جذور «لصوص المعرفة» ضاربة فى التاريخ.. وأشهرهم «المتنبى وأبونواس وشكسبير»
الأرصفة مليئة بآلاف الكتب دون إبداع حقيقى
«المنحول» من الكتب فى المصطلح العربى القديم هو الذى جُعلَ له عنوان آخر غير عنوانه الأصل، أو نُسب إلى غير كاتبه، حسب موسوعة «ويكيبيديا» على الإنترنت، وفى اللغة «مَنْحول» مفعول من مادةً نحَلَ، يَنحَل، نَحْلاً، فاعله ناحِل، كما جاء فى معجم المعانى الجامع اِنْتِحالُ الكاتِبِ لأَفْكارِ غَيْرهِ بمعنى أَخْذُها والادِّعاءُ بِأَنَّهُ صاحِبُها، ونحَل الشّخصُ القولَ: نسبَه إلى نفسِه وليس بقائله، ومنه شعر منحول.
ويبدو أن جذور «لصوص المعرفة» ضاربة عبر التاريخ، فقد عُرِفوا كشعراء وكتاب ورواة، ومسعاهم المجد الأدبى الزائف، وفعلهم «بلطجة فكرية» مشينة، ويقسم «ابن الأثير» سرقاتهم كما جاء فى كتابه «المثل السائر فى أدب الكتاب والشاعر»، إلى أنواع ثلاثة: «نسخاً، ومسخاً، وسلخاً». أما الأول فيمسى «انتحالاً» وهو أن يأخذ السارق اللفظ والمعنى معاً، بلا تغيير ولا تبديل، أو بتبديل الألفاظ كلها، أو بعضها بمرادفها، وهذا مذموم وسرقة محضة، ويعنى أيضاً تبديل الألفاظ بمرادفها أو بضدها مع رعاية النظم والترتيب، أما النوع الثانى فهو الإغارة: وهو أن «يأخذ بعض اللفظ بغير النظم، فإن امتاز بحسن السبك فممدوح، وإن امتاز الأول فالثانى مذموم، وإن تساويا فالفضل للسابق»، والنوع الثالث من أنواع السرقة هو «السلخ»، وهو أن يأخذ السارق المعنى وحده، فإن امتاز الثانى فهو أبلغ، وإن امتاز الأول فالثانى مذموم، ويتصل بالسرقات الشعرية ثمانية أمور، الاقتباس، أو التضمين، والعقد والحل، والتلميح والابتداء، والتخلص والانتهاء، أو كما أوردها ابن رشيق القيروانى فى كتابه «العُمدة فى محاسن الشعر وآدابه» اصطرافاً، واجتلاباً، وانتحالاً، واهتداماً، وإغارة، ومرافدةً واستلحاقاً، ولسنا بصدد شرح ما تعنيه كل منها لما فى ذلك من تفصيل وتطويل.
«ابن الأثير» يقسم السرقة الأدبية إلى 3 أنواع.. و«ابن رشيق» إلى 7.. ورواة وثَّقوها فى القرن الثالث الهجرى أبرزهم «العميدى» فى كتابه «الإبانة»
والسرقة الأدبية قديمة فى تاريخ الفكر الإنسانى، فقد وُجدت عند اليونان والرومان، وأشار إليها أرسطو حينما ذكر أن هناك صوراً تعبيرية قديمة يستخدمها الشعراء نقلاً عن نظرائهم الأقدمين، ثم إن هوراس، الشاعر اللاتينى، اعترف بأنه قلد «أركيلوكس»، و«الكيوس»، وغيرهما كما يذكر محمد مصطفى هدارة فى كتابه «مشكلة السرقات فى النقد العربى»، مُورداً أسماء العديد من الفطاحل ممن اُتهموا بالسرقة مثل «هيرودتس» و«أرستوفان» و«سوفكليس»، و«منندر» و«تيرنس».
وسجل الشاعر الجاهلى الأشهر طُرفة بن العبد الظاهرة فى شعره قائلاً: «ولا أغيرُ على الأشعار أسرقها منها غنيت وشرّ الناس من سرقا.. وإن أحسن بيت أنت قائله بيتٌ يقال إذا أنشدته صدقا»، وتبعه «الأعشى» قائلاً: «فكيف أنا وانتحالى القوافى بعد المشيب كفى ذاك عارا»، وفى صدر الإسلام نفاها حسان بن ثابت قائلاً: «لا أسرق الشعراء ما نطقوا.. بل لا يُوافق شعرهم شِعرى».
كما أشار إليها «ابن المقفع» فى كتابه «الأدب الصغير والأدب الكبير»، ناهياً عنها: «إن سمعت من صاحبك كلاماً ما أو رأيت منه رأياً يعجبك، فلا تنتحله تزيناً به عند الناس، واكتف من التزين بأن تجتنى الصواب إذا سمعته، وتنسبه إلى صاحبه، واعلم أن انتحالك ذلك مسخطة لصاحبك، وأن فيه مع ذلك عاراً وسخفاً»، كما أن تُهمة السرقة كانت حاضرةً على ألسنة الشعراء يهجون بها بعضهم بعضاً، متنازعى الكلمة، وقال «الفرزدق» متهماً جرير: «إنّ استرَاقَكَ يا جَرِيرُ قَصَائِدِى مِثْلُ ادِّعَاءِ سِوَى أبِيكَ تَنَقَّلُ».
ومن النقاد والرواة من دأب على تتبع السرقات وتوثيقها، ومنهم على سبيل المثال، محمد بن سلام المتوفى سنة 231 هجرية، فى كتابه «طبقات فحول الشعراء»، والزبير بن بكار، الذى ألَّف كتاباً عن السرقات فى القرن الثالث الهجرى، وكذلك أحمد بن أبى طاهر طيقور الذى وثق ما سماها بـ«سرقات البحترى»، وأيضاً ابن المعتز المتوفى سنة 296 هجرية صاحب كتاب «السرقات»، ثم ابن طباطبا مؤلف «عيار الشعر»، وأبوالقاسم الحسن بن بشر الآمدى صاحب «الموازنة بين أبى تمام والبحترى»، وغيرهم الكثير، كأبوسعد محمد بن أحمد العميدى، الذى عاش فى مصر بالقرن الرابع الهجرى ووثق سرقات أبوالطيب المُتنبى، فى كتابه «الإبانة عن سرقات المتنبى»، وأيضاً أبونواس، الشاعر العباسى الذى وُضِعت أشعاره موضع الاتهام فى كتاب مُهلهل بن يموت بن المزرع، وغيره الكثير.
ولعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين وجهة نظر فى هذا الشأن، ضمنها كتابه «فى الشعر الجاهلى»، مفادها أن الشعر الجاهلى منحول، وأنه كُتب بعد الإسلام ونُسب للشعراء الجاهليين، وهى النظرية التى رفضها عدد من الأدباء والمفكرين، ليس هذا فحسب، فقد سجلت الدراسات المختصة السرقات الأدبية لأبرز شعراء وكُتّاب الغرب، وعلى رأسهم الكاتب الإنجليزى ويليام شكسبير الذى عده البعض شخصاً مزيفاً وواجهة بائسة لمؤلف آخر، وكذا الشاعر الإيطالى «دانتى»، وغيرهما الكثير.
وفى القرن الماضى بلغت الخصومة بين مصطفى صادق الرافعى وعباس العقاد حد اتهام الأول للأخير بالسرقة قائلاً: «إن العقاد رجل دعوى وتدجيل وغرور فيسرق ويدعى الملكية، وهو يعترف بأن الأسماء ليست على مسمياتها..». السرقات لم تتوقف عند محطتى الشعر والرواية، بل تعدتهما إلى اللحن والأغانى والأعمال الدرامية السينمائية والمتلفزة، حتى إن محمد التابعى، أمير الصحافة وأحد شيوخها الراحلين كان قد أفرد سطوراً حول تلك الظاهرة، سماها «امسك حرامى»، وفى سنواتنا هذه ظلت السرقة الأدبية فعلاً يُمارسه بعض الكُتاب، ومذمة لم يسلم منها بعضهم الآخر، والأمثلة كثيرة لكل باحث متحرٍ تواق للمعرفة.