الوحدة العربية.. حلم قتلته مؤامرات الغرب وطائفية العرب
الرئيس جمال عبدالناصر يتوسط الرئيس الجزائرى بومدين والمشير عبدالحكيم عامر
عاشت القومية العربية حلماً يراود الزعيم جمال عبدالناصر طوال حياته، خصوصاً بعد أن تولى مقاليد الحكم فى مصر، لأنه كان يرى أن وحدة العرب هى نقطة القوة التى يمكن الاعتماد عليها بشكل أساسى لمواجهة أطماع قوى الاستعمار الكبرى فى خيرات ومقدرات العالم العربى، ولعل أبرز تجسيد لهذا الحلم هو المقولة الشهيرة التى أطلقها من قلب العاصمة السورية دمشق، مدشناً ما أطلق على تسميته خلال حقبة الخمسينات والستينات «الناصرية» حين قال «إن المسيرة المقدسة التى تصر عليها الأمة العربية، سوف تنقلنا من فوز لآخر.. وعلم الحرية الذى يرفرف فوق بغداد اليوم سوف يحلق فوق عَمّان والرياض. نعم، إن علم الحرية الذى يرفرف فوق القاهرة ودمشق، وبغداد اليوم، سوف يحلق فوق بقية عواصم الشرق الأوسط».
«لا تقولوا ناصريين بل قولوا قوميين عرب»، هكذا اعترض الزعيم الراحل على إطلاق مؤيديه لقب «ناصريين» على إيمانهم بالأيديولوجية القومية العربية، التى سرعان ما انتشرت فى عدد من البلدان التى ساندها «عبدالناصر» بشتى الطرق سواء الدبلوماسية أو الاستراتيجية متمثلة فى خوض الحرب لأجل التحرير، بدأها بدعم القضية الفلسطينية قضية مصر الرئيسية ووضعها أعلى سلم أولوياته وقت توليه الرئاسة.
خبراء: الظروف مواتية لاستعادة أفكار عبدالناصر ونقطة الانطلاق من القاهرة
ولإيمانه بتحرر الشعوب العربية ساند «عبدالناصر» الثورة العسكرية لثوار جيش اليمن بزعامة المشير عبدالله السلال عام 1962 ضد حكم الإمام الملكى «محمد البدر»، وقام بإرسال نحو 70 ألف جندى مصرى إلى اليمن لمقاومة النظام الملكى، وفى محاولة منه لمساعدة حكومة «السلال» بعد الإطاحة بـ«البدر» أصبحت مصر متورطة فى حرب أهلية مطولة فى اليمن حتى سحبت قواتها عام 1967، بعد أن استنزفت الموارد الاقتصادية والعسكرية المصرية، بحسب تقدير البعض، وهو ما انعكس فى مقولة «عبدالناصر» عام 1968 «إن التدخل فى اليمن كان سوء تقدير»، إلا أن الدعم الناصرى لليمن عكسه مشهد مهيب لاستقباله فى صنعاء عام 1964، حيث وقف «ناصر» أمام حشود يمنية تستقبله على رأسها الرئيس اليمنى الجديد عبدالله السلال.
وامتد التأييد الناصرى لحركات التحرير العربية حتى وصل إلى العراق، ففى عام 1958 أيد حركة الثورة فى العراق التى قادها الجيش العراقى بمؤازرة القوى السياسية التى تكونت من جبهة الاتحاد الوطنى للإطاحة بالحكم الملكى على يد ضابطى الجيش العراقى، عبدالكريم قاسم، وعبدالسلام عارف، وسرعان ما أعلن «عبدالناصر» اعترافه بالحكومة الجديدة فى اليوم التالى لمقتل رئيس الوزراء العراقى نورى السعيد.
«البحرى»: «ناصر» منح الحرية لليمن ومؤامرات غربية قتلت العروبة
وتجسدت قومية «عبدالناصر» فى تجربة الوحدة بين مصر وسوريا فى فبراير 1958، تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، إلا أنها لم تستمر أكثر من ثلاث سنوات بعد أن ازدادت المعارضة للوحدة بين بعض العناصر السورية الرئيسية مثل النخب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، حتى غربت الشمس الناصرية عن سوريا.
وعلى عكس المشهد الحالى، شهدت العلاقات المصرية الجزائرية ازدهاراً عكسه دور «عبدالناصر» البارز فى مساندة ثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسى، وتبنى قضية تحرير الشعب الجزائرى فى المحافل الدولية، وفى عام 1962 تم إعلان استقلال الجزائر عن فرنسا، وهو ما اعتبره عبدالناصر نصراً للجزائريين وله شخصياً تكليلاً لمجهوداته فى تأييد قوى حركة الاستقلال الجزائرية.
وعلى الرغم من كل الجهود التى بذلها عبدالناصر لإيقاد شعلة القومية العربية لم تلق «الناصرية» تأييداً بالإجماع بين الدول العربية، حيث تدهورت العلاقات بين «عبدالناصر» و«حسين بن طلال» ملك الأردن، بعد أن اتهمه الأخير بالتورط فى دعم محاولتى انقلاب ضده، فى حين وصفه «عبدالناصر» بـ«أداة للإمبريالية» خلال حوار إذاعى بالقاهرة، وبدأ الخوف من زيادة شعبية «عبدالناصر» ينعكس على علاقة مصر بالمملكة العربية السعودية التى اعتبرته تهديداً حقيقياً لبقاء العائلة المالكة، حتى أصبحت علاقة ناصر والملك سعود أقل ما توصف بأنها «عدائية».
وفى لبنان انقسمت الفصائل ما بين مؤيد ومعارض للناصرية، حتى بلغت الاشتباكات بين الفصائل حد الأزمة عام 1958، فى الوقت الذى طالبت فيه الفصائل المؤيدة للناصرية بالانضمام للجمهورية العربية المتحدة خلال الوحدة مع سوريا، بينما رفضت الفصائل المعارضة، لدرجة أن «عبدالناصر» وصف لبنان بـ«الحالة الخاصة» وتوقف سعيه عند محاولات منع حصول الرئيس كميل شمعون، المعارض للناصرية، على فترة رئاسية ثانية.
وفى خضم الأحداث الحالية يتبادر إلى ذهن عشاق القومية العربية سؤال محير يبحث عن إجابة، وهو هل يمكن للعرب الآن أن يظهر من بينهم زعيم يوحد الجميع أو السواد الأعظم منهم كما حدث فى الحقبة الناصرية؟.. «الوطن» وجهت هذا السؤال إلى مجموعة من الخبراء السياسيين العرب ورصدت آراءهم فى كيفية استعادة حلم الوحدة العربية الذى تبناه عبدالناصر.
«الوقت والزمن والأشخاص اختلفوا وتغيروا»، هكذا أجاب الدكتور غازى مرتجى، المحلل السياسى الفلسطينى على هذا السؤال، لكنه قال إن الوقت الحالى الظروف فيه مواتية ليكون هناك رئيس عربى يمكنه استعادة نموذج عبدالناصر وأحلامه للوحدة العربية وتوحيد 22 دولة عربية تعانى حالياً من الانقسام، والتشرذم والخلافات.
«البداية يجب أن تكون من مصر»، هكذا يرى «مرتجى» فالقاهرة هى بداية الطريق نحو استعادة «عروبة عبدالناصر» على اعتبار أن مصر هى زعيمة العرب، وفى حال استقرار الأوضاع بها بعد معاناة من القلاقل أعقبت 25 يناير 2011 خاصة حربها ضد الإرهاب، لأن بعد استقرار الأوضاع السياسية والأمنية ستعود أحلام العروبة، ومصر قادرة على مداواة جراح العرب، وإعادة نموذج عبدالناصر.
«اختلاف الأجيال، من الأسباب التى قد تعوق تحقيق حلم العروبة» هذا ما أكده عبدالواحد البحرى، المحلل السياسى اليمنى، فى إجابته عن السؤال السابق، مشيراً إلى أنه ينتمى لجيل السبعينات الذى عاصر أحلام العروبة للزعيم عبدالناصر، إلا أن الجيل الحالى أمامه من المعوقات ما يصعب تنفيذ أحلام عبدالناصر فى ظل المؤامرات التى تواجهها المنطقة، وأضاف «البحرى» أنه يعتقد أن الحالة الحالية بين الشعوب العربية تضعف استعادة أحلام الوحدة العربية، فى ظل تنامى جهود القوى الغربية لتفتيت المجتمعات العربية وتأجيج صراعاتها، والاستمرار فى مشاهدة الشعوب العربية تقتل بعضها، مشيراً إلى أن «عبدالناصر» منح اليمنيين حريتهم بدعمه للحركات الثورية اليمنية فى الخمسينات، إلا أن المؤامرات الغربية وأدت كل محاولات استدعاء القومية والعروبة.
ويرى الدكتور عبدالفتاح الرشدان، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية، أن إسرائيل تقف حائلاً دون تحقيق الوحدة العربية، ما جعل مجرد الحديث عنها من الأمور الصعبة فى ظل تراجع مستوى التعاون بين الدول العربية، وتفعيل المؤسسات العربية المشتركة.
وأضاف «الرشدان» أن الجامعة العربية كان لها دور مختلف فى وقت «عبدالناصر» مقارنة بدورها الحالى، الذى يعقد من تحقيق أى وحدة أو عروبة تحتاج لمخططات وإجراءات وقائية للمحافظة على الوطن العربى وإفشال أى مخططات استعمارية، بخاصة مخططات الاحتلال الصهوينى، مؤكداً أن قضية القدس أظهرت وحدة واهتماماً عربياً اختفى منذ عقود يمكن البناء عليها فى سبيل تحقيق وحدة عربية.
«بناء الإنسان كان محور عروبة عبدالناصر»، هكذا قال سليمان البختى، المحلل السياسى السورى، مشدداً على ضرورة الاهتمام بمشروع قومى عربى حضارى لبناء الإنسان العربى فى حال استعادة روح «عبدالناصر» لإعادة توحيد الأمة العربية، فى ظل وجود عدد من المشكلات أهمها انتشار الطائفية والخلافات المذهبية التى يمكنها أن تضعف من تحقيق هذه الأهداف، وتقوى من سطوة الاستعمار الغربى بشكله الحديث على المنطقة العربية.
وأضاف «البختى» أن الوحدة العربية والأفكار القومية موجودة بالفعل على المستوى الثقافى والإنسانى، إلا أن الظروف السياسية الصعبة التى تعانى منها المنطقة تزيد الأمور تعقيداً.
من جانبه وصف الكاتب الصحفى الليبى عبدالباسط بن هامل، الزعيم الراحل عبدالناصر بـ«أحد الأهرامات» التى لا يمكن أن تتكرر ثانية، لكن يمكننا تحقيق أحلامه بالرجوع لخارطة الطريق التى وضعها ليحقق دوراً محورياً للمنطقة العربية بين دول العالم، وأشار «بن هامل» إلى أن «عبدالناصر» مواقفه كانت واضحة تجاه الدول العربية، وكان يحول خططه لواقع لصالح الوحدة العربية، وفى ظل الوضع العربى الحالى «السيئ»، بحسب وصفه، علينا البدء فى اتخاذ مواقف عربية موحدة على رأسها تفعيل اتفاقية الدفاع العربى المشترك التى أصبحت حبراً على ورق، وعلينا التأسيس على التاريخ الذى تركه «عبد الناصر» والانطلاق منه نحو مستقبل عربى نأمل أن يكون موحداً قريباً.