شارع «الحدّادين».. صنعة الأجداد على «الحجر الداير»
شارع «الحدّادين»
شارع ضيق تنتشر على جانبيه المحلات والورش.. هذه ورشة لتصنيع المفاتيح، وتلك للحدادة اليدوية، وأخرى لسَنّ السكاكين والمقصات وعدة الجزارة على الطريقة القديمة، ومن حولها محلات أخرى حديثة، بعضها للملابس، والآخر لمقاهٍ تناثرت كراسيها الخشبية فى الجنبات.. هنا الماضى والحاضر معاً يلعبان فى أحد أقدم شوارع المحافظة.. هنا «شارع الحدّادين».
فى منتصف الشارع كان ذلك المحل مفتوح الباب على مصراعيه، ومن الداخل كانت صورة حية للماضى، عندما وقف إبراهيم محمد، صاحب الأربعين عاماً، أمام حجر جلخ كبير بجواره إناء ماء وضع فيه مجموعة من السكاكين والمقصات تنتظر دورها فى السَّنّ، ومن حوله كانت تجهيزات متواضعة وحوائط أكلها الزمن، وإضاءة خافتة لم تضئ المكان بأكمله.
ورث «محمد» هذه المهنة «العتيقة» عن أبيه، الذى ورثها أيضاً عن أبيه، ولم يبقَ من العاملين فيها الكثير فى شارع الحدادين بصفة خاصة، أو فى مصر بصفة عامة، حسب قوله، فلا يعمل بها إلا من ورثها نظراً لصعوبتها وقلة إمكاناتها، وهو ما حدث مع «محمد»، حينما بدأ العمل فى هذه المهنة فى سن السادسة، كان يأتى حينها إلى الدكانة ذاتها مع والده يتأمل بإعجاب، فكانت «الشغلانة» حينها ذات أهمية عن غيرها، وهو ما لم يعد الآن بعدما ظهرت الأدوات والآلات الحديثة، التى غيرت طريقة عمل «محمد» نفسها رغم أنه لم يتركها: «زمان كنا بنولع نار وندق سكاكين، دلوقتى مفيش الكلام ده».
درس «محمد» فى معهد الموسيقى العربية، وتخرج فيه عام 2000، واتخذ طريقه فى مجال دراسته، إلا أن مرض والده جعله يترك العمل فى مجال دراسته ويعود للحيز الضيق بين حجر السن والسكاكين، ولتتحول أوتار الآلات والمقامات فى وجدانه إلى ذكريات.
سكاكين ومفاتيح ومقصات وموازين «على قديمه».. و«عبدالرحمن»: «باصنّع مقصات وعتَلات ومسامير نحت وحديد كارو بس دلوقتى الشغلانة بتنقرض».. و«محمد» درس فى معهد الموسيقى.. ومرض والده أبعده عن الفن وأعاده إلى سَنّ السكاكين
يعتز «محمد» بطريقته القديمة فى السن، فضلاً عن اعتزازه بانتسابه لشارع الحدادين الذى يمثل له «عمره كله»: «مهما كانت الطرق الجديدة، أفضل سَنّ هو اللى بيكون على الحجر لأنه الأصل، بس الناس بتتغرّ بالحاجات الجديدة، واللى مزعّلنى أكتر إن شارع الحدادين مابقاش زى الأول، وبدأت تظهر فيه محلات غير اللى كان قايم عليها أصلاً».
لدى «محمد» من الأبناء طفلة، 10 أعوام، وآخر، 6 سنوات، لم يرد له أن يرث عنه مهنته كما ورثها هو عن أبيه، حيث كانت له فلسفته الخاصة: «هخليه يركز فى التعليم، لأن الشغلانة دى هتبقى صعبة عليه ومش هيقدر يسد فيها».
على بُعد خطوات فى الشارع كان محل آخر ضيق يمتد إلى الداخل، لا يتسع ممره سوى لشخص واحد، ومن أمامه فى الخارج كان ذلك اللهب المنبعث من كومة فحم أسود موضوعة فوق ذلك «الكور» على يسار الخارج منه، ومن أسفل منه ماكينة ضخ هواء تزيد اشتعال الفحم، وفى مقدمة المحل وقف عبدالرحمن محمد، أمام سندان قديم مثبت فى الأرض، ممسكاً بـ«شاكوش كبير» يدق به على قطعة من الحديد يمسكها له مساعده، يتحدث بلهجة لاهثة وهو يعمل: «أنا جيت لقيت الشغلانة كده، فمشيت على اللى والدى كان ماشى عليه».
يعمل «عبدالرحمن» فى «حدادة النقر» منذ ما يزيد على 20 عاماً، عندما بدأ يتعرف على المهنة فى إجازة المدارس حينما كان طفلاً فى الابتدائية، إذ كان يأتى مع والده وجده ويأخذ مصروف يومه نصف جنيه، ما جعله يفرح بالعمل معهما، ومرة بعد مرة أحب الصنعة لذاتها لا للمصروف، مطبقاً مثله الذى ردده أكثر من مرة: «فى صنعتنا دى فيه مثل بلدى بيقول إدّى للصنعة تدّيك».
يصنع «عبدالرحمن» فى دكانه الصغير المقصات المسلح والعتَلات ومسامير النحت وحديد عربات الكارو، ويقول إن المهنة اختلفت كثيراً عن زمان من ناحية الخامات أو إمكانات العمل نفسها، ورغم ذلك لم يفكر فى الاستغناء عن طريقته القديمة، ورغم الإمكانات الموجودة فى ورش الحدادة الأخرى، فإنه ما زال يفضل الطريقة القديمة نظراً لكونها الأفضل، حسب قوله، بالإضافة إلى «رخصها»، لكن وضع الشارع، حيث مقر المحل، لم يعد يبشر بخير: «الشارع اتغير، والناس اللى وعيت عليهم وكنت بلعب فى الورش بتاعتهم انقرضوا خلاص، ومفيش ورشة دلوقتى فيها صاحبها، ده لو لقيتها أصلاً، يا إما هتلاقى ابنه أو حفيده».. يقطع «عبدالرحمن» حديثه بالانتفاض من مكانه ويتجه إلى «كور النار» بعد أن ارتفعت منه ألسنة اللهب، ليمسك بما كان وضعه بين الفحم وينقله إلى «السندان» ويأخذ فى الدق عليه.
ومن مهن الشارع القديمة، التى تكاد تودع الحاضر، تصليح الميزان، ورثها أشرف فاروق، صاحب الخمسين عاماً، عن أبيه، ورفض أن يتركها كما فعل غيره من أبناء وأحفاد أصحاب المحلات الأخرى بالشارع، خاصة أن والده كان ذا سمعة كبيرة فى هذا المجال قديماً، وداخل محله الصغير، كُتب بخط واضح أعلى صورة والده فى واجهة المحل من الداخل: «وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخسروا الميزان»، وبين الموازين القديمة وقف «أشرف» يُحيى ذكرى والده، بعدما ذهب الشعر عن معظم رأسه، ورغم كبر سنه فإن جسده ما زال يحتفظ بهيئته الشابة، مرتدياً «بلوفر» كلاسيكياً فضفاضاً، و«بنطلون جينز أزرق»، منهمكاً فيما بين يديه.. «ميزان قبّانى» جاء به أحدهم لتصليحه.
حينما بدأ «أشرف» المهنة لم يكن موجوداً حينها سوى «الميزان الكفة» إضافة إلى الميزان «القبّانى»، وكان «الشغل وقتها كتير»، حسب قوله، وظل الأمر هكذا حتى ظهور «الميزان الديجيتال»، ما أثّر على عمله بشكل كبير وقلل من أهميته: «الديجيتال خلّص علينا»، فطبيعة التصليحات التى كان يحتاجها الميزان القديم كانت «فرق فى الميزان أو ميزان مكسور عايز يتلحم أو فيه حاجة متنيّة محتاجة تتعدل، والحاجات دى أغلبها مابيحتاجهاش الميزان الحديث».
وإضافة إلى ظهور الميزان الحديث، كانت هناك عوامل أخرى أثرت سلبياً على عمل «أشرف»، خاصة بعد ثورة يناير، حيث قلّت عملية ختم الميزان من مصلحة دمغ الموازين، وقلّ اهتمام أصحاب الموازين بهذا الأمر، ما جعلهم لا يهتمون بإصلاح الموازين التى يعملون بها، حتى وإن كانت قديمة: «الأول كنا يومياً لازم نروح الدمغة والموازين عشان نختم الموازين اللى بنصلحها، دلوقتى ممكن نروح فى الشهر مرة»، واصفاً شارع الحديد بقوله: «ممكن مايكونش فيه مكسب بس فيه البركة».
ومن الأمثلة الحية الشاهدة على التحول من القديم إلى الحديث فى شارع الحدادين، كان مجدى إمام، الذى بدأ العمل فى الشارع قبل 40 عاماً صبياً فى أحد محلات تصنيع المفاتيح، ليظل به حتى قبل 15 عاماً، قبل أن يقرر فتح محله الصغير الذى يعمل به حالياً، ليعبّر عن سنين عمره داخل الشارع قائلاً: «أنا مولود فى الشارع ده وفتحت عينى عليه، وبدأت الشغلانة بمسمار صلب ومبرد بدائى، لحد ما المبرد انقرض وأنا لسه باقاوح».
«قرشين صاغ» كانت يومية «مجدى» أول ما بدأ العمل فى هذه المهنة، متذكراً أول مفتاح قام بصناعته بيده، حيث كان ثمنه 15 قرشاً، إلى أن وصل سعر المفتاح حالياً بين 5 و15 جنيهاً، مضيفاً: «زمان عشان نعمل نسخة مفتاح كنا نروح نجيب صاجة نقُص منها، إنما دلوقتى كل حاجة بقت كومبيوتر»، مشيراً إلى أن التطور اليومى فى طريقة العمل كان يستوجب عليه مواكبته حتى لا ينقرض مع الطرق القديمة، وهو ما دفعه إلى تحديث صنعته بالكامل حالياً.