«الوطن» ترصد مأساة «عاصمة العالم القديم»: معابد مهجورة.. فنادق خاوية.. وأحوال ناس «تصعب ع الكافر»
«لقصر بلدنا بلد سياح فيها الأجانب تتفسح» ينطلق صوت المطرب الشعبى على وقع أقدام الخيول التى تجر طابوراً طويلاً من عربات «الحنطور»، ينفلت من العربات مجموعة من الشباب يؤدون حركات راقصة على أنغام الموسيقى، تنتهى الأغنية مع توقّف «الحناطير» أمام فندق الونتر بالاس بمدينة الأقصر، كمشهد شهير من الفيلم الاستعراضى القديم «غرام فى الكرنك». اختفى الآن كل شىء، لا أجانب تتفسح، ولا حناطير تتهادى على الكورنيش، الفنادق أغلقت أبوابها، والمرشدون السياحيون جلسوا يهشون الذباب، بينما تحولت المعابد الأثرية إلى أطلال تنعى من بنوها منذ آلاف السنين.[FirstQuote]
بين السادسة صباحاً والخامسة مساءً يقتل الحاج أحمد الشحات وقت عمله مستظلاً بإحدى البنايات الملحقة بمعبد الدير البحرى فى البر الغربى بالأقصر. وظيفته تتلخص فى قيادة قطار «الطفطف» عند سفح معبد «حتشبسوت»، لكن الحاج أحمد الذى يقول «إحنا ناس كل رزقنا قايم على السياحة اللى قتلها الإخوان».. اتضربت السياحة وأدينا على فيض الكريم».
يسكن «سائق الطفطف» الأقصرى بالقرب من المعبد فى منطقة القرنة أو «الجُرنة»، كما ينطقها هو بلهجة صعيدية. وهى منطقة تعتمد بالأساس على النشاط السياحى لوقوعها فى حضن جبال البر الغربى التى تضم عدداً من المعابد من بينها معبد حتشبسوت ووادى الملوك. «معندناش زراعة ولا رعى غير ضنين»، هذا ما يقوله الحاج أحمد، الأب لستة أولاد «ولادى الستة كلهم شغالين فى السياحة.. اللى شغال فى بازار واللى سواق وكلهم حالهم وقف من يوم ما السياحة انضربت». «زمان كان معبد الدير البحرى بيجيه ألوف.. كنت باستنفع من ده وده، لكن دلوقتى دخلى كله 800 جنيه فى الشهر يقول الحاج أحمد الشحات الذى يعانى من غلاء المعيشة بعدما «زادت الأسعار وبقت نيران.. الطماطم وصل سعرها 5 جنيه و6 جنيه، والبصل بـ6 جنيه واللحمة مدخلتهاش بيتى من رمضان اللى فات.. والمدام جماعتنا بدل ما كانت بتجيب من كل صنف كيلو بقت تجيب نص كيلو علشان نعرف نعيش». الدير البحرى معبد من معابد البر الغربى التى تزيد على العشرين. بنته الملكة الفرعونية حتشبسوت من الأسرة الثامنة عشرة من الحجر الجيرى، وتخطيطه المعمارى عبارة عن ثلاثة مستويات يقطعها منحدر يربطها ببعضها، والجزء الأعلى هو قدس أقداس المعبد. هكذا يعرف الدكتور محمد عبدالعزيز، مدير تفتيش آثار منطقة القرنة معبد حتشبسوت الذى يقع ضمن منطقة إشراف مكتبة.
