الفنانون: نعانى قلة الإمكانيات وانعدام التقدير لإبداعنا
بعض الأعمال الفنية لآدم حنين
أزمات متعددة ظلت تلاحق الأجيال المتعاقبة من النحاتين فى مصر، بمجرد أن تخطو أقدامهم عتبات الكليات والأقسام المتخصصة فى هذا الفن، ما بين قلة إمكانات وغياب الأدوات أو قلة الاهتمام والوعى أو فقدان الهوية أو دعوات التحريم، وما إلى ذلك من الأزمات التى تستعرضها «الوطن» مع نحاتين من الأجيال القديمة وآخرين من جيل الشباب.
«آدم حنين»، فنان تشكيلى متخصص فى النحت، وأحد رواد الجيل القديم، تخرج فى كلية الفنون الجميلة عام 1953، بعد رحلة «عشق» للنحت بدأها منذ أن كان فى الثامنة من عمره، حينما أخذه معلم التاريخ فى المرحلة الابتدائية إلى المتحف المصرى ضمن مجموعة أخرى من الطلاب، فى زيارة علمية، إلا أنها لم تمر عليه مرور الكرام، كما حكى بنبرة صوته المنخفضة، التى دلت على سنين عمره التسعين: «أول ما دخلت المتحف اتجننت من كتر التحف والتماثيل الفرعونية اللى شُفتها، وقتها سبت زمايلى وفضلت أجرى فى كل مكان عشان أتفرج على كل الحاجات اللى موجودة، ومبقتش عايز أروّح، وكرهت كل حاجة تانية ساعتها، وكانت الزيارة دى بالنسبة ليا ليها دور كبير أوى إنها تزرع فيا حب النحت، مع إنى ساعتها ماكنتش أعرف أى حاجة عنه». وكانت القطعة الأولى التى بدأ بها «حنين» رحلته الطويلة مع فن النحت، فى المدرسة فى اليوم التالى من الزيارة، حيث كانت من الصلصال، حيث رآها والده وأثنى عليها وأخذها ليحتفظ بها وسط مقتنياته: «من ساعتها دخلت فى السكة دى، وبقت دى أكتر حاجة برتاح ليها».
آدم حنين: فى الخمسينات والستينات كان فيه تقدير لقيمة النحت رغم عدم توافر الإمكانيات الحالية.. والوضع اليوم أسوأ كثيراً.. والمفاهيم الخاطئة أكبر أزمات النحاتين فى مصر
«متحف آدم حنين للفن التشكيلى»، كان الاسم مكتوباً على لافتة متوسطة الحجم، أمام بوابة حديدية كبيرة، تفتح على طرقة مستطيلة تأخذ مرتاديها إلى ساحة داخلية كبيرة، توزعت فيها المنحوتات بصورة منظمة، جميعها نحتها «حنين» على مدار أعوام طويلة مضت، وجعل منها مزاراً لكل من يريد أن يلقى نظرة عليها، فضلاً عن كونها «ملتقى أجيال» ينقل من خلاله خبراته إلى الأجيال الحديثة التى يراها فى حاجة إلى ذلك، بعد أن لمس فى كثيرين منهم ميلهم إلى الفنون الأوروبية دون المصرية: «إحنا أصلاً بتوع الحجارة فماينفعش الأجيال الجديدة تنحرف عن الطريق ده وتروح تقلد شغل ناس دخلوا فى المجال بعدنا بآلاف السنين، واللى بحاول أعمله دلوقتى إنى أجمع أكبر قدر من النحاتين الشباب حواليا وأعلمهم إزاى البحث عن المصرية فى شغلهم، وفى نفس الوقت نراعى الفنون الأوروبية اللى ضرورى نعرفها».
