«القدس».. جائزة «ترامب» الكبرى للإسرائيليين بعد 70 عاماً من الرفض الأمريكى
«القدس».. جائزة «ترامب» الكبرى للإسرائيليين بعد 70 عاماً من الرفض الأمريكى
لماذا تثير مسألة شكلية، مثل نقل مكان العاصمة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، كل هذه الضجة؟ هذا السؤال طرحه وحاول الإجابة عنه برنارد فاسيرشتاين، أستاذ التاريخ المتفرّغ فى جامعة شيكاغو، ومؤلف كتاب «القدس المنقسمة.. النضال من أجل المدينة المقدسة»، فى مقدمة مقال تحليلى مطول على موقع معهد أبحاث السياسة الخارجية الأمريكى.
ولفهم هذه المسألة، حسب المقال، يجب العودة إلى السنوات الأولى لتأسيس إسرائيل بين عامَى 1920 و1948، إذ كانت القدس عاصمة الأراضى الفلسطينية الواقعة تحت الانتداب، أى الاستعمار البريطانى، وبالتالى لم تكن هناك سفارات، فقط قنصليات، وفى نوفمبر 1947، عندما وافقت الأمم المتحدة على تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة يهودية والأخرى عربية، استبعدت القدس وضواحيها، بما فى ذلك مدينة «بيت لحم»، كان المخطط أن تكون القدس منطقة منفصلة تحت الحكم الدولى «corpus separatum»، أى تحت إدارة الأمم المتحدة المباشرة، وبعد عشر سنوات كان من المقرر إجراء استفتاء لتحديد ما إذا كان غالبية السكان يرغبون فى الانضمام إلى الدولة اليهودية أم العربية.
مؤرخ أمريكى: القدس العاصمة الأكثر انقساماً فى العالم.. وقرار ترامب «فنكوش» ومغامرة سيئة التوقيت وحملة علاقات عامة تافهة.. ولم يتشاور مع أحد أو يبلغ حلفاءه
لكن أعضاء الأمم المتحدة لم يفرضوا قرار المنظمة بالقوة، نتيجة لذلك، لم تكن الأمم المتحدة قادرة على تنفيذ قراراتها بشأن القدس، وفى هذه الأثناء، حسمت المعارك بين العرب وإسرائيل القضية، فبعد توقف القتال، ومع اتفاقات الهدنة بين الجانبين فى عام 1949، وجدت المدينة نفسها منقسمة، واحتفظت إسرائيل بالمناطق الغربية التى تسكنها أغلبية يهودية، أما الشرق، ومعظمه من العرب، بما فى ذلك المدينة القديمة، فقد وقع تحت سيطرة الملك عبدالله، ملك الأردن، الذى جاء فى الأساس لنجدة العرب الفلسطينيين، لكنه ضم الضفة الغربية، أى غرب نهر الأردن، إلى مملكته، ولم يعترف المجتمع الدولى أبداً بتقسيم القدس، وكما أشار المؤرخ الإسرائيلى «موتى جولانى»، بعد عام 1949، كانت الدولتان الوحيدتان اللتان تدعمان تقسيم المدينة هما إسرائيل والأردن.
وفى ديسمبر من ذلك العام، ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلى، دافيد بن جوريون، إلى أبعد من ذلك، وأعلن أن القدس «جزء لا يتجزّأ من دولة إسرائيل وعاصمتها التاريخية»، وأصر على أنه «لا قرار للأمم المتحدة يمكن أن يغير هذه الحقيقة التاريخية»، وهو القرار الذى اعترض عليه أعضاء فى حكومته، بمن فى ذلك وزير الخارجية، موشيه شاريت، مشككين فى وجاهة هذا التصريح المتهور، لكن «بن جوريون» كانت له حسابات أخرى، وقال فى وقت لاحق: «كنت أعرف أن لدينا حليفاً، وهو شرق الأردن»، «إذا سُمح لهم بالاحتفاظ بالقدس، فلماذا لا نفعل نحن الشىء نفسه؟»، ونُقلت معظم مكاتب الحكومة الإسرائيلية فى النهاية إلى القدس، ما عدا وزارة الدفاع التى بقيت فى تل أبيب حتى يومنا هذا، واغتال فلسطينى الملك عبدالله فى يوليو 1951 عند مغادرته المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة انتقاماً لما رآه البعض خيانة للقضية العربية، وتوخى خلفاؤه على العرش الأردنى الحذر بشكل عام فى الأمور المتعلقة بالقدس.