ويقول «عبدالعزيز» إن «الإقبال وإن كان متراجعا بشدة فإن البر الغربى آمن جدا، وهناك انضباط فى مواعيد العمل من السادسة صباحاً وحتى الخامسة مساءً وهناك «نبطشيات» يومى الخميس والجمعة وفى أيام العطلات والإجازات الرسمية، ونأمل أن تعود السياحة مرة أخرى، خصوصاً بعدما قام خبير أمنى فرنسى بزيارة وادى الملوك بصحبة عدد من القيادات الأمنية من مديرية أمن الأقصر وشرطة السياحة والآثار ووقف خلال زيارته على الأوضاع الأمنية فى البر الغربى كى يعد تقريراً أمنياً عن المنطقة، والحمد لله أنه وصل إلى وادى الملوك فى وقت وجدت فيه مجموعات من المصريين والأجانب فى زيارة للمكان».[SecondQuote]
«الأقصر بلد اقتصاده قائم أصلاً على الحجارة»، هكذا يشير إلى وضع النشاط السياحى على قائمة أولويات الاقتصاد فى محافظة الأقصر.. حسان سيد، صاحب الثلاثين سنة، يعمل حارساً بمعبد الدير البحرى ومهمته الوظيفية محددة هى منع زوار معبد حتشبسوت من لمس حوائط المعبد أو العبث بها أو الدخول إلى الأماكن التى لا تزال تحت الترميم. لكن منذ الخامس والعشرين من يناير والمهمة تزداد سهولة، حيث راحت أعداد الزوار تتضاءل شيئاً فشيئاً «قلة أعداد السياح أثرت بشكل بالغ على الأقصر بالكامل، خصوصا على القرنة المنطقة التى تضم معبد حتشبسوت لأن البازارات سرّحت ناس، ومصانع الألباستر استغنت عن عمالها.. الناس بيوتها اتخربت» يقول الحارس.
بتململ يسير محمود على هاشم وحسان سيد، الحارسان بمعبد الدير البحرى، على منحدر المعبد الموصل إلى قدس أقداسه فى الطابق الثالث والأخير. يستعيد «حسان» ذكريات المعبد والوفود التى كانت لا تتوقف عن الحضور «كنا زمان نمنع أى وفد من الدخول بعد الساعة 5، وكان جراج المعبد يتملى أتوبيسات سياحية.. دلوقتى كبيرنا فى اليوم يزور المعبد 5 زوار». ورغم استتباب الوضع الأمنى، بحسب ما يشدد عليه حسان سيد، فإن المعبد لا يستقبل نفس الأعداد من السياح التى كان يستقبلها فى السابق «فى النهار قوات الشرطة بتقوم بتأمين المعبد، غيرنا إحنا كحراس عن وزارة الآثار. وبالليل بنتقسم إلى نصفين نصفنا عند مدخل المعبد والنصف الثانى فى مكتب البرق، الملحق بالمعبد، ومهمتنا فى الليل هى منع أى مخلوق أو سيارة من الدخول إلى المعبد، فضلاً عن وجود كتيبتين للجيش فى جبال البر الغربى». محمود على هاشم، الحارس التابع لوزارة الآثار، يقول إن راتبه الشهرى «750 جنيهاً، ماشى بيهم أنا وأهل بيتى بستر ربنا.. لكن طبعاً الواحد مش عايش زى الأول مادياً يعنى قبل كده كنت أخلص شغل الحراسة وأطلع اشتغل نحّات فى مصنع أنحت تمثالين ولا حاجة وآخد عليهم أجر كويس.. دلوقتى مفيش شغل إضافى». الوضع الاقتصادى لهاشم انعكس بشدة على أحواله المعيشية «بدل ما كنا بناكل لحمة 3 أو أربع مرات فى الأسبوع بقينا ناكلها مرتين تلاتة فى الشهر وأهى ماشية مستورة والحمد لله».[SecondImage]
يستطرد حسان، حارس المعبد الفرعونى، «المشكلة إنى متزوج وعندى ابن مش بيرضع من أمه، وبحتاج أجيب له علبة اللبن بالشىء الفلانى وطبعاً فى ظل الظروف الحالية الواحد بيجد صعوبة بالغة فى التوفيق بين شراء اللبن المطلوب لابنى وبين شراء باقى احتياجاتنا الأساسية فى البيت.. لأن ثمن اللبن 380 جنيه شهرياً وأنا مرتبى 743 جنيه بالظبط والأسعار عندنا أصلاً كل يوم فى زيادة فهل مرتبى هيكفى سكر ولا رز ولا مياه ولا كهرباء؟».
ضمت قوائم المتضررين من أحوال السياحة الأخيرة فى الأقصر فئات متعددة منها «مصانع الألباستر» التى تصنع الهدايا التذكارية والتحف على الطراز الفرعونى. جابر العزب، صاحب أحد هذه المصانع، يقول: «من أول ثورة يناير 2011 والسياح رجلهم قلت عن المكان وقل معاها الرزق حتى انعدم تماماً فى الفترة الأخيرة».
مع النسمات الخفيفة يرفرف علم لدولة النرويج داخل معرض جابر العزب. العلم بحسب العزب هدية من مجموعة من السياح النرويجيين الذين اشتروا بعض التحف من معرضه «كانوا آخر زبائن دخلوا معرضى، حاولت إرضاءهم بقدر الإمكان ليشتروا أكبر عدد من الهدايا فطلبوا منى وضع علم النرويج عندى بالمعرض فلم أتردد قالوا لى: نريد أن يكون العلم تذكاراً فى معرضك». كانت أفواج السياح التى تتردد على معابد البر الغربى بالأقصر مصدر الرزق الأهم لدى مكان المنطقة الجبلية يقول العزب، صاحب مصنع ومعرض الألباستر: «كان فى اليوم الواحد بييجى عشرات الأتوبيسات ينزل السياح منها يزوروا المعابد الأثرية وبعدها يتجولوا فى المنطقة ويركبوا المنطاد «البالون» ويشتروا هدايا تذكارية والله كانت بعض المصانع ممكن تدخل 50 ألف جنيه فى اليوم الواحد.. دلوقتى لو جابت 50 جنيه فى اليوم بقفل المصنع والمعرض وأروح لعيالى أصرفها.. بقينا بنحلّق على الزبون علشان يشترى مننا أى تحفة ولو باتنين جنيه». «قالوا إن الاتحاد الأوروبى خصص لمصانع الألباستر 10 يورو.. ولا شوفناها» يقول جابر العزب، صاحب مصنع الألباستر الموجود فى منطقة القرنة بالأقصر، الذى يشير لأن أغلب سكان «القرنة» يعملون فى مجال السياحة وتصنيع تحف الألباستر ولا يعرفون مهنة خارج مجال السياحة لذا تأثروا بشدة نتيجة تراجعها.
يقول سلطان عيد، مدير عام آثار معبدى الأقصر والكرنك، إن هناك من تأثر من ركود السياحة بشكل مباشر كالفندق والمرشد وصاحب البازار والسائقين وأصحاب الحنطور، وهناك من يتأثر بشكل غير مباشر كمن يتعاملون مع السياح بشكل غير مباشر كموردى الخضراوات للفنادق والمراكب وعمال الصيانة فى المنشآت السياحية». انعكس تراجع النشاط السياحى فى الأقصر وأسوان، والذى كان يدر الكثير على خزينة وزارة السياحة على ما ترصده الوزارة من نفقات فى المشاريع الترميمية لآثار المحافظتين الجنوبيتين، فبحسب ما يصرح به مدير مكتب تفتيش آثار الأقصر فإن الكثير من مشاريع ترميم الأماكن الأثرية بالأقصر أرجئت نظراً لعدم وجود التمويل الكافى لها، كما هو الحال فى ترميم طريق الكباش بين معبدى الأقصر والكرنك، والمتاحف التى بدأت الدولة تدشينها وحتى الترميم الدورى للآثار والمعابد المنتشرة فى محافظة الأقصر.[ThirdQuote]
بحسب تقديرات سلطان عيد، مدير آثار معبدى الأقصر والكرنك، فإن حجم الإقبال على المعبدين، لا يصل إلى 0.1% عنها فى الأيام القليلة السابقة على 25 يناير 2011 الذى بدأت معه الأوضاع تتداعى فيما يخص النشاط السياحى فى محافظة الأقصر. «كان بيدخلى 3 آلاف أو 4 آلاف يومياً قبل 2011.. اليوم لا يدخل سوى سائح أو اثنين» يقول سلطان عيد.
أخبار متعلقة
سائقو الحناطير: «لما نلاقى ناكل.. نبقى نأكَّل الخيول»
«هولندية» تنقذ الخيول من الموت بـ«قليل من الطعام»
السوق السياحى.. «فين أيام البيع والشرا»
فى المعابد.. مرشدون بلا سياحة
الفنادق والبواخر العائمة.. قليل من الزبائن كثير من المديونيات
المراكبية: «بناكل ونشرب بس اللى جاى مش مكفى اللى رايح»
المقاهى والمطاعم «مفتوحة على الفاضى»