السيف والصولجان: قصة الصراع على الحكم فى تاريخ المسلمين (13)
انتقل الحكم إلى عمر (رضى الله عنه) بوصية وعهد كتبه الخليفة أبوبكر الصديق (رضى الله عنه) لـ«عمر». واللافت فى هذا الأمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عندما أراد أن يكتب وصية بالأمر من بعده فى حضرة كبار الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، رفض الحاضرون ذلك، وكان أشدهم رفضاً عمر الذى قال: إن النبى (صلى الله عليه وسلم) يهجر، كما حكينا. وقد وجد أبوبكر الصديق أن تحديد شخص من يلى الأمر -قبل وفاته- أنفع للمسلمين وأصلح لأمرهم حتى لا يدخلوا فى صراعات من بعده. ويذكر «ابن سعد» فى طبقاته رواية عجيبة فى هذا السياق، يشير فيها إلى: «قال بعضهم: لما أملى أبوبكر صدر هذا الكتاب بقى ذكر عمر، فذُهب به -أى أغمى عليه- قبل أن يسمى أحدا، فكتب عثمان إنى قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، ثم أفاق أبوبكر، فقال: اقرأ علىَّ ما كتبت، فقرأ عليه ذكر عمر، فكبَّر أبوبكر وقال: أراك خفت إن أقبلت نفسى فى غشيتى تلك يختلف الناس، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيرا».
يقول النص السابق إن أبا بكر أملى صدر الكتاب وعندما وصل إلى اسم من سيعهد له غُشى عليه، لأنه كان يكتب العهد وهو يحتضر، فبادر عثمان من تلقاء نفسه إلى كتابة اسم عمر بن الخطاب، اعتماداً على الجلسة السابقة التى جمعته بأبى بكر وحادثه فيها فى شأن تولية الأمر لعمر، ولما أفاق «الصديق» وقرأ عليه «عثمان» ما أملاه من صدر الكتاب، ومن استباقه بوضع اسم عمر بن الخطاب كبَّر أبوبكر، وامتدح ما فعل عثمان، بعدما فهم أنه خاف من أن تصعد روحه إلى الرفيق الأعلى فى غشيته تلك فيختلف الناس من بعده. وتكاد تكون هذه الرواية اجتهاداً فى التأكيد على مبدأ قدرية الحكم وأن يد الله تعمل فى اختيار من يلى أمر المسلمين.
يستطرد «ابن سعد» فى سرد وقائع «العهد بالحكم لعمر بن الخطاب» ويقول: «خرج عثمان بالكتاب مختوما ومعه عمر بن الخطاب وأُسيد بن سعيد القرظى فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن فى هذا الكتاب، فقالوا: نعم، وقال بعضهم قد علمنا به، فأقروا بذلك جميعا ورضوا به وبايعوا ثم دعا أبوبكر عمر خاليا فأوصاه بما أوصاه به».
هكذا أديرَ الأمر طبقاً للمنهجية التى أفرزتها تجربة انتقال الحكم إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه: بيعة خاصة تؤخذ فى البداية من كبار الصحابة المنافسين للشخصية المختارة لولاية العهد، ثم بيعة عامة تؤخذ من المسلمين ككل. ومن المهم الانتباه إلى أن بعض من حضروا البيعة العامة أثناء فض «عهد أبى بكر لعمر» أمام المجموع قالوا: قد علمنا به، وكأنهم أدركوا أن الأمر قد تم ترتيبه لتنتقل السلطة إلى عمر بن الخطاب، بعد الجهود التى بذلها أبوبكر الصديق فى أخذ البيعة له من كبار الصحابة، وترويض بعض الأطراف التى كانت تعارض توليه الأمر بسبب ما اشتهر عنه من غلظة، وتوثقت عملية نقل السلطة إليه بعهد مختوم بخاتم الخليفة. وهو نفس الدور الذى لعبه عمر بن الخطاب بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) عندما زكَّى أبا بكر، ودافع عن حقه فى ولاية أمر المسلمين، وأخذ البيعة له من كبار الصحابة ونادى بتأييده حتى استقام له الأمر، وأيده فى حربه للمرتدين بعد أن اقتنع بأسباب الحرب.
وقد تنوعت الأسباب التى ساقها المؤرخون فى وفاة أبى بكر، ما بين دسِّ السم له فى الطعام، وبين الإصابة بالحمى، ويشير ابن الأثير فى تاريخه إلى أن: «وفاة أبى بكر، رضى الله عنه، كانت لثمانى ليال بقين من جمادى الآخرة ليلة الثلاثاء وهو ابن ثلاث وستين سنة، وهو الصحيح، وقيل غير ذلك، وكان قد سمه اليهود فى أرز، وقيل فى حريرة، وهى الحسو، فأكل هو والحارث بن كلدة، فكف الحارث وقال لأبى بكر: أكلنا طعاماً مسموماً سم سنة، فماتا بعد سنة. وقيل: إنه اغتسل وكان يوماً بارداً فحمَّ خمسة عشر يوماً، لا يخرج إلى صلاة، فأمر عمرَ أن يصلى بالناس. ولما مرض قال له الناس: ألا ندعو الطبيب؟ قال: قد أتانى وقال لى أنا فاعل ما أريد؛ فعلموا مراده وسكتوا عنه، ثم مات».