لم تكن رحلة «حنين» مع فن النحت بلا أزمات، وإنما واجه مشكلات أو عقبات فى بداية مشواره، لم تكن من وجهة نظره أقل من الأزمات التى يمر بها نحاتو الجيل الجديد الحالى، فجميع الأجيال المتعاقبة على فن النحت، من وجهة نظره، لها أزماتها الخاصة المختلفة، ومن خلال معاصرته لجميع هذه المراحل فهو يملك القدرة على معرفة الفوارق بين الأزمنة وبعضها: «فى الخمسينات والستينات كان فيه تقدير لقيمة الفنون وأولها النحت، لكن للأسف مكانش فيه الإمكانيات اللى موجودة فى العصر الحالى، لكن حالياً العكس هو اللى موجود، فيه إمكانيات وفيه تطور وفيه بيع وشرا للمنحوتات الفنية نفسها، لكن الفن فقد قيمته عند الناس».
أزمة أخرى «قديمة - حديثة» تواجه «حنين» فى الوقت الحالى، وهى مسألة تنظيم «سومبزيوم أسوان»، وهو ملتقى نحاتى العالم، وقد كان هو واحداً من مؤسسيه، حيث يتم من خلالها تعليم أجيال جديدة النحت على أنواع الحجارة المختلفة، إلا أن الميزانية تقف دائماً حجر عثرة أمامه، رغم أنه المنفذ الوحيد لتعليم فن نحت الحجارة للأجيال الجديدة: «بعد ما كانوا مفروض يزودوا عدد النحاتين المشاركين فيه، لقيناهم بيقولوا إحنا هنقلل الميزانية، وبقينا نحارب عشان نوفر الفلوس دى، ومبقاش فيه قدامنا غير إننا نقلل عدد المشاركين عشان الميزانية تكفى».
«ماجد»: لابد أن يكون للدولة دور لتضع مصر على الخريطة الفنية فى الشرق الأوسط وزى ما بيحاولوا ينهضوا بالبلد صناعياً لازم فى نفس الوقت ننهض بيها ثقافياً.. و«مجدى»: «الناس هنا فاكرينا بنهزر ونلعب وبيرموا زبالة جنب المنحوتات.. لكن اللى بره بيقدروا شغلنا جداً»
أزمة أستاذ جامعى
على المستوى الأكاديمى، تسببت أزمة أخرى فى نفور الكثيرين من فن النحت، حسب ما قال الدكتور إبراهيم أحمد، خريج قسم النحت من كلية الفنون التطبيقية عام 1989، الذى كان شاهداً على حقبة أخرى من الزمن، لم تخل من الأزمات التى أحاطت بفن النحت، كان أكبرها بالنسبة له هو الأستاذ الجامعى، «الأستاذ الجامعى النحات بينقصه الفكر والإبداع فى مجال التخصص، ودايماً واقف فى نفس نقطة البداية من غير مواكبة للأفكار العالمية».
ابتعاد الطلاب فى الكليات عن أقسام النحت كان أحد أسبابه هو الأستاذ الجامعى، حسبما يرى «إبراهيم»، فهو لم يحببه فى الفن منذ البداية، حينما واجه مواد القسم فى السنة التمهيدية قبل التخصص: «حيث كان الأستاذ يطلب منه أعمالاً صعبة جداً من غير ما يقدم له أى مساعدة، ويسيبه مع نفسه، ولو احتاج لمساعدة بيقوله ارجع للإنترنت»، وهو الأمر الذى يعد أسوأ دعاية لفن النحت، وفق «إبراهيم»: «لو الأستاذ الجامعى أصبح قوى ده هيكون أكبر نوع من أنواع الدعاية للمجال، لأنه هيغير نظرة الطالب نفسه عنه».
أمور كثيرة يمكن أن يتم استخدام النحت بها، حسب ما قال «إبراهيم»، من الممكن ألا يتوقعها الكثيرون، وليس فقط الصورة النمطية عن النحت، والتى قد لا يجد الطالب غيرها فى الجانب الأكاديمى، كان من بينها النحت الرومانسى، الذى يمكن التعبير به عن الترابط الأسرى أو العواطف الرومانسية بين الأشخاص: «ممكن النحات يشتغل على إنه يرجع روح الأسرة وترابطها من تانى من خلال منحوتاته وده أنا بعمله على المستوى الشخصى».
