.
الطريقة الجريرية واحدة من طريقتين صوفيتين تنتشران فى سيناء «الجريرية والعلاوية»، ويقع مقرها ومساجدها الكبرى فى مدينة الطور عاصمة جنوب سيناء، أما الطريقة العلاوية، فتأتى فى المرتبة الثانية بعد الجريرية، وكان لهذه الطريقة دور وطنى مهم، بمشاركتها فى حرب أكتوبر، حيث أسس شيخها خلف حسن الخلفات جماعات فدائية شاركت فى الحرب ودعمت الجيش المصرى، وكرّمها الرئيس أنور السادات بعد النصر.
زاوية الطريقة تبعد خطوات عن مسجد «الروضة».. ومتاريس من الرمال تنتشر على الطريق المؤدى إليها.. وبعض أتباع «الطريقة» المستهدفين من التكفيريين غادروا سيناء بعد تلقيهم تهديدات بالقتل.. و«نوار»: «الطريقة» لم تعترض المتطرفين وبعيدة عن مناطق العمليات الإرهابية ولا تجبر أحداً على المشاركة فى «الحضرات»
شريف نوار، واحد من أبناء قبيلة السواركة فى قرية الروضة، أحد المنتمين للطريقة الجريرية، يقول، لـ«الوطن»، بزهو شديد ولهجة يملأها الغضب: «إن أبناء الطريقة يمتدون من القنطرة شرق وحتى رفح، ويتعرضون للأذى من جانب المتطرفين منذ ظهورهم ولكن تلك الحادثة هى الأكبر والأبشع على الإطلاق»، مشيراً إلى أن الطريقة لا يقتصر أتباعها على سيناء فقط، ولكن أيضاً لها الآلاف من المريدين فى صعيد مصر.
«نوار»، الذى استُشهد من عائلته 16 فرداً من أعمامه وأخواله فى الحادث الإرهابى الذى استهدف مسجد الروضة، يقول إن بيوت الله هى أكثر الأماكن أمناً فى الأرض، فالإنسان يأمن فى بيت الله أكثر ما يأمن فى منزله، فإذا غاب الأمان عن بيوت الله فكيف نعيش داخل منازلنا؟
وأضاف: «نعمل زى الصعيد، كل واحد يشيل سلاحه ويدافع عن نفسه؟!»، مشيراً إلى أن الطريقة الصوفية مسالمة، لم تعتدِ على أحد ولم تؤذِ أحداً يوماً.
ويعتقد «نوار» أن المسجد لن يصلح للصلاة مرة أخرى دون وجود تأمين من الجيش والشرطة، ويتذكر الرجل شيخ الجامع الذى سقط من على المنبر وقت المذبحة، ويحمد ربه على نجاته، ويوضح قائلاً «محدش هيقدر ييجى من الأوقاف للمسجد تانى حتى دروس العلم قطعوها عننا»، حيث كان الشيخ يقيم دروساً للعلم والقرآن فى المسجد وزاوية الطريقة.
ويؤكد «نوار» أن الطريقة لم تحتك يوماً بالمتطرفين، وهم فى «الروضة» على وجه الخصوص بعيدين كل البعد عنهم: «لا نحتك بيهم ولا يحتكوا بينا»، ولا نجبر أحداً على المشاركة فى «الحضرات» داخل القرية، ولا ندعو أحداً من الأساس، مشيراً إلى أن المتطرفين سبق أن استهدفوا الشيخ سليمان أبوحراز فى العريش، اختطفوه من منزله وذبحوه ونشروا الفيديو، ولكن وقتها لم يشعر أعضاء الطريقة بالخوف خاصة أنهم بعيدون عن العمليات الإرهابية. ويقول إن المتطرفين قتلوا الشيخ لأنه رجل زاهد، يدعو للمحبة والتسامح، ويتردد عليه المتصوفة ويعتبرونه شيخاً يحمل الخير والمحبة لهم، ولكن هذا لم يُرضِ التكفيريين فقتلوه. ويتابع بصوت رخيم: «نحن على قلب غافل، لا أبيض ولا أسود».
داخل مقر الطريقة، كان أحد أعضائها الكبار يقول إنه يعيش فى محافظة الشرقية منذ التهديدات التى تلاحق الصوفية. ويضيف الرجل، الذى فضل عدم ذكر اسمه، أن التهديدات لم تتوقف ضد الصوفية منذ مقتل الشيخ سليمان أبوحراز فى شمال سيناء، ويؤكد: «طول الوقت أصبحنا مهددين»، ما دفع الرجل لترك قريته والنزوح إلى الشرقية ليعيش بها، مشيراً إلى أن من قُتلوا ليسوا فقط أتباع الطريقة الصوفية فى الروضة ولكن أبرياء كثر ليس لهم ذنب أو انتماء عقائدى، إضافة إلى عابرى السبيل الذين دخلوا المسجد للصلاة فى طريقهم للعريش.
ويقول إن الأمن يجب أن يجد حلاً لحماية أتباع الطريقة، مشيراً إلى أن أطفالهم دخلوا فى حالة من الصرع والهلع، لفقدان رجال القرية ورجال الطريقة، ما تسبب فى تدمير أكثر من 200 أسرة وقتل 30 طفلاً.
التهديدات لمسجد الروضة وزاوية «الجريرية» على وجه الخصوص مستمرة منذ ظهور الجماعات المتشددة فى سيناء منذ عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك، حسب الشيخ السيناوى، غير أن الخلافات بين الصوفية والجماعات المتشددة فى البداية اقتصرت على خلافات ومشاحنات فكرية لم تصل إلى درجة حمل السلاح، مشيراً إلى أن ما يُعرف بـ«ولاية سيناء» وزعت منشوراً على المناطق التى تتمركز فيها الطرق الصوفية فى شمال سيناء تهددهم فيها وتطالبهم بإيقاف جميع «الحضرات» التى تقام فى الزوايا الصوفية، وحددت مجموعة من الأماكن تهدد باستهدافها إذا لم توقف «الحضرات»، وعلى رأسها زاوية الطريقة الجريرية القريبة من مسجد الروضة. وأوضح أن الصوفية فى سيناء تختلف عن الصوفية فى وادى النيل، فـ«الحضرات» التى يطالب المتشددون بوقفها لا تختلط فيها النساء مع الرجال كما يحدث فى «الحضرات» الأخرى، و«الحضرة» الجريرية فكرها متمسك بعادات وتقاليد البدو فى سيناء، مدللاً على ذلك بأنه خلال التعرف على الجثامين عقب الحادث لم تدخل امرأة واحدة للمسجد لتودع زوجها أو نجلها ولم يُسمح لأى نساء بالدخول إلا للأغراب الباحثين عن عابرى السبيل الذين استُشهدوا فى الحادث.
لم يكن ذلك الشيخ -الذى رفض ذكر اسمه- هو الوحيد الحريص على عدم كشف هويته، فمعظم الموجودين بالزاوية لم يريدوا كشف هوياتهم خشية استهدافهم من الإرهابيين، وقال أحدهم إن شيخ قبيلة السواركة فى قرية الروضة يعيش فى الإسماعيلية، بخلاف كثير من المنتمين للطريقة الجريرية المستهدفين من الإرهابيين غادروا سيناء.
ولم يكن استهداف «الروضة» هو الحادث الأول من نوعه الذى يكشف عداء التكفيريين للمتصوفة فى سيناء، فقد شهدت سيناء العديد من الاعتداءات على أضرحة ومقامات أولياء الله الصالحين، منها ضريح الشيخ زويد بمدينة الشيخ زويد الذى تعرض للتفجير بعبوات ناسفة عدة مرات، بخلاف ضريحين آخرين للشيخ سليم أبوجرير بقرية مزار غرب العريش، وضريح الشيخ حميد أبوجرير، شيخ الطريقة الجريرية السابق، بمنطقة المغارة وسط سيناء، فضلاً عن اغتيال اثنين من مشايخ الصوفية العام الماضى، ولم تتوقف تهديدات «داعش» للمتصوفة فى سيناء، على رأسهم تلك الطريقة التى قُتل أكثر من 300 فرد من أبنائها خلال الهجوم على قرية الروضة.