القفاصة.. مهنة أقوى من الزمن
القفاصة مهنة لا غنى عنها
جلس إلى جوار الطريق الملاصق لشريط السكة الحديد فى منطقة أبوالريش بأسوان، يطرق بيديه السمينتين على عيدان النخيل السميكة ليُحدث بها ثقوباً ذات فتحات محددة يجهزها لأنه بعد دقائق سيُدخل بها عيداناً صغيرة ليشكل شباكاً من الأخشاب ليصمم «عشة» حمام، يعمل فيها منذ ساعات الصباح الأولى وينتهى منها عند الظهيرة، هكذا اعتاد حسام عيد هذا العمل منذ 35 عاماً، حينما كان يجلس إلى جوار جده ووالده اللذين كانا يعملان فى ساحة منزلهم وحوّلوها إلى ورشة لصناعة الأقفاص.
قطع «عيد»، البالغ من العمر 45 عاماً، نحو 200 كم من إسنا إلى أسوان للعمل فى إحدى الورش، ويتابع عمله كـ«صنايعى»، وبرر ذلك بقوله: «أنا بحب أشتغل فى المكان اللى أرتاح فيه وأحسّ إن أهله طيبين وأنا بغير من مكان للتانى، وهنا موسم حلو علشان مفيش صنايعية كتير زى إسنا، وكل 10 أيام ولا أسبوعين بنزل البلد وأرجع تانى»، مشيراً إلى أنه بدأ العمل فى المهنة منذ أن كان عمره 10 سنوات مع والده، ولم يتلقَّ أى تعليم، وهو ما دفعه إلى الاهتمام بتعليم أبنائه لكى يتلقوا التعليم الذى حُرم هو منه، وأوضح أن المهنة شاقة وتتطلب المزيد من الوقت والجهد، وعلق: «بتفضل قاعد من الصبح للعصر علشان تعمل عشة كبيرة ولا كام قفص، الوضع مش بيتطور زى باقى المهن، لا فيها آلات ولا مكن يسرّع الشغل ولا يريحنا، كله بإدينا».
«عيد»: «مهنة شاقة تتطلب مزيداً من الوقت والجهد».. و«شعراوى»: «الناس ما تستغناش عننا الكرتون باظ والبلاستيك اتكسر وفى الآخر رجعولنا تانى»
ويشرح «عيد» مراحل عمل الأقفاص والمنتجات التى ينتجها بقوله: «نأتى بجريد النخل الذى يتم جمعه من المزارع والأراضى الزراعية الكبيرة عند تقليم وتنظيف النخل، ثم يتم جمعه وبيعه بواقع جنيه واحد للجريدة، ويقوم صاحب الورشة بشراء الكميات التى يحتاجها، ومنها يتم تقطيع كل جريدة على حدة ليتم مسحها ثم تخريمها بماسورة، وبعد ما أمسحها بعلّمها وبعد ما بعلّمها بخرم بالمواسير، وبعلّم بمسامير العلام، وده سلاح وماسورة، أى قفاص ما يشتغلش إلا بالأسلحة دى، بنجيبه من الفيوم جماعة فى الفيوم بيعملوه، وبعد ما بخرم ببدأ أركب العيدان، لحد أما أشكّل القفص أو العشة أو الكرسى اللى أنا عايزه». وأوضح أنه يستخدم المياه، يبخها بفمه على أكوام الجريد الناشف حتى يسهل تطويعه للشكل المطلوب، ويظل يعمل بنفس الطريقة كل يوم من الثامنة صباحاً وحتى السادسة مساء، وكل يوم ينتج منتجات مختلفة حسب طلبات الشغل: «يعنى ممكن أعمل أقفاص فراخ أو أقفاص عشش حمام أو الأقفاص العادية بتاعة الخضار والكراسى حسب الطلبية اللى جاية لصاحب الورشة»، مشيراً إلى أنه يعمل فى الورشة منذ 4 سنوات وصاحب الورشة يتفق مع التجار على المنتجات المطلوبة نظير عمولة للصنايعى تقدر بنصف ثمن الطلبية تقريباً.
وبالنسبة للاختلافات التى طرأت على المهنة، يقول «عيد»: «المهنة بنفس الأدوات، لكن الجديد الأشكال اللى ظهرت، بقى يتعمل نجفة وبيدخل فيها شغل أرابيسك وترابيزات، لكن المهنة زى ما هىّ، أقوى من الزمن، شوف الناس اتقدمت قد إيه بس لسه الطلب عالى عليها»، مضيفاً أن أكثر من يطلب هذا النوع من المنتجات الكافيهات والفنادق والشاليهات والمطاعم، لأن جزءاً من استخدامهم للكراسى والترابيزات الخاصة بهم من أعواد الأقفاص يعود لفكرة الصناعة اليدوية وليس المتانة فقط، مؤكداً أن متانة الكرسى الذى ينتجه قوية وتتحمل الأوزان الثقيلة ويستبعد كسره تماماً لأى سبب من الأسباب، فقط منتجاته يجب أن لا تتعرض للمياه حتى لا تتضرر.
على بُعد متر واحد من «عيد» جالس يقبض بأصابع قدميه على قطع سميكة من الجريد غالباً تكون قاعدته، بينما يطرق بيديه الممسكتين بمطرقة وماسورة على الجريد ليحدث به الثقب المطلوب، إنه أحمد محمد شعراوى، الذى يحتاج 6 ساعات لإنجاز 40 قفصاً مطلوبة منه لإرسالها للمزارع، حيث يتم تعبئة الخضراوات والفواكه فيها، هو الرجل الثانى فى الورشة، ويقوم بإنجاز عمل الأقفاص فقط خلال هذه الأيام، جاء من الفيوم على بُعد 800 كم من أسوان. وقال «شعراوى» إنه ينحدر من عائلة تعمل غالبيتها فى هذه المهنة، وأتى إلى أسوان قبل شهرين فقط لقضاء الصيف فى أسوان وإنتاج الكثير من الأقفاص، حيث يزيد الطلب عليها، معلقاً: «بعمل 30 أو 40 قفص فى اليوم، والقفص بيتباع بـ7 جنيه أنا باخد نص التمن وصاحب الورشة النص التانى لأنى قاعد فى ورشته وهو اللى جايب الجريد، وهنا تلاقى صنايعية جايين من الصعيد لأن أسوان ناسها طيبين والشغل معاهم مريح»، مشيراً إلى أن «المهنة لم تتراجع رغم الكثير من التطور الذى حدث فى الحياة، وكل المحاولات التى فرضها التطور باءت بالفشل، حيث حاول الكثير من التجار تعبئة الخضراوات والفواكه فى صناديق من الكرتون، إلا أنها لم تفِ بالغرض، حيث كانت تتلف وتسبب أعباء مادية للتجار، بينما تبقى الأقفاص محتفظة بمكانتها بين حافظات الخضر والفاكهة، إلى جانب المنتجات الأخرى، مضيفاً: «المهنة دى مش حتندثر أبداً، الناس ما يقدروش يستغنوا عننا، الكرتون باظ والبلاستيك اتكسر، وفى الآخر رجعولنا تانى».