دعم الدولة المفقود والدور النقابى الغائب:
«ماجد ميخائيل»، نحات فى منتصف عقده الرابع، تخرج فى كلية الفنون الجميلة عام 2004، ليكون تخرجه هو أولى مشكلاته، حينما رفضت الكلية تعيينه، رغم أنه الأول على دفعته، ليقرر بعدها أن يسلك طريقاً أصعب، حمد الله بعد ذلك على الظروف التى ألقت به فيه، رغم الأزمات المادية الطاحنة التى مر بها، لما تعلمه من فنون نحت مختلفة وكثيرة، إلا أن أزمته الكبرى كانت دائماً فى جهل الكثيرين بماهية ما يصنع: «معرفة الناس بفن النحت قليلة جداً، ومفيش أى دعم مادى أو معنوى للفن ده من أى جهة، وده مسبب لينا مشكلة كبيرة جداً، خاصة إن وعى الناس بالفنون كلها محتاج تعديل كبير وأولها النحت، عشان لما واحد يشوف تمثال مايسميهاش حتة حجارة ويقول إيه البتاعة دى، أو يقول عليه صنم أو يقول على تمثال عارى إنه خادش للحياء».
أزمات مادية كبيرة تواجه شباب الفنانين، رغم ترفعهم عن الحديث حولها أمام الكثيرين، حسب ما قال «ماجد»، وكان ذلك نتيجة قوانين قاصرة وسياسة خاطئة تنتهجها الدولة تجاه مثل هذه الفنون: «الدولة سايبة الفنانين مع نفسهم كل واحد يعمله منحوتة ويدور على مكان يبيعها فيه، عشان فى الآخر ياكل ويشرب بفلوسها، لكن عشان نعمل معرض فنى كبير ماينفعش ومش هنعرف، لأننا بنواجه صعوبة كبيرة جداً بخصوص دخول وخروج الأعمال المشاركة فى معرض زى ده عندنا فى مصر، وبيكون عليها جمارك عالية جداً، لكن الدول اللى عندها قوانين بتنظم الموضوع ده بشكل كويس تقدر تعمل متحف اللوفر فى بلادها، زى دبى مثلاً، وتقدر تعمل معارض فنية كبيرة زى آرت فير بيروت، لكن إحنا من الكلام ده كله واقفين نتفرج وبس».
طاقات فنية كبيرة من شباب النحاتين تتمتع بها مصر، حسب «ماجد»، وما يثير تعجبه عدم استغلال هذه الطاقات فيما هو نافع لهم وللدولة من كافة النواحى، وهو يقول: «عيب على بلد بحجم مصر إن الأمور فيها تبقى بالشكل ده، والدولة لازم يكون ليها دور فى إنها تحط مصر على الخريطة الفنية فى الشرق الأوسط، وزى ما بيحاولوا ينهضوا بالبلد صناعياً لازم فى نفس الوقت ينهضوا بيها ثقافياً، لأن الثقافة تعتبر من أكبر الموارد اللى بتعتمد عليها دول كتير، وماينفعش دبى أو بيروت أو طهران تبقى أهم مننا فى المنطقة كمنتج فنى بالشكل ده».
غياب الموديل العارى عن أقسام النحت فى كليات الفنون الجميلة كان واحداً من أهم المشكلات التى تواجه الأجيال الجديدة من النحاتين، حسب ما يرى «ماجد»، فهو نوع مهم من أنواع تدريب الطالب على أمور لن يراها فى مكان آخر: «زى ما الطب ماينفعش من غير تشريح كذلك النحت ماينفعش من غير موديل عارى»، فبعيداً عن الجانب الأخلاقى هناك طالب فى قسم نحت يحتاج إلى دراسة مثل هذه الأشياء، وأن يقوم بها فى إطار محدد داخل الكلية أفضل من أن يقوم بها بشكل شخصى خارج الكلية، حسب «ماجد»، مشيراً إلى أن هذا الأمر لا يخص ديناً بعينه أو عقيدة بعينها: «فى كل الأحوال لو عملت تمثال عارى وخدته وريته لكاهن مش هيعجبه زى بالظبط لو وريته لشيخ، لكن أنا بتكلم على الوعى بطبيعة الفن ده بشكل عام، والكلام ده اتغير فى أوروبا فى القرن الـ13، لما مايكل أنجلو بدأ يعمل التماثيل العريانة إحياء للفن الإغريقى والرومانى، فى البداية كانوا بيعتبروا إن ده خادش للحياء، ومع الوقت بقى عندهم وعى بالكلام ده، لكن هنا فى مصر الوعى ده يكاد يكون معدوم».