«بن جوريون» أعلن «القدس» فى ديسمبر 1949 «عاصمة لإسرائيل» فردّت عليه «الخارجية الأمريكية» بـ«لن نعترف»
ولم يؤدِّ إعلان إسرائيل عن القدس عاصمة لها إلى نتائج سريعة، إذ أبلغت وزارة الخارجية الأمريكية نظيرتها الإسرائيلية، حسب «فاسيرشتاين»، بأن الولايات المتحدة «لن تعترف بسيادة إسرائيل فى القدس»، واتفق معها جميع القوى العظمى، مع استثناءات قليلة، وبقى الدبلوماسيون الأجانب متمركزين فى تل أبيب، وكان لهذا عدة أسباب، من بينها الرغبة فى عدم إثارة العداء مع الدول العربية والإسلامية، والرغبة فى الحفاظ على احتمال الاعتراف بالقدس الإسرائيلية دبلوماسياً كبطاقة مساومة محتملة، لكن السبب الرئيسى هو أن القوى الكبرى لم تستطع الاتفاق على أى سياسة بديلة بشأن القدس، وظل عدم الاعتراف بالمدينة عاصمة لإسرائيل سياسة أمريكية ثابتة، مثل عدم الاعتراف بالصين الشيوعية، وأصبحت هذه المسألة لفترة طويلة بديهية، وليست محل خلاف فى السياسة الخارجية الأمريكية.
ولمدة ثمانية عشر عاماً بعد عام 1949، فصل سياجٌ الجانبين الأردنى والإسرائيلى فى القدس، وانقطع الاتصال بين الجانبين تقريباً، الدبلوماسيون فقط وبعض الحجاج المسيحيين وعدد قليل من الأشخاص المميزين الآخرين تمكنوا من المرور عبر نقطة العبور الوحيدة عند «بوابة ماندل باوم»، التى سُميت بهذا لأنها كانت بالقرب من منزل تاجر يهودى بهذا الاسم، من حين إلى آخر، وتبادل الأردنيون والإسرائيليون طلقات الرصاص عبر الخط الفاصل.
وفى يونيو 1967، انضم الملك حسين، بحذر، إلى مصر وسوريا فى حربهما ضد إسرائيل، واحتلت القوات الإسرائيلية على الفور القدس الشرقية، مع كامل الضفة الغربية، إلا أن الانتصار السريع فى «حرب الأيام الستة» خلق شعوراً بالثقة الزائدة لدى الإسرائيليين حتى يومنا هذا، كما خلق تياراً واسعاً من القوميين الإسرائيليين الراغبين فى فرض رؤيتهم على الجميع، واحتفلت إسرائيل بـ«إعادة توحيد» القدس وضمّت الجزء الشرقى من المدينة فعلياً، وتم توسيع الحدود البلدية لدمج المناطق المتاخمة، ومنذ ذلك اليوم استحوذ حائط المبكى، المكان المقدس اليهودى أسفل الحرم القدسى، على خيال اليهود، حتى غير المتدينين منهم فى جميع أنحاء العالم.
الرئيس الأمريكى زعم أنه أستاذ فن عقد الصفقات لكنه قدم القدس لإسرائيل ولم يحصد غير العزلة
وخلال نصف القرن الماضى، تم بناء مساكن كبيرة لليهود فى القدس، وكذلك فى منطقة أوسع تحيط بالمدينة، وزاد سكانها اليهود بسرعة فائقة، ومع ذلك، فإنها لم تنجح فى التفوق على الزيادة الطبيعية للسكان العرب، الذين ارتفعت نسبتهم من 26% عام 1967 إلى 40% اليوم.
ويُمنح المقدسيون العرب، على عكس سكان الضفة الغربية، تصاريح الإقامة الإسرائيلية بشكل روتينى، ويحصلون على تأمين اجتماعى، ولهم الحق فى التصويت فى الانتخابات البلدية، وليس الانتخابات البرلمانية، ومن الناحية النظرية، يمكنهم التقدّم بطلب للحصول على الجنسية الإسرائيلية، لكن من الناحية العملية فإن العقبات البيروقراطية تجعل ذلك صعباً، ولم يفعله سوى بضعة آلاف فقط، لذلك يبقى معظمهم فى مأزق قانونى سياسى مع حقوق محدودة فى مدينتهم.
