«الوطن» فى «معهد الأورام»: طابور «الجرعة» بين ألم «الكيماوى».. ومرارة الانتظار
وجوه تحملها أجساد أصابها الهُزال، عظام فوق عظام مرهقة، عيون متقرحة من قلة النوم لأهالى أصاب المرض فلذات أكبادهم، سيدة بردائها الذى ينُمّ عن أصلها الريفى، تضع يدها على وجنتيها، فيما ينام صغيرها على حجرها مُمدداً قدميه على كراسى بلاستيكية، يلهث وراءها العشرات، يختلفون فى موضع الألم المشترك، لكنهم يجتمعون تحت سقف واحد، موضوعون على قوائم انتظار؛ هذا ينتظر إجراء العملية الجراحية، فيما ينزوى آخر متدفئاً بأحد أركان المعهد العتيق، ملفوفاً ببطانية شتوية، يقترضون نفحات الصبر، يتمتمون بكلمات ربانية، كلٌّ حسب ديانته، ابتسامة تُغازل وجه سيدة فى الأربعينات من العمر، بعد أن حصلت على تموينها الأسبوعى من جرعة الكيماوى. الأمر ليس نقل معاناة المرضى على ألسنتهم، لكنها محاولة لمعايشة التجربة كمرضى. [FirstQuote]
خاضت «الوطن» التجربة؛ دخلت المعهد القومى للأورام بعد عناء، سجلت كل ما حدث.. التجربة التى استغرقت يوماً كاملاً تجلى فيها فساد دولة أهملت مواطنيها، وقدرة رب قادر على شفائهم، وابتسامة ترتسم على وجوه باهتة، لا تكتمل إلا بالاطمئنان. المعايشة لم تكن للفقراء من المترددين على المعهد للعلاج، كانت أيضاً للمقتدرين، الذين توحدت أقدارهم مع أقدار الفقراء بعد أن نال منهم المرض نفسه.. لتضحى الأزمة ليست فى سرطان ينتشر، لكنها فى طبيب قد يضيع مريضاً بكلماته البائسة، أو أطباء يعرفون المعايير العالمية فى علاج هذا المرض لكنهم يتجاهلون تطبيقها.[SecondImage]
جو غائم مُلبد بملوثات السيارات المارة فى شارع قصر العينى، لا تشفع له أشعة شمس ساطعة، فيما تدق الساعة لتعلن الحادية عشرة ظهراً، ومعها كان موعد الدخول إلى معهد الأورام، زحام شديد على باب المعهد الحديدى، يقف عليه اثنان من ضباط الأمن، مهمتهما هى تنظيم دخول الوافدين، رجل أربعينى العمر، يرتدى جلباباً فضفاضاً، يجُر أمامه والدته المُقعدة على كرسى متحرك فى العقد السابع من عمرها، تعانى من سرطان فى المعدة، اقتربت منه ببطء: «ربنا يعفى عنها»، نظر بعينين واسعتين ثم قال بلهجة فلاحى: «بس يا أستاذ لاحسن احنا مش معرفينها إن هيه عندها حاجة»، كلماته أعادتنى إلى طابور من الصامتين، تراصوا فى انتظار دور الدخول، أصوات غير مفهومة تتردد على الأذن تخرج من داخل المعهد.
الدقائق تمر كالدهر، أشار الحارس بيديه مانعاً دخول البقية إلى المعهد، وكنت منهم، موجهاً لهم كلمات: «خلاص يا جماعة العدد اكتمل»، هاج الجمع، ثاروا فى وجه موظف الأمن، الذى لم يجد سوى إغلاق الباب فى وجوههم، خاطبهم من شباك الباب الحديدى بنبرة لا تخلو من الثقة: «قلنا خلاص استكفينا النهارده.. تعالى بكره وبلاش كُتر كلام»، فيما نصح صانع الشاى والقهوة على نصبته المرضى بالاتجاه صوب الباب الرئيسى أمام كورنيش النيل: «هيدخلوك.. بس هتدفع 50 جنيه، وكل حاجة هتكون عليك»، منهم من قرر العودة إلى بيته، وقلة منهم قرروا التوجه صوب الباب الرئيسى.[SecondQuote]
كنت مع القلة، توجهت معهم صوب الباب الرئيسى، وفى ذهنى تدور الاحتمالات بأصوات مسموعة: «يمكن يدخلونا، يمكن نصعب عليهم وماندفعشى الـ50 جنيه دى...»، على الباب الرئيسى يجلس رفقاء المرض والمرضى يفترش بعضهم درجات السلم المُحطمة، وسط خلفية صوتية لكلاكسات السيارات والميكروباصات، وبائعى الشاى، الذين وجدوا فى المرضى صيداً ثميناً يزيد من رزقهم اليومى.
«رايح فين؟»، سألنى موظف الأمن مشيراً بيده محذراً من الدخول، وكان ردى عليه: «داخل أقطع تذكرة»، فما كان من رجل الأمن سوى الرد بلهجة صارمة: «لو عاوز تدخل هتدفع 50 جنيه.. كل حاجة هتكون على حسابك»، وافقته على اقتراحه، فسمح لى بالدخول، وأمام شباك التذاكر أخذت دورى فى الطابور.
قابضاً على يديه بمسبحة، يحرك شفتيه، لا أحد يعرف بماذا يُتمتم إلا هو، لم يجد مكاناً للجلوس، ففضل الانتظار، داخل قاعة مكتظة بمرضى جاءوا من كل حدب وصوب، يأملون أن يكون الأطباء سبباً فى شفائهم، زبيبة الصلاة تعلو وجه «مازن»، يُعدل نظارته الطبية بين الحين والآخر، مُنكس الوجه، وعلامات القلق تكسو معظم وجهه، يتذكر تلك المسافة التى قطعها من محافظة أسوان صوب المحروسة: «أصلهم من زمان بيقولولنا إن مصر فيها كل حاجة»، يجِزّ على أسنانه وضروسه، لعلها تكون الجزة الأخيرة قبل دخوله غرفة العمليات، فتلك الطواحن الربانية التى تساعده على المضغ والأكل والضحك، وتلك الوجنة التى تصنع غمازة فور أن يُقرر الابتسام لن يراها أحد بعد الآن، أمام غرفة العمليات ينتظر الرجل صاحب الـ40 عاماً استئصال الطبيب جزءاً من فكه بعظامه بأسنانه، مستبدلاً إياه بـ«فكّ» صناعى، فلعنة تدخين السجائر لأكثر من ثلاثة عقود كانت كفيلة بإصابة فكيه، «الله أكبر.. الحمد لله».. وما زال «مازن» يتمتم.
داخل غرفة مكيفة يجلس موظف شباك التذاكر، يتحدث لزملائه، يضحك، حتى توردت وجنتاه، فيما يستفيق من نشوته فور مناداة أحد المرضى عليه: «يا أستاذ، عايزين نخلص الله يباركلك»، يتراص المرضى حول الشباك، يستدر أحدهم عطف الموظف: «هوه ماينفعشى أقطع تذكرة مجانية.. أصلى معييش فلوس»؛ يرمقه الموظف بنظرة قاسية، فيفهم المريض المعنى المقصود، ينسحب فى هدوء، قاصداً باب المكان، الذى لفظه وبهدوء، فيما يقبض آخر على ورقة فئة 50 جنيها، فى انتظار نظرة الموظف إليه، وبينما ركن عشرات على حوائط المستشفى، ركنت أنا معهم، وانتظرنا معاً.[ThirdQuote]
أطلقوا عليها اسم «مريم»، فيما لم تمر أيام قليلة على ولادتها حتى ظهرت بقع على «بطنها»، تحولت بمرور الأيام لانبعاجات، ظنوها وزناً زائداً، أجروا لها التحاليل، لتنمحى تلك الابتسامة من وجوه أفراد الأسرة جميعاً فور سماعهم بنتائجها «سرطان فى البطن»، أخذ بالكاد يلامس معدتها، الاستئصال هو الحل، هكذا أخبرهم الطبيب، لتدق ساعة بدء العلاج منذ 5 سنوات لم تنته حتى الآن.. على رسغ والدتها تجلس الطفلة «مريم» صاحبة الـ 6 سنوات، محمولة، شعرها منحول، جفونها بالكاد مفتوحة، يختلج فى عينيها بياض، فيما ينشغل بؤبؤهما بمراقبة وجوه لا تختلف عنها كثيراً، الجميع تحت سقف المعهد بهيئة واحدة، لا تعرف الطفلة نوعية الأطفال الذين تراهم، تتساءل فى قرارة نفسها: «يا ترى دى بنت زيى ولّا ولد؟»، كل معانى الذكورة والأنوثة تحطمت على صخرة معاناة ليس لها نهاية سوى بالأمل، ودرء الخالق لورم ينتشر.. قدمت بها والدتها من منطقة العاشر من رمضان، أسفل تلك اللافتة «معهد الأورام» اتخذت مقصداً ومظلة لها، بعد رفض مستشفى 57375 استقبالها بحجة أن حالتها مستعصية: تحك الطفلة الصغيرة بظفرها يديها، مكان تلك «الكانيولة» المُثبتة، وجهها شاحب، وبواقى إفرازات تنسال من فمها، يرقبها المارة بأعينهم، فيظنون أنها فى النزع الأخير فى حياتها، إلا أن والدتها دائما ما توضح: «ده من أثر الكيماوى.. ماتقلقوش».
أمام عيادة الأطفال يُلقى الطفل «محمد» رأسه على فخذ والده، جاءوا من الفيوم، وجد السرطان صيداً ثميناً فى دم الطفل، فمنعه من الاحتفال بعامه الثامن، ومنعه من الانتظام فى الدراسة، يُمصمص الطفل شفتيه مُتمتماً لوالده بكلمات حنونة وعيناه تدمعان: «يا باى.. مش عاوز حقن تانية.. أنا تعبت»، يطيب الوالد خاطره بعد أن يحتويه بحضنه: «فات الكتير مابقاش إلا القليل»، يتذكر الطفل حالته بعد حصوله على جرعة الكيماوى؛ قىء لا ينقطع، فقدان للوعى شبه كلى، طنين فى الرأس يكاد يفتك به، شهية غير موجودة، نوم طوال الوقت.
«مرحباً بك فى العيادة المجانية»، هكذا تخاطب اللافتة المرضى الوافدين، تجولنا هناك حتى يقضى الله أمره، وينادى الموظف على اسمى، ممرٌ طويل، يحوى تمتمات المرضى وذويهم، فيما اتخذت الممرضات رُكناً قصياً، يتجادلون ويقهقهون مُعلقين على أمور حياتية، ينشغل بهم المرضى قليلاً، يقلبون كفاً على كف، ليقطع تركيزهم صوت خارج من مكبر صوت، ينفث فيه أحد الموظفين، مُنادياً على الحالة القادمة، تتهلل أسارير سيدة، بدت فى عقدها السادس، فور سماع اسمها، وما هى إلا دقائق حتى تنزوى تلك الابتسامة، عندما تخرج من الغرفة محمولة تسير بصعوبة، جراء جرعة الكيماوى، فتنصحها ابنتها: «ريحى جسمك هنا يا حاجة شوية»، مشيرة إلى أرضية السيراميك، تشعر المريضة ببرودتها، لكن لا ملاذ آخر سواها، فتتقبل الأمر: «عندى ورم فى الثدى وباتعالج، ادعيلى بالشفا يا ابنى»، تقول المريضة بصوت متهدج.
دلفت الممرضة إلى حجرة المريض، بعد أن ارتدت قناع «ميكى ماوس» هذه المرة، ابتسم لها الطفل، أقبلت عليه تحمل بين يديها الطعام، جلست بجواره، قامت بحكى القصص له، حتى تناول طعامه، ثم نام.. هذه هى التجربة فى الدول المتقدمة، نسبة الشفاء من بعض الأمراض السرطانية متفاوتة، فعالمياً تبلغ 66٪، فيما تبلغ نسبتها فى الدول العربية 50٪ فقط.. هذا ما يؤكده الدكتور أيمن عبدالسميع، أستاذ مساعد طب الأورام بمعهد الأورام، قبل أن يُشير إلى توفير الدول الأوروبية لكافة سُبل الراحة من أجل توصيل المريض إلى بر الشفاء. يؤكد «عبدالسميع» أن البروتوكولات العالمية هى ذاتها المطبقة فى مصر، مع اختلاف واحد، وهو أن معهد الأورام هو الوحيد الذى عليه ضغط الحالات، متابعاً: «لما تيجى تكشف على 50 واحد يومياً، صعب تقدم له الخدمة الأوروبية».
كانت الساعة تقارب السابعة صباحاً، عندما طرقت «أم جنى» باب جارتها «هبة» -الدكتورة فى مجال التحاليل الطبية- تقبض الجارة فى يسراها بتقارير طبية، فيما تحمل على ساعدها الأيمن ابنتها الوليدة: «شوفيلى التحاليل وطمنينى يا دكتورة»، رمقت «هبة» بعيونها التحاليل، تيقنت وعلى الفور، «سرطان فى الدم»، قالت الكلمات بهدوء، نصحت «أم جنى»: «لازم نوديها للدكتور دلوقتى»، هرعت الاثنتان تحملان الطفلة صوب مستشفى الدمرداش، 5 ساعات كاملة من الانتظار، والأطباء يماطلون فى علاج الطفلة التى لم تكمل يومها الأربعين، فيما نصحتهم إحدى الطبيبات: «روحوا بيها مستشفى 57357»، أخرجت «هبة» هاتفها المحمول، اتصلت بالمستشفى، أخبرتها الموظفة: «إحنا مش بنستقبل حالات بعد الساعة 1»، أجابتها «هبة»: «إحنا جايين فى الطريق»، وصلوا فى الميعاد، استقبلتهم الطبيبة بعد فحصها للتحاليل، خاطبتهم فى لا مبالاة: «عندها لوكيميا.. و3% بس من اللى بيتصابوا بالمرض بيعيشوا»، صرخات وعويل من قلب أم محترقة على ابنتها، لم تسمع كلمة تُطيب خاطرها، أمرت الطبيبة باتخاذ الإجراءات اللازمة، وحان دور الممرضة لاستخلاص دم من الطفلة كعينة، 17 شكة إبرة فى لحم قطعة حمراء لم تفلح الممرضة فيها باستخلاص الدم، حذرتها «هبة»: «ده ماينفعشى»، قبل أن تخبرهم الطبيبة بضرورة المغادرة، لأن ميعاد الزيارة انتهى. الساعة قاربت الخامسة عصراً، خرجوا من الباب، بعد أن طمأنتهم الطبيبة «هنعمل اللازم»، لم تمر سوى 60 دقيقة حتى وجدوا اتصالاً هاتفياً من المستشفى: «البقاء لله! بنتك ماتت».[ThirdImage]
مدة الانتظار التى تطول لما يقرب من 3 ساعات تضطر المرضى والمرافقين طبيعياً إلى الذهاب إلى دورة المياه، التى لا تحتاج إلى وصفة لكى تصل إليها، فبمجرد الاقتراب من عيادة الأطفال سيزكم أنفك الرائحة النفاذة الخارجة منها، وهناك يبدأ طابور من نوع آخر على 4 حمامات متهالكة، ليس بها مقابض لفتح المياه، فيما يلتصق بجواره مبرد للمياه «كولدير»، وسيلتك الوحيدة للشرب منه هو ذاك الكوب البلاستيكى المُعلق فيه بـ«دوبارة».
مقرفصاً، بجلباب شبه مهترئ، مُعمماً، منزوياً عن أعين المرضى والأطباء، فى انتظار توأم روحه «جمال»، الذى ولد بأورام مُتعددة فى المعدة والصدر.. خطأ طبى لأحد الأطباء فى عيادته الخاصة: «لازم نستأصل الأورام دى بأسرع طريقة ممكنة»، لم يمر سوى 60 يوماً حتى عاودته الأعراض مرة أخرى، ذهبوا إلى نفس الطبيب أخبرهم فى لهجة مُتلجلجة: «للأسف الورم انتشر فى المنطقة ولازم عملية تانى عشان نسيطر عليه»، لم يجد الشقيقان سوى منضدة خشبية حطموها على رأس الطبيب الذى خدعهم من أجل اقتناص المال، حسب وصفهما: «صرفنا عليه 150 ألف جنيه».
كما عايشنا الفقراء كان لا بد من نقل معاناة القادرين، الذين يوجدون فى المستشفيات الخاصة؛ «عمر» شاب عشرينى العمر، ذهب لإجراء عملية «الفتاق» فى قدمه، لكن بمجرد دخوله غرفة العمليات قال لهم الطبيب: «لازم نعمل تحاليل، لإنى شاكك إن فيه ورم»، ما بين مستشفى السلام بالمهندسين ومستشفى وادى النيل التابعة للمخابرات ارتحل «عُمر»، فيما ذهب قبل ذلك إلى عيادة خاصة، نصحه الدكتور بضرورة إجراء جراحة لأن الورم فى الخصية، ولا بد من استئصالها، كلمات سلب الرجولة سقطت على رأسه كالمطرقة، لم يفقد الأمل، بل تمسك بكل بارقة فيه من أجل الشفاء، المعاناة ليست فى جلب نفحات الصبر والتفاؤل فقط، داخل مستشفى وادى النيل تعرض الشاب العشرينى إلى تجاهل من الممرضات، كان يضغط الزر الذى يعلو سريره مرات عديدة فى غرفة يجلس فيها وحيداً، لكن لا أحد يجيب، لم يتمكن منه اليأس الذى حاول التسلل إليه، نسى المرض، أطلق النكات، أعطى لنفسه جرعة أمل، اجتاز «عمر» الأزمة بنجاح، وسط احتمالات لعودة المرض مرة ثانية إليه: «مش هخليه يهزمنى برضه».
فى الدور الثانى من قسم العلاج الاقتصادى، جلس «أبو فاطمة» ينتظر الدور من أجل إعادة الكشف على ابنته صاحبة الـ6 سنوات، تُعدل من حين لآخر طاقية غطت رأسها، تلعب فى الوشم الذى دقته والدتها على يديها، فتنادى عليها سيدة مُسنة مريضة، وجدت فى الطفلة أملاً تتعلق فيه بالحياة، أو ربما تُذكرها بطفولتها: «انتى منين؟»، لتجيبها الطفلة فى خجل: «من اليمن»، قبل أن يوضح والدها أنهم جاءوا خصيصاً إلى القاهرة من أجل علاج ابنته.
عواء القطط، ومرورها بين أقدام المرضى والأطباء، وحتى مدير المستشفى ذاته، بات أمراً طبيعياً، فيما نادى المُذيع على الاسم فى الميكروفون أخيراً، حان موعد الكشف، وكان لا بد من إخبار الطبيب بالقصة كاملة، غرفته تحوى أدوات وسريراً صغيراً عليه ملاءة مهترئة، استقبلنا الطبيب وهو جالس على كرسيه، فيما وقفت إحدى الممرضات تنتظر أوامره،، قابلنا بوجه بارد، لا يحوى أى مشاعر، ثم قال فى لهجة صارمة: «عندك إيه؟»، وسردت له القصة: «جاى من الصعيد، وخالى عنده سرطان فى البلعوم الأنفى، وهو ضابط سابق بالجيش، لكن حالته النفسية سيئة جداً، ورافض للعلاج، وانا سرقت التقارير منه بالعافية عشان تقولى رأى حضرتك فيهم إيه، وازاى نتعامل معاه»، رد علىّ مبتسماً: «يعنى انت عاوزنى أكشف على الحالة وهى مش موجودة؟!»، فرددت عليه: «أنا بس كنت عاوز أعرف أتعامل معاه إزاى، أى طريقة أحاول أقنعه بيها بالعلاج؟»، أجابنى بلهجة صارمة: «شوفله دكتور نفسانى».. خرجت مُتشبعاً بتلك النفسية التى تملأ المرضى، عرفنا سبب تلك القُشَعْرِيرة التى تنتاب الوافدين، وتلك البسمة الزائلة التى ما تلبث أن تكتمل.