قلة وعى وتكلفة مرتفعة:
«النحات دلوقتى فى معزل عن الناس كلها»، جملة قالها الثلاثينى «مجدى عبده»، خريج قسم النحت بكلية الفنون الجميلة جامعة حلوان دفعة 2011، الذى يبدأ حياته المهنية فى ظل ظروف مضطربة وأجواء غير مستقرة، جعلته فى قلق دائم على مستقبله، لا سيما بعد ما تردد على أسماعه من دعاوى تحريم النحت والتماثيل المختلفة: «رواد المجال المحدودين همّا بس اللى بيقدروا اللى بنعمله من منحوتات، غير كده إحنا بالنسبة لباقى الناس كلها بنهزر وبنلعب، فى الوقت اللى الناس بره فى دول تانية بتقدر شغلنا جداً، وإحنا هنا لحد دلوقتى لما بتقول لواحد أنا نحات يرد عليك ويقولك يعنى بتعمل إيه، عشان كده تلاقى الناس فى الشوارع بتتعامل مع المنحوتات بشكل غريب وبدون وعى، واللى يرموا جنبها زبالة أو يخلوها حيطة إعلانات».
لم يكن فى حسابات «مجدى»، عندما التحق بكلية الفنون الجميلة، أن يكون النحت وظيفة يمتهنها بعد التخرج، وإنما هو فقط فن يحبه منذ أن كان طفلاً، ولم يشغل فكره بما ستسفر عنه سنين عمره المقبلة: «ماكنتش أعرف إن المنحوتات اللى بعملها ممكن تتباع، والموضوع بقى ييجى معايا بالصدفة، كل فترة مثلاً حد يشوف حاجة أنا عاملها فيشتريها، وأقعد فترة أصرف فى الفلوس اللى بعتها بيها لحد ما أبيع منحوتة تانية».
وبعد تخرجه بفترة قليلة حصل «مجدى» على منحة دراسية فى إيطاليا، ليكتشف من خلالها أن مجال النحت له العديد من الطرق فى هذه الدول تجعل منه مجالاً مربحاً، إلا أن المعوقات فى مصر كثيرة: «عشان تصرف على حتة نحت دلوقتى محتاج فلوس كتير»، وليست أزمة التكلفة وحدها هى كل ما يؤرق «مجدى» وغيره من أبناء جيله، وإنما كانت هناك أزمات أخرى متمثلة فى عدم توافر أدوات النحت، فضلاً عن عدم وجود محلات لبيع هذه الأدوات من الأساس: «مصر كلها مفيش فيها محل واحد لبيع أدوات النحت، وبنضطر نروح نشترى معدات بناء، وناخدها ونحاول على قد ما نقدر نشتغل بيها، أو نخلى أى حد نعرفه بره مصر يبعت لنا الأدوات اللى إحنا محتاجينها، وده يوضح قد إيه إن مفيش حد واخد باله من المجال ده أصلاً فى مصر، وللأسف الفن التشكيلى فى مصر عبارة من محاولات فردية، بنجتهد فيها ونعافر عشان بس تتشاف وتحس إن ليك دور فى المجتمع».
تحدث «مجدى» أيضاً عن حلقة وصل مفقودة بين النحاتين، والفنانين التشكيليين، حينما أشار إلى دور النقابة «غير المفهوم» منذ سنوات طويلة مضت، حيث لا تقدم لأعضائها أى شىء، فضلاً عن الانتخابات النقابية التى لم تجر فيها منذ فترة طويلة: «من سنة 2010 مفيش انتخابات حصلت فى النقابة لأنها مش قادرة تعمل اجتماع جمعية عمومية».