حرفة «التُّلى».. خيوط من ذهب تحفظ تراث ريف الصعيد
«منال» ورفيقاتها يستعرضن فن «التلى»
تحت وطأة شمس الصعيد الحارقة، فى صيف عام 1990، فوجئ الجميع بسيدة سويسرية شقراء تتجول فى قرى ونجوع أسيوط، وبين يديها صورة من المتحف البريطانى بها إحدى قصاصات القماش المطرّزة بخيوط من الذهب، وكُتب تحتها «الفن الأسيوطى»، وبالصدفة وقعت فى طريق الفنان التشكيلى سعد زغلول، وفوجئ الرجل بهذه القطعة من القماش المنسوبة لأسيوط، لكنه لم يجد لها أى أصل فيما تُرك من تراث الحرف الصعيدية، فلم يترك الأمر، بل ظل، حسب رواية ابنته «منال سعد»، يبحث فى جنبات المحافظة عن سيدة عملت أو تعرف شيئاً عن هذه الحرفة القديمة المخلدة فى متاحف العالم.
داخل متحف أسسه والدها لتخليد هذا الفن، جلست «منال» تروى أن والدها ظل يتنقل بين القرى والنجوع الفقيرة يُطلع السيدات على هذه القطعة القديمة من التراث، وبعد عامين من التجوال عثر فى النهاية على سيدتين مسنتين فى غرب مدينة أسيوط، كانتا تعملان فى تطريز الخيوط الذهبية والفضية الرفيعة داخل قماش التلى، فأسس بيتاً لحفظ هذا التراث، وكلفهما بتعليم فتيات أخريات فن التلى حتى يحفظه من الاندثار.
«منال»: «إحنا بنحافظ على تاريخ مصر».. و«عمرو»: نطالب الدولة بالاهتمام بهذه الحرفة
اليوم، وبعد مرور أكثر من 20 عاماً على رحلة السيدة الأجنبية لأسيوط، صارت «منال»، التى كانت أولى الفتيات اللاتى تعلمن من سيدات القرية العجائز، تتابع الآن فتيات يعملن فى تطريز قطع من القماش، وبدأب شديد تحرص على تعليمهن التطريز، بعدما دربت 600 فتاة أخرى على هذا الفن ليبقى محفوظاً فى منازلهن وبين ملابسهن باسم «التلى الأسيوطى».
تتابع «منال» تعليم الفتيات، ونشر هذا الفن من جديد، ولديها رغبة ملحة فى تعليم هذا الفن القديم، لكى يكون عائلاً لها ولأسرتها.
يقوم فن التلى على تطريز قطع القماش التى تكون من القطن «التل» أو «البلستر»، باستخدام خيوط مطلية باللون الذهبى أو باللون الفضى، وكانوا قديماً يستخدمون الذهب الخالص والفضة الخالصة، ولكن مع غلاء الأسعار استبدلوها بالخيوط المطلية: «زمان كانوا بيستخدموا فضة ودهب بيور، لكن الأمر أصبح صعباً بسبب الغلاء»، هكذا قالت «منال»، موضحة أن القطع القديمة التى وُجدت فى منازل السيدتين المسنتين كانت من الذهب والفضة الخالصة.
وتستخدم «منال» وتلميذاتها التصميمات القديمة «الموتيفات» للحفاظ على التراث فقطعهن مملوءة بالجِمال والعرائس القديمة كما كانت تُصنع قديماً: «إحنا هنا مركز إحياء تراث، يعنى مهمتنا الحفاظ على التراث، وهذا الفن يحكى عن التاريخ وليس مركزاً تجارياً.. إحنا بنحافظ على تاريخ مصر».
إلى جوار منال جلست كلثوم عكاشة، من قرية الواسطى، وقالت إنها تعلمت التلى من عام 1992، وتعرفت من خلال جيرانها عليه، وجاءت للبيت فى مدينة أسيوط لتتعلم وليكون مصدر رزق لها، وبعد زواجها انقطعت عنه، ولكن بعد سنوات من الزواج وجدت نفسها فى حاجة للعودة للعمل بالتلى مرة أخرى لمساعدة زوجها، فعادت من جديد لبيت التلى، وعلّمت ابنتها التلى، تأخذ الخامات من «بيت التلى» وتصنعها فى منزلها، وتستغرق فى بعض القطع أسابيع، وفى قطع أخرى شهوراً.
وأضاف معتز عمرو، وهو شاب عشرينى، يعمل مديراً لبيت التلى للتراث، إن التلى تراث أسيوط، كان مشهوراً من عصور محمد على، حيث ذكر «الجبرتى» فى كتابه إن محمد على احتكر حرفة التلى لمصر وحدها، خاصة فى محافظة أسيوط، وكانت أشهر صناعة فى أسيوط الكليم والتلى، وكان يُصنع فى البيوت بالقرى الفقيرة، وتصنعه السيدات لبناتهن قبل الزواج.
كانت السيدات فى المنازل تعد الشال وفستان الفرح لبناتهن، ويرسمن عليهما بخيوط من الذهب والفضة تفاصيل العرس، حيث كانت تُرسم صفوف من السيدات واقفات فى انتظار العروس، وبين أيديهن شموع، فترسم لها مجموعة من الشموع، ثم تركب الجمل بجوار عريسها وتتجول به فى شوارع البلدة، ويظهر بالفعل على التلى القديم المزروعات والجمال.
وتتجلى عبقرية فن التلى فى أنه يدمج بين الحضارة الفرعونية فى الرسوم والنقوش التى تشابه الكتابة الفرعونية والزخارف الشعبية والقبطية، فتجد أن القرى ذات الأغلبية المسلمة حين تقوم بصناعة التلى تضع زخارف قبطية والعكس صحيح، وهو يُظهر مدى التسامح بين المسلمين والأقباط فى ريف مصر قديماً.
«السيدة الأمية كانت تؤرخ لمصر منذ الفراعنة حتى التاريخ الحديث فى لوحة تمزج فيها بين الفنون التعبيرية والسريالية فى نفس الموضوع، وبدون دراية منها» هكذا استمر «عمرو» فى متابعة الحديث، مضيفاً أن الأسر الأرستقراطية قديماً كانت تعير التلى اهتماماً كبيراً، حيث كانت تأتى بسيدة متخصصة لتنفيذ الفساتين والشال الخاص بالعروس قبل العرس بفترة كبيرة.
وبدأ بيت التلى تدريب السيدات الريفيات على تصميمات التلى وتنفيذ الشال والفستان على الطريقة القديمة بعد إدخال بعض التطوير الخاص بالخامات، والموديلات، ولكن بعد تدريب 600 فتاة كانت الأزمة فى كيفية التعامل مع الإنتاج الذى صنعنه، حتى جاءت مصممة أزياء مغربية بالصدفة تبحث عن صناعة التلى فى أسيوط فأخذت كل الإنتاج الذى خرج عن الورشة، ولكن بقيت الأزمة الكبيرة بعد التدريب، أين سيذهب إنتاج الفتيات والسيدات؟!
وأضاف «عمرو» أن هناك الكثير من القرى فى أسيوط بدأ أهلها يعملون فى منازلهم على التلى، خاصة القرى القريبة من مدينة أسيوط، مثل العصارة، منقباد، وأبنوب، مطالباً الدولة بضرورة الاهتمام بهذه الحرفة والصناعة التى يجد أنها من الممكن أن تدرّ دخلاً كبيراً على الدولة وعلى العاملات فيها، ولكن للأسف لا يجد أى اهتمام أو دعم لذلك فى ظل الكثير من استخدامات التلى فى الكثير من الأزياء العالمية، والكثير من بيوت الأزياء تستخدمه فى تصميماتها.