ولم يغيّر الغزو الإسرائيلى للقدس الشرقية الإجماع الدولى المعارض للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على أىّ مكان فى المدينة، فقط عدد قليل من البلدان، بشكل رئيسى فى أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، أقام سفارات هناك: «بحلول عام 1973، كانت هناك 16 سفارة أجنبية فى القدس، لكن بعد حرب 1973، انخفض هذا العدد نتيجة مقاطعة الكثير من الدول الأفريقية لإسرائيل»، حسب «فاسيرشتاين».
ومهدت زيارة الرئيس السادات عام 1977 الطريق لمعاهدة سلام بين إسرائيل ومصر، لكن لم يكن هناك اتفاق على القدس، وفى عام 1980، أصدر الكنيست الإسرائيلى، تحت ضغوط اليمين المتطرّف، ما عُرف باسم «القانون الأساسى»، معلناً أن «القدس، كاملة وموحدة، عاصمة إسرائيل».
وكان عمدة المدينة، تيدى كوليك، من بين كثير من المشككين وقتها فى وجاهة القانون، وسرعان ما ثبت أنه كان على حق، ورفض مجلس الأمن القانون بأربعة عشر صوتاً، وامتنعت الولايات المتحدة عن التصويت، واضطرت الدول القليلة التى احتفظت بسفارات فى القدس للانتقال إلى تل أبيب.
فى هذه الأثناء، استُخدمت قضية القدس فى السياسة الأمريكية، كنتيجة كبيرة للتأثير المتنامى للوبى المؤيد لإسرائيل، بدعم من اليهود والمسيحيين الإنجيليين، ووعد كل مرشح رئاسى كبير من عام 1972 فصاعداً وعوداً فى حملته الانتخابية لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ووجد كل رئيس جديد، بناءً على مشورة صادرة من وزارة الخارجية، طريقة لتجنّب الوفاء بذلك الوعد.
وفى محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين فى تسعينات القرن الماضى، تم طرح قضية القدس الحساسة جانباً، خوفاً من إفشال العملية برمتها، وفى القمة الأخيرة التى عقدها رئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود باراك مع الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات فى كامب ديفيد فى يوليو 2000، عرض الرئيس كلينتون حلاً وسطاً، فحواه أن «فلسطين ستحكم الأماكن المقدّسة للمسلمين وإسرائيل تسيطر على الحائط الغربى»، وكان من المفهوم أن كل دولة سيكون لها عاصمتها فى القدس.
«فاسيرشتاين»: كل مرشح للرئاسة الأمريكية منذ 1972 كان يعد بنقل السفارة إلى القدس ثم «يتخفّف من وعده».. والموقع المقترح لها يقع فى «أرض محايدة»
بعد ذلك بفترة وجيزة، أشعل حادث فى جبل الهيكل فى القدس «الانتفاضة الثانية»، وأجهضت العودة إلى العنف أى تقدّم نحو التسوية، سواء فى القدس أو أى شىء آخر، ومع ذلك، اكتسبت «معايير كلينتون» تدريجياً الموافقة الضمنية فى الدوائر ذات النفوذ بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
فى عام 2008، يقول «فاسيرشتاين»: «عرض رئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود أولمرت، عمدة المدينة السابق، فى مفاوضات مع الرئيس الفلسطينى محمود عباس، الانسحاب من الأحياء العربية فى القدس الشرقية ووضع المدينة القديمة تحت إشراف دولى، لكن تلك المحادثات لم تؤدِّ إلى أى نتيجة، حيث انهارت حكومة «أولمرت» فى فضيحة فساد».
وخلال العقد الماضى، تحت قيادة بنيامين نتنياهو المتشدّدة، شددت إسرائيل سيطرتها على القدس الشرقية، وعزلت نقاط التفتيش القدس العربية عن الضفة الغربية، فتضاعفت مشاريع الإسكان الإسرائيلية فى المدينة وحولها، فى حين أن الطلبات العربية للحصول على تصاريح البناء يتم رفضها بشكل روتينى.
واليوم تبدو القدس «الموحّدة» مدينة مزعجة وممزقة، و«الحاجز الأمنى» الذى شيدته إسرائيل فى السنوات الأخيرة أدى إلى تقسيم المدينة بشكل يشبه ما كانت عليه قبل عام 1967، هذا «الحاجز الأمنى» المكون من كتل خرسانية، مثل جدار برلين السابق، يمتد لمسافة 125 ميلاً خلال المدينة وليس فقط حولها، وهناك ما لا يقل عن 90.000 من العرب، نتيجة لذلك يجدون أنفسهم معزولين عن بقية القدس.
لم يغير الغزو الإسرائيلى للقدس الشرقية فى 1967 الإجماع الدولى المعارض للاعتراف بسيادة إسرائيل على أى مكان فى المدينة
وفى شمال شرق المدينة، لا يحظى مخيم «شعفاط»، وهو حى فقير محاط بالأسوار يعيش فيه عشرات الآلاف من اللاجئين، بأى خدمات تقريباً، فالمرافق والصرف الصحى فى حالة انهيار، والقمامة لا تُجمع، والفئران تتكاثر، والغارات الدورية التى يقوم بها أفراد الأمن الإسرائيليون هى كل ما تبقّى من مظاهر الأمن العام، وسيارات الطوارئ لا تجرؤ على الدخول بسبب العنف المتفشى، ويسمى السكان المحليون المنطقة بـ«شيكاغو»، لكن الرئيس ترامب رأى فى هذا السور نموذجاً يجب أن يُحتذى فى نوفمبر 2016، وقدّم الحاجز الإسرائيلى كنموذج لجدارة المقترح على الحدود الأمريكية - المكسيكية، وقال: «إذا كنت تعتقد أن الجدران لا تعمل، فكل ما عليك فعله هو سؤال إسرائيل»، لكن الجدار لم يوقف الإرهاب فى المدينة، إذ استمرت الهجمات المتقطعة من «الذئاب المنفردة» الفلسطينية فى قتل وجرح الإسرائيليين وكذلك العمال الأجانب والسياح، وصار الخوف من العنف هو حقيقة سائدة فى الحياة اليومية فى المدينة.
وتنبع الهجمات من إحساس متجدّد بالإحباط والشكوى الجماعية فى أوساط الفلسطينيين، وذكرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية مؤخراً أن القدس العربية «لا تزال تعانى من الفقر والإهمال والبناء غير القانونى ونقص المدارس، وتسود الفوضى، وبعد نصف القرن من توحيد القدس المفترض، يحصل سكان المدينة المقسمة على حصص غير عادلة من مواردها، رغم الوعود التى قدمها رؤساء البلديات المتعاقبون لتصحيح هذه المخصصات».
القدس العربية غارقة اقتصادياً ويائسة سياسياً، لكن أيضاً القدس اليهودية منقسمة بعمق على نفسها، حسب «فاسيرشتاين»، ويعيش اليهود المتدينون والعلمانيون بعيداً عن بعضهم، ويرسلون أطفالهم إلى مدارس مختلفة، وينخرطون فى صفوف دائمة حول قضايا مثل احترام السبت، وحقوق المرأة، ورفض اليهود المتدينين المتطرفين للخدمة فى الجيش، وهكذا يعيش سكان القدس فى شرانق طيبوغرافية ولغوية ودينية واجتماعية ونفسية منعزلة، و«القدس بلا شك العاصمة الأكثر انقساماً فى العالم».
ويقول «فاسيرشتاين»: «وفقاً للطقوس العريقة، أعلن ترامب، فى سياق حملته الرئاسية، أنه سينقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس بسرعة معقولة، عند توليه منصبه، وبعد تنصيبه ظهر فى البداية أنه مثل أسلافه سيجد ذريعة للتراجع عن هذا الوعد، لكن فى شهر ديسمبر الماضى، بعفويته المميزة، أعلن فى تغريدة له أنه يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وسوف ينقل السفارة الأمريكية إلى هناك».
وأضاف «فاسيرشتاين»: «وفى إعلان رسمى بعد ذلك بقليل ادّعى ترامب أن قراره ليس أكثر أو أقل من الاعتراف بالواقع، لكنه لم يُشر إلى أى حقائق يقصد، إذا استشار وزارة الخارجية، تجاهل نصيحتها، وهو لم يتشاور أو حتى يبلغ حلفاءه، ولم يفهم أن الدبلوماسية لا تتعلق فقط بالحقائق أو الواقع على الأرض، لكن أيضاً بالشرعية، والممارسة الحكيمة للمصلحة الوطنية».
واتساقاً مع تناقضاته الكثيرة، قال الرئيس الأمريكى: «إننا لا نتخذ موقفاً من أى موقف نهائى، بما فى ذلك الحدود المحدّدة للسيادة الإسرائيلية فى القدس، أو الحدود المتنازع عليها»، ومع ذلك، وبعد بضعة أسابيع، قال: «لقد أخذنا القدس من على الطاولة، لذلك ليس علينا أن نتحدّث عن هذا بعد الآن».
وفى أعقاب إعلان «ترامب»، دعم 128 بلداً قراراً للجمعية العامة للأمم المتحدة يدعو الولايات المتحدة إلى تغيير قرارها، فقط سبعة بلدان، باستثناء الولايات المتحدة وإسرائيل، أيدت قرار «ترامب»، وكلها دول صغيرة تابعة للولايات المتحدة، مثل ولايات ميكرونيزيا الموحدة وناورو وبالاو، معظم هذه الدول الصغيرة ليس لديها تمثيل دبلوماسى فى إسرائيل، والعضو الوحيد فى الأمم المتحدة الذى أعلن حتى الآن أنه سيتبع القيادة الأمريكية وينقل سفارته إلى القدس هو جواتيمالا، وفكّرت جمهورية التشيك فى نقل سفارتها، لكنها تراجعت، باختصار وجدت الولايات المتحدة نفسها معزولة حتى من أقرب حلفائها. ويقول «فاسيرشتاين»: إن «الموقع الذى تم اختياره للسفارة الأمريكية الجديدة فى القدس عبارة عن مبنى قنصلى أمريكى يقع فى «الأرض المحايدة» على خط الفصل السابق بين القطاعين الأردنى والإسرائيلى من المدينة، وافتتاح المبنى الجديد سيكون إجراءً رمزياً واستعراضياً إلى حدٍّ كبير، إذ سيواصل عدد كبير من موظفى السفارة العمل فى تل أبيب حتى يتم الانتهاء من بناء منشآت جديدة وآمنة فى القدس، وقد يستغرق ذلك سنوات».
قد يقال إن الكثير من الأسس المنطقية للموقف الأمريكى التقليدى بشأن القدس قد تآكل بمرور الوقت، وعلى عكس الكثير من التوقعات، كانت ردود الفعل الأولية من الدول الإسلامية والعربية فاترة نوعاً ما، نتيجة انشغالهم بمشكلات أكثر إلحاحاً مثل الحروب الأهلية فى سوريا واليمن، وازدادت التوترات فى الضفة الغربية وقطاع غزة فى الأسابيع الأخيرة، لكن ذلك له علاقة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة، خصوصاً فى غزة، ويعتقد بعض مؤيدى قرار «ترامب» أن الفلسطينيين قد يقرّرون، فى الوقت المناسب، أن لديهم أشياءً أكثر إلحاحاً من عنوان السفارة الأمريكية فى إسرائيل.
وقد يجد الرئيس مع ذلك، مثل دافيد بن جوريون فى عام 1949، أن ما يبدو كأنه تأكيد واضح للواقع هو مغامرة سيئة التوقيت ومهزلة.
وأظهرت هذه الخطوة، حسب «فاسيرشتاين»، الخلافات بين أمريكا وحلفائها فى العالم فى وقت تتعرّض فيه كل من أوروبا وشرق آسيا لتهديدات متجدّدة من خصوم يملكون سلاحاً نووياً، وانتقد الدبلوماسيون الأمريكيون المحترفون هذه الخطوة بشدة، من بينهم تسعة من أصل أحد عشر سفيراً سابقاً إلى إسرائيل، مؤكدين أن هذا القرار سحب البساط من تحت الإدارة التى تعتزم الكشف عن خطة سلام جديدة للشرق الأوسط.
ويقول «فاسيرشتاين»: إن المدافعين عن «حل الدولتين» يؤكدون أن قرار ترامب المتحيّز سيحول دون قيام الولايات المتحدة بدور الوسيط الأمين فى المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل، وبسبب هذا القرار غير المدروس أصبح احتمال تحقيق السلام الإسرائيلى - الفلسطينى، أبعد من أى وقت مضى منذ عام 2000، فلا يُعد نقل السفارة، فى الواقع، أكثر من مجرد حملة علاقات عامة تافهة، هدفها الأول الاستهلاك المحلى ربما يتوّجها السيد ترامب بزيارة إلى القدس، مثل القيصر، رغم ولع الرئيس بالاستعراضات، وربما لن يدخل بوابة يافا على ظهور الخيل، لكنه يستطيع أن يُدشّن السفارة ويُعجَب بالجدار لكن لا شىء آخر.
ويؤكد أن «ترامب» قد يكون معروفاً بمهارته فى عقد الصفقات، لكن قراره بشأن القدس ليس صفقة كبيرة، فى الواقع، لا توجد صفقة على الإطلاق، لأن هذا كان تنازلاً من جانب واحد، ولم تحصل فى مقابله الولايات المتحدة على أى شىء، وتبيّن أن قراره لم يكن أكثر من «تحرك مفلس» أو «فنكوش».