«النداهة والصعايدة» ماذا فعلوا بها فى نصف قرن.. وماذا فعلت بهم؟
أحد أصحاب محال الفاكهة هاجر من الريف إلى العاصمة بحثاً عن الرزق
فى صقر قريش، والدويقة، ورمسيس، وشوارع القاهرة القديمة، وغيرها من مناطق القاهرة الكبرى، بأسواقها ومحالها، تظهر الوجوه السمراء لأهل الجنوب بجلاليبهم ولهجتهم المميزة، لتطغى على المشهد العام فى تلك المساحات، حيث شكلوا هناك مناطق تجمعات تخصهم وحدهم، عاشوا فيها بينما القرية تسكن عقولهم وأفئدتهم، بل ونقلوا عاداتها وتقاليدها معهم، بعدما سيطرت عليهم «النداهة» ليرتحلوا للعاصمة، بحثاً عن لقمة العيش، فى ظل تردى أوضاع الريف المصرى وتهميش سكانه.
«النداهة» هى واحدة من الأساطير الريفية، التى تسيطر على عقول البعض، ومفادها أن امرأة جميلة تظهر للفلاحين فى الحقول فتسلب عقولهم، وتدفعهم للحاق بها، وفى هذه الحالة تبدو «القاهرة» وكأنها تلك المرأة الجميلة التى دوماً ما تظهر فى مخيلة البعض أثناء عمله فى الحقل، فيترك زرعته قبل أن يغرسها، بحثاً عن فرص العمل ورغد العيش، والمال الوفير ومستقبل أفضل لن يأتى فى قرى الجنوب المهمشة.
هاجروا من الريف بحثاً عن «حياة أفضل» فعملوا خفراء منازل وأصحاب ورش وعمال أفران ومقاهٍ وباعة فاكهة
خريطة تجمعات أهل الجنوب فى القاهرة تظهر جلية بوضوح، حيث كوّنوا منذ وصولهم مناطق بأكملها تتضح فيها عاداتهم وتقاليدهم التى نقلوها معهم إلى القاهرة، فأثروا فيها بدلاً من أن تؤثر فيهم، نقلتهم القطارات من الريف نحو المدينة، ونقلت معهم عاداتهم وتقاليدهم وممارساتهم، فريَّفوا المدينة.
بلغ عدد المهاجرين إلى القاهرة عام ١٩٦٠، نحو ١٫٢ مليون مهاجر تقريباً، وشكل هذا العدد الكبير من المهاجرين إلى القاهرة نحو ثلث سكانها فى ذلك الوقت، حسب دراسة أجراها الباحث محمد حسانين، المدرس المساعد بقسم الجغرافيا فى كلية آداب القاهرة، فى رسالته للدكتوراه بعنوان «الهجرة الداخلية فى مصر خلال الفترة ١٩٦٠-١٩٩٦.. دراسة جغرافية».
وأوضحت الدراسة أن الهجرة الداخلية بدأت مطلع القرن العشرين ثم تحولت إلى ظاهرة مع بدايات الحرب العالمية الثانية بنزوح أعداد كبيرة من الريف إلى المراكز الحضرية الكبرى مثل القاهرة. وتبين الدراسة أن حجم الهجرة ارتفع من نحو ٧٠٠ ألف فقط فى بداية القرن العشرين إلى مليون و٧٠٠ ألف فى منتصف القرن، ثم وصل إلى ٤ ملايين فى نهاية القرن.
بملابس ملطخة ببقايا العجين والدقيق الأبيض، ووجه أسمر، ولهجة ما زالت تحتفظ بمصطلحاتها الجنوبية، تحدث «إبراهيم محمد»، مشيراً إلى أنه جاء إلى القاهرة منذ عشر سنوات، ونقل معه المهنة التى ورثها أباً عن جد، وهى صناعة الخبز.
«إبراهيم» سار على درب شقيقه الأكبر الذى قرر أن يترك قريتهم فى مدينة أبوقرقاص بمحافظة المنيا، على بُعد أكثر من 200 كيلومتر، لضيق العيش، ويبحث عن عمل جديد فى العاصمة، ولم تكد تمر سنوات حتى لحق به، على أمل أن يجمعوا كل ما تطوله أيديهما من المال لمساعدة والدهما الذى هزمته الشيخوخة.
«عبدالجبار» ابن سوهاج: «خلاص بقيت من هنا».. و«محمد»: منطقة الكيلو 4.5 تحولت إلى قرية فى قلب العاصمة
«رجوعك لبلدك أمر حتمى»، هكذا يقول «محمد» بلهجة لا تغيب عنها الثقة، فحماسه للعودة رغم مرور عشر سنوات لم يقل يوماً، وما زال يحفظ بداخله تلك العادات والتقاليد والموروث الثقافى الجنوبى والريفى، حتى فى القاهرة التى يعتبرها محطة لأكل العيش وجمع المال للبناء وتغيير حياته فى القرية، رغم أنه يعرف أن السمة الغالبة لدى المهاجرين للقاهرة هى عدم العودة إلا جثمان فى نعش، مشيراً إلى أنها أمنية صعبة المنال، ولكنه يصر على تحقيقها.
وشهدت الفترة الممتدة من ثورة يوليو ١٩٥٢ حتى منتصف الستينات ازدهار الهجرة الداخلية فى مصر، إذ تسببت المشروعات التنموية الضخمة التى تبنتها الدولة آنذاك فى نشأة تيارات هجرة من الوادى والدلتا، بعضها اتجه صوب المناطق الصناعية الجديدة والمراكز الحضرية الكبرى، واتجه بعضها الآخر إلى أسوان حيث مشروع السد العالى، حسب دراسة الباحث أحمد حسانين، السابق الإشارة إليها، عن الهجرة الداخلية فى مصر.
«محمد جمعة»، 31 عاماً، يسكن فى القاهرة منذ كان عمره ست سنوات، جاء من مدينة الفشن بمحافظة بنى سويف، فى كنف والده الذى قرر أن يرتحل للقاهرة للعمل فيها. الشاب الذى يمتلك محلاً لبيع البقالة يقول إن منزله وأرضه فى القرية ما زالا باقيين، إلا أنهما لم يكن بإمكانهما أن يوفرا أسباب الرزق لتلك الأسرة الممتدة المكونة من خمسة أشقاء وأولادهم، لذا كان الحل دائماً فى «النداهة» فرحلوا من بلدتهم واحداً تلو الآخر، ولم يتبق هناك سوى شقيقهم الأصغر: «هو الوتد»، ليراعى أرضهم ومنزل العائلة، ولكن تجارتهم وعملهم بالكامل فى القاهرة: «وجه قبلى مهمل وصعب فيه العيش.. لا مصانع ولا اهتمام ولا مصدر دخل مناسب».
جاء «جمعة» لمنطقة صقر قريش حين كانت مجرد صحراء جرداء لا يوