الليلة الكبيرة لـ«الحسين».. «شَبَه الحبيب أصل وصورة.. به المكارم منصورة»
أحد المحتفلين بالمولد فى حلقة «ذكر»
تغرب الشمس وتقترب عقارب الساعة من 6 مساء. أعداد المتوافدين من كافة المحافظات تزداد بمرور الوقت، ليس فى أرجاء ميدان الحسين فحسب، بل فى الشوارع الجانبية والأزقة المجاورة، حتى يكاد المارة لا يجدون مكاناً لهم بالميدان. هكذا كان المشهد الأول بساحة الإمام الحسين من الخارج استعداداً للاحتفال بالليلة الكبيرة فى ذكرى استقرار رأس الحسين ودفنها فى مشهده بالقاهرة، وذلك وسط تشديدات أمنية مكثفة على مداخل الميدان.
«صلِّ على سيدنا النبى.. سلام على سيدنا الحسين»، يصيح بها رجل مُسن يوزع أكواب المياه أمام بوابة المسجد التى كان الدخول والخروج بها يتم عن طريق قوة الدفع، نتيجة الازدحام الشديد، فعند اقتراب الزوار من المسجد يرفعون أيديهم ناحية المسجد للسلام على الحسين وآل بيت النبى، وقراءة الفاتحة تبركاً بهم، وإلى جوار البوابة كانت التجهيزات على قدم وساق لإعداد المسرح الخشبى الذى سيُحيى عليه الشيخ محمود التهامى، نقيب المنشدين والمبتهلين، احتفالية الليلة الكبيرة، حسبما هو معلن على لافتة على جدار المسجد من الخارج.
فى الشوارع الجانبية والحارات الضيقة التى لا يتعدى عرضها أمتاراً قليلة وتطل على مسجد الإمام الحسين، كان المشهد مختلفاً وأجواء الليلة الكبيرة تجلت به أكثر من الخارج، حيث الخيم و«الخدمات» التى يقف داخلها سيدات لإعداد الطعام والشراب للزوار والفقراء، ويقوم الرجال بتوزيعها، ومن داخل إحدى الخيم جلس «صلاح الضوى»، 52 عاماً، مفترشاً الأرض مع أشقائه وأفراد أسرته ومستمعاً للإنشاد الذى يصله من حلقة ذكر قريبة، ويقول «الضوى» إنه جاء من الأقصر، مركز إسنا بالقطار مع عائلته السبت الماضى حباً فى آل البيت: «جيت هنا بقالنا 4 أيام، واليوم بنقضيه عند أهل البيت فى زيارات واحتفالات، ومنهم السيدة عائشة والسيدة زينب والسيدة نفيسة وغيرهم، وهنحضر «الليلة اليتيمة» ونرجع على الأقصر، وفى ناس تانية بتمشى بعد الليلة الكبيرة على طول».
آلاف الزوار يحتشدون فى الميدان.. وتلاوة قرآن وحلقات ذكر وإنشاد بالشوارع الجانبية.. و«التهامى» أحيا الاحتفالية.. و«الضوى»: «مائدة رحمن مفتوحة 24 ساعة حباً فى آل البيت»
وعن تقديم الطعام والشراب لزوار «الحسين» يقول «الضوى»: «عاملين مائدة رحمن لوجه الله، أى حد يعدى يقدر ياكل أو يشرب 24 ساعة لكل الناس مش مهم هو مين ولا منين، وكل ده حباً فى سيدنا رسول الله، والسيدات معانا بتعمل الأكل والشرب وبتساعدنا فى الخدمة على الناس»، مشيراً إلى أنه يحرص على حضور الموالد فى كافة محافظات الوجه البحرى، ومن ضمنهم مولد السيدة زينب والحسين، وعلى زين العابدين وأحمد الرفاعى، والسيد البدوى وإبراهيم الدسوقى، أما عن الدافع الذى يجعله يتردد على الموالد فيقول «الضوى»: «الدافع مثلاً فى مولد الإمام الحسين إن الرسول قالها بنفسه إن ده ابنه، وأنا كده مش جاى لناس عادية بنحتفل بها، لأ، دول ناس فضّلهم ربنا على البشرية كلها، ونتمنى من الله أن كل اللى موجودين يرجعوا لبيتهم متنفّحين».
تلاوة آيات من القرآن الكريم وحلقات الذكر والإنشاد الدينى كان أكثر ما يُميز الخيام فى الشوارع الجانبية، حيث يلتف حولها المئات من الزوار، إضافة إلى فقرات غنائية بالمزمار والطبول والرقص بالعصيان الخشبية، وتخرج من تلك الحلقات وحفلات الإنشاد، أغانى المديح النبوى وحب آل البيت وذكر مآثرهم، منها «الحسين.. شَبَه الحبيب أصل وصورة.. به المكارم منصورة» وغيرها.
وداخل كل خيمة لأتباع الطرق الصوفية، والزوار الوافدين من مختلف المحافظات، تبدو مظاهر الضيافة وخدمة المريدين ورواد المولد، من الطعام والشراب، وحتى المبيت، وداخل إحدى الخيم يقف «محمد عبدالعظيم»، 27 عاماً، لخدمة زوار الحسين بتقديم الطعام والشراب، مؤكداً أنه جاء من صفط اللبن بمحافظة الجيزة الجمعة الماضى لخدمة الزوار، وأنه يأتى كل عام إلى مولد الحسين، قائلاً: «بنقدم الأكل لكل الفقراء والمساكين، وكلنا فى خدمتهم ومش عايزين مقابل من حد وكله لوجه الله وحباً فى سيدنا النبى وسيدنا الحسين». يصمت «عبدالعظيم» برهة ثم يستكمل حديثه قائلاً: «بنلف على الموالد كلها نخدم فيها، وعندنا خيمة بنقدم فيها الأكل، وكلنا إخوة هنا ومش بنفرّق بين حد واللى عايز ياكل بياكل، وربنا موسعها علينا والخير كتير».
وبكثافة شديدة ينتشر الباعة الجائلون فى أرجاء الميدان والشوارع الجانبية إما على فرشات أرضية أو على عربات خشبية متحركة، ومن ضمن ما تشتهر به الموالد بيع أنواع الحلوى المختلفة، وأمام إحدى عربات بيع الحلوى، وقف «إبراهيم الصغير»، 43 عاماً، يجذب الزبائن لبضاعته، فقد جاء من طنطا منذ 8 أيام، ويعمل فى بيع الحلوى منذ أكثر من 30 عاماً، بعد أن غيّر مساره من مطرب شعبى إلى بائع حلوى، ويقول: «شغلى معتمد على الموالد طول السنة أخلص واحد وأطلع على اللى بعده، وباخد الأجازة فى رمضان، وكنت لسه جاى من مولد النبى فى بلقاس وجيت على مولد الحسين على طول، وبروح موالد كتيرة منها السيد البدوى وسيدى إبراهيم والسيدة نفيسة والسيدة زينب».
وعن مستوى الإقبال على شراء الحلوى هذا العام يقول «الصغير»: «الإقبال على الموالد بقى أكبر من السنوات اللى فاتت، لكن الشراء مبقاش زى الأول، لأن الناس ظروفها المادية تعبانة، والحاجة كلها غليت وشوال الحمص اللى مثلاً كنا بنجبيه بـ 200 جنيه دلوقتى وصل سعر الدرجة الأولى منه 1750 جنيهاً والدرجة التانية 1600 جنيه، واللى كان بيشترى 3 كيلو بقى بيشترى واحد بس، والناس بتصعب علينا وبنحاول نقلل من المكسب عشان الدنيا تمشى، ده كنا الأول بنكسب الطاق 3، لكن دلوقتى يعنى لو لميت أجرة الصنايعى اللى بيساعدنى وحق البضاعة يبقى كرم من ربنا»، مؤكداً أنه يعمل بتلك المهنة مع أشقائه، ويقومون بتأجير المكان مقابل مبلغ مادى، مشيراً إلى أنه سيقوم بمغادرة المولد يوم الجمعة، وبعدها سيحصل على أسبوع راحة قبل أن يتجه مرة أخرى إلى مولد السيدة نفسية مطلع الشهر القادم.
وعلى بعد أمتار قليلة كان هناك نوع آخر من الباعة المتجولين على عربة خشبية، كان «إبراهيم عبدالفتاح»، 44 عاماً، بائعاً لحب العزيز «أباً عن جد»، جاء من طنطا خصيصاً منذ 3 أيام إلى القاهرة ويقول «إبراهيم»: «بشتغل فى كل الموالد سواء فى القاهرة أو وجه بحرى، والفترات اللى بين الموالد بنريح فيها»، موضحاً أن الإقبال هذا العام كبير بالمقارنة بالسنوات الماضية.
وعن الإقبال على الشراء يقول «إبراهيم»: «سعر كيس حب العزيز يتراوح من 2 لـ5 جنيهات، حسب الزبون، عايز بكام، والبيع الأول كان أحسن من كدة والدنيا كانت ماشية مش زى دلوقتى لأن الحاجة بقت غالية والزبون مبقاش قادر خالص من كتر الغلاء، ده كان زمان الزبون ياخد بالـ 3 كيلو، لكن دلوقتى بقى بياخدوا كيس بـ5 جنيه، وده أكل عيشنا مش بنعرف نعمل حاجة غيرها».
فى أحد أركان الميدان، لم يتوقف عم محمد، 56 سنة، عن الدق على طبلته الجلدية المعلقة داخل مرجيحته الدوارة، التى يمتد صوتها على بعد أمتار، محاولاً عن طريقها جذب عدد كبير من الصغار، ويقول إنه جاء للمولد بالمرجيحة على عربة كارو، من مدينة الخانكة بالقليوبية، على أمل العمل فى المولد وكسب لقمة عيش تُرضى أسرته.
ومنذ أسبوع والرجل يسكن داخل مرجيحته قرب شارع «المعز»، ومعه مساعده، الذى يجمع له أجرة الركوب، واضعاً تسعيرة محددة بالنهار «3 جنيه» وليلا «5 جنيه»، ويقول: «بالنهار الحركة بتبقى خفيفة بحاول أحرك الشغل شوية عكس بالليل حركة الناس بتزيد»، ويرى أن المولد هذا العام يختلف عن كل عام من حيث إقبال الناس، ويوضح «الناس قلت عن الأول».
وبحلول العاشرة مساء، صعد الشيخ محمود التهامى، نقيب المنشدين، لإحياء الليلة الكبيرة، وسط حفاوة كبيرة من الزوار المجتمعين أمام المسرح الخشبى، واستقبلوه بالتصفيق الحار والهتاف، وتفاعل معه الجمهور طوال 3 ساعات، وانتهت الفقرة فى الواحدة صباحاً، وبدأ غالبية الزوار فى مغادرة الميدان والبحث عن وسيلة مواصلات، والبعض الآخر انتظر ليلة أخرى للاحتفال وهى «الليلة اليتيمة» التى من المرجح أن يحُييها الشيخ ياسين التهامى.
مسنون يحتفلون بطريقتهم الخاصة