العطش وقرارات الحكومة تهدد «وجبة المصريين التاريخية»
ارتفاع تكاليف الإنتاج بعد التعويم حاصر زراعة الأرز
قطاع كبير من المصريين يعتبر الأرز أكلة أساسية، كما أن عدداً كبيراً من الفلاحين يعتبرونه محصولهم الأول، لكن المحصول الاستراتيجى يعانى عدة مشاكل تهدد وجوده على الأراضى المصرية، أهمها نقص المياه والأسمدة وارتفاع ملوحة التربة. «الوطن» ترصد فى هذا الملف معاناة الفلاحين مع المحصول «الشره مائياً»، والذى حددت اللجنة الوزارية المشتركة لوزارتَى الزراعة والرى، مساحات بعينها لزراعته فى محافظات الدقهلية والشرقية وبورسعيد ودمياط وكفر الشيخ والبحيرة فقط، ومع ذلك رصدت وزارة الرى والموارد المائية زراعة 600 ألف فدان بالأرز بالمخالفة للقرارات الحكومية، رغم أن الوزارة تحصّل غرامة قيمتها 3660 جنيهاً على كل فدان مخالف. المزارعون أكدوا أنهم متمسكون بزراعة الأرز رغم الغرامة، وبعضهم قال إنه مستعد للحبس، لأن المحصول بالنسبة له حياة أو موت وقالوا: «لازم نزرع رز عشان نأكّل عيالنا»، بينما حذّر رئيس قسم بحوث الأرز بمركز البحوث الزراعية من خطورة حظر زراعة المحصول، وأكد أن مساحة ثلثَى أراضى الدلتا ستكون مهددة بالبوار فى حال منع زراعة الأرز. نائب رئيس اللجنة الدولية للأرز حذر أيضاً من خطورة خفض المساحات المنزرعة بالمحصول، وكشف أن ذلك سيُحدث عجزاً فى الإنتاج بمقدار مليون طن، فيما يستهلك المصريون 3.5 مليون طن سنوياً، نصيب الفرد منها 40 كيلو فقط فى السنة، وقال إن زراعة الأرز فى مصر تستهلك 6 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً، أما نواب البرلمان فطالبوا الحكومة بالبحث عن محاصيل بديلة للأرز توفيراً للمياه التى يستهلكها سنوياً.. إلى التفاصيل:
«الأرز».. زراعة استراتيجية يحاصرها نقص الأسمدة والمياه وارتفاع الملوحة
حاصرتهم الأزمات بعد التعويم، بداية من ارتفاع كلفة الإنتاج وانتهاء بنقص مياه الرى الذى أضر بمعظم الأراضى الزراعية، ورغم ذلك حرص مزارعو الأرز على زراعة المحصول فى موسمه كل عام، بهدف التخلص من ملوحة التربة التى أنهكتها مياه الصرف، وقللت إنتاجيتها إلى النصف تقريباً، ولم يقتصر الأمر على محافظة بعينها بل امتد إلى معظم محافظات الدلتا والوجه البحرى.
فى قرى ومراكز محافظة البحيرة، ما زالت معاناة الفلاحين قائمة على الرغم من رضاهم الكامل هذا الموسم عن سعر الأردب الذى حددته الحكومة، نظراً لتهديد 175 ألف فدان مزروعة بالمحصول بالتلف بسبب نقص المياه وعجز التقاوى بالجمعيات الزراعية، الأمر الذى يدفعهم إلى المجازفة لشراء تقاوى من السوق الحرة، ما يترتب عليه آثار سلبية كثيرة.
الدكتور محمد عبادى، الأمين العام لنقابة الفلاحين الزراعيين بالبحيرة، قال لـ«الوطن»: إن سعر محصول الأرز هذا العام يرضى الفلاح بشكل عام، حيث وصل سعر الأردب هذا الموسم إلى 1300 جنيه، وهو سعر مقبول مقارنة بالمواسم الماضية، ولا توجد شكاوى من الفلاحين فيما يخص الخسائر، إلا أن الأزمة الكبرى التى تهدد مئات المزارعين هى نقص مياه الرى فى الترع الرئيسية، ومن خلال رصد الأسباب اتضح أن المخلفات الزراعية الملقاة بالترع والمصارف تهدر كميات كبيرة من المياه، وعلى المسئولين بالدولة إيجاد حلول سريعة وجادة لهذه الأزمة التى تهدد ببوار آلاف الأفدنة، وأضاف أن موسم حصاد محصول الأرز فى البحيرة يستغرق 3 شهور، بداية من شهر سبتمبر حتى آخر نوفمبر، حيث يتم حصاد أرز «جيزة 177» على مدار شهر سبتمبر، و«جيزة 102» فى شهر أكتوبر، أما «جيزة 101» فيتم حصاده بداية من منتصف أكتوبر حتى آخر نوفمبر، وخلال هذه الفترة يخصص الفلاح وقته لجمع المحصول وتسويقه، مشيراً إلى أنه على الرغم من أن أزمة قش الأرز كانت تحاصره كل عام، فإن توفير «كباسات» داخل الأراضى الزراعية هذا العام، رفع من على كاهل الفلاح عبء التخلص من قش الأرز، بعد أن كانت المحاضر البيئية تهدده فى حالة حرقه داخل الأراضى الزراعية.
وأضاف فرج عبدالجليل، مزارع بأبوحمص، أن أزمة نقص التقاوى تواجه الفلاح فى كل موسم زراعى، ومن المفترض أن تكون الجمعية الزراعية منوطة بتوفير احتياجات الفلاح من التقاوى الخاصة بمحصول الأرز، إلا أن العجز فى توريده يحرم الفلاح من الحصول على منتج آمن، لأنه لا يجد حلاً سوى الشراء من السوق الحرة، التى تعرض أصنافاً لا يعلم أى مزارع مدى جودتها، وكثيراً ما تكون التقاوى «خلطة»، بمعنى أن يقوم التاجر بجمع أكثر من نوع ويخلطها ثم يبيعها على أنها صنف واحد، وهو ما يتسبب فى إهدار كميات كبيرة من المحصول، ولا يتم اكتشاف ذلك إلا بعد موسم الحصاد.
فايز جمال، فلاح بقرية أبيس التابعة لمركز كفر الدوار، وصف الأزمة قائلاً: «نروى الأراضى بمياه الصرف الموجودة بالمصارف الزراعية، بسبب نقص المياه داخل الترع المخصصة للرى، ومفيش حل تانى عشان نزرع أرز، وده بسبب مشروع الرى المطور اللى أثبت فشله داخل أراضى أبيس، لأن الأرض طبّلت ومش بتزرع زى الأول، وإحنا طالبنا مسئولى الرى بإيجاد حل للأزمة عشان ننقذ الأرض من التلف، ومع ذلك مفيش حد رد علينا، والفلاح والمحصول بتاعه هما الضحية بسبب إهمال المسئولين». وأوضح أن المشكلة تفاقمت بالنسبة للأراضى الكائنة فى نهايات الترع والمصارف والمجارى المائية، مما يهدد الأراضى الزراعية المحيطة بها بالتلف والبوار، ويلجأ المزارعون إلى الرى بمياه الصرف الصحى الملوثة، والمياه الجوفية، والحكومة لا تهتم بالفلاح، ولا تسأل عن مصالحه، ويبقى الفلاح المصرى العنصر المهمش لدى الحكومة المصرية، وعلى المسئولين الاهتمام بالفلاح قبل وصوله لمرحلة يأس، ويترك الأرض دون زراعة أو إنتاج.
وفى الدقهلية، يعتبر الأرز أهم محصول يحرص الفلاح على زراعته سنوياً لما له من عائد يفوق عائدات المحاصيل الأخرى التى تُزرع فى التوقيت نفسه من العام بالإضافة إلى أنه لا يحتاج إلى الكثير من الجهد كما هو الحال فى المحاصيل الأخرى، وبلغت المساحة المزروعة بالأرز هذا العام 381981 فداناً، بانخفاض 12 ألف فدان عن العام الماضى لصالح محصول القطن، الذى أقبل عدد من المزارعين على زراعته هذا العام عقب ارتفاع أسعاره فى السوق.
فلاحو الدقهلية: أراضينا لا يمكن زراعتها بأى محصول صيفى آخر غير الأرز بسبب الملوحة.. وفلاحو البحيرة: المحتكرون يبيعون الأسمدة فى السوق السوداء
ندرة المياه، هى العنوان الرئيسى لمعاناة الفلاحين فى «بلقاس والمنزلة ودكرنس والجمالية وبنى عبيد»، ما يهدد أراضيهم بالبوار أو يتحملون تكاليف إضافية: «الأرض لدينا مالحة ولا يمكن زراعتها بأى محصول صيفى آخر بخلاف الأرز لأنه يتحمل ملوحة التربة، أما الذرة أو القطن فقد فشلنا فى زراعتهما»، هكذا أكد عيد على، أحد الفلاحين بمنطقة حفير شهاب الدين، مشيراً إلى أن معاناتهم السنوية تبدأ من شهر مايو حتى موعد حصاد الأرز نظراً لندرة مياه الرى، ما يدفعهم للاعتماد على مياه المصارف لتزيد من ملوحة الأرض لكن الأرز يتحملها.
وأضاف أن المحصول يتأثر بندرة المياه التى تتسبب فى تراجع الإنتاجية، مشيراً إلى أن قلة مياه الرى دفعتهم للمطالبة بعدم تحويل مصرف كوتشنر ليصب فى البحر المتوسط، بهدف الحصول على مياهه فى رى أراضيهم، نظراً لموقع الأرض فى نهاية الترع. وأكد محمود عبدالوهاب، مقيم ببلقاس، أن الفلاحين دائماً ما يتبعون تعليمات الدورة الزراعية ولا يزرعون المحصول بالمخالفة للقانون ورغم ذلك لا تصلهم مياه الرى التى يتم توفيرها لكبار الإقطاعيين، بحسب وصفه، ولا تصل المياه إلا كل 15 يوماً.
«تختفى الأسمدة مع بداية شهر أبريل من كل عام ويحتجزها المحتكرون لبيعها فى السوق السوداء».. هكذا عبر على رفعى عن غضبه من تكرار المشاكل التى يعيشون فيها كل عام. وأضاف أنه بمجرد بدء زراعة الأرز تختفى الأسمدة التى يحتاج الفدان منها 6 شكائر على الأقل، فضلاً عن عدم توافر الحصص المدعمة فى الجمعيات الزراعية، وبالتالى يظل الفلاح رهن تحكم تجار الأسمدة فى السوق السوداء، وبعد شراء الأسمدة لحاجة المحصول إليها، تبدأ الجمعيات الزراعية فى توفير الحصص المدعمة بعد أن تنتفى حاجة المزارع إليها، الأمر الذى يؤشر إلى وجود خلل وفساد إدارى، على الدولة التدخل لحماية الفلاح البسيط منه. وقال أحمد عبدالباسط، فلاح: «إن محصول الأرز من أهم المحاصيل التى تخرجها الأرض حالياً بعد أن وصل سعر الطن إلى 4 آلاف جنيه من ناحية وهو محصول لا يستغنى عنه الفلاح فى بيته طوال العام فالأرز فى البيت مثل الخبز تماماً»، ولفت إلى أن الأرز لا يحتاج لجهد كبير فى زراعته، فبعد تجهيز مساحة صغيرة من الأرض يتم عمل مشتل بها، وبعدها نجهز باقى الأرض ونزرعه بها وأهم شىء الغمر بالماء طوال فترة الزراعة ومقدارها 4 شهور تقريباً، لا نبذل خلالها أى جهد إلا يوم الحصاد».
«هنلاقيها منين ولا منين.. من نقص مياه الرى ورى الأراضى الزراعية بمياه الصرف ولا الغرامات ونقص الإنتاجية الزراعية.. الأراضى بارت والأسمدة ارتفعت أسعارها».. كلمات لخصت معاناة مزارعى دمياط على لسان سامح الديب، مزارع بكفور الغاب التابعة لمركز كفر سعد، مؤكداً أن أزمة نقص مياه الرى تسببت فى تلف المحاصيل، وأن معاناتهم عمرها 4 سنوات، لم تصل مياه الرى خلالها للمنطقة، نظراً لوقوع الأراضى فى نهاية الترع، ورغم شكواهم مراراً وتكراراً إلا أن الوضع لم يتغير، فاضطروا للاعتماد على مياه الصرف الزراعى المختلطة بالصرف الصناعى. وأضاف: «أملك وعائلتى 100 فدان قمنا بزراعتها بمحصولى الأرز والقطن ونتيجة للمياه الملوثة التى نستخدمها فى الرى بارت أجزاء كبيرة من الأراضى».
وطالب بزيادة حصتهم من مياه الرى تجنباً للخسائر التى تكبدوها على مدار الأعوام الماضية، حيث إن إنتاجية الفدان يجب ألا تقل عن 3.5 طن أرز ونظراً لمشكلة نقص مياه الرى وتلوثها انخفضت الإنتاجية إلى 1.5 طن للفدان وبالتالى لا يغطى الفدان تكلفة زراعته بعد اضطراره لبيع طن الأرز بسعر 3500 جنيه كأرز شعير نظراً لرداءته ويقوم التاجر بخلطه مع محصول جيد ليباع بسعر يتراوح من 8000 إلى 9000 جنيه للطن فى السوق المحلية كأرز أبيض. وأضاف أن تكلفة زراعة الفدان وصلت إلى 5000 جنيه بسبب ارتفاع المدخلات المتمثلة فى السولار والأسمدة.
فيما شدد مجدى البسطويسى، نقيب الفلاحين فى دمياط، على ضرورة زيادة حصة المزارعين من الأسمدة ومستلزمات الإنتاج للأراضى الزراعية، خاصة مركز كفر سعد بسبب عدم وصول المياه العذبة للأراضى واضطرار المزارعين لرى أراضيهم بمياه الصرف الزراعى من بحر بسنديلة المغذى للأراضى التابعة لخمس جمعيات زراعية فى دمياط وهم «المرابعين، أبوعياد، كفر الغاب، خزان عاشور ومنشية ناصر» والبالغة مساحتها 5800 فدان.
وأشار «البسطويسى» إلى أن المساحة المتضررة من نقص مياه الرى فى مركزى كفر سعد وكفر البطيخ بلغت 10 آلاف فدان من ناحية تشقق الأرض وضعف إنتاجية الفدان وزيادة ملوحة التربة الأمر الذى دفع الفلاحين إلى زراعة الأرز كل عام على عكس الدورة الزراعية للتخلص من الملح الزائد سنوياً، وطالب بإقامة مجمعات «تسويق الأرز» بجانب الجمعيات الزراعية وذلك بإشراف وزارة الزراعة أو التعاون الزراعى، مقترحاً قيام الدولة بشراء طن أرز فقط من كل فلاح لصالح وزارة الزراعة بالسعر الذى تحدده الدولة لكى يباع للمواطنين بسعر مناسب، مضيفاً أن عدم إعلان الدولة عن سعر الأرز قبل زراعته يضطر المزارعون لبيعه للتجار، مما يولد أزمة كل عام بطرحه فى الأسواق بسعر مرتفع، مشيراً إلى ضرورة تقييم سعر الطن بعد احتساب التكاليف وتحديد هامش ربح والتعاقد مع الجمعية الزراعية قبل كل موسم.
نقص الأسمدة أحد أسباب تراجع مساحات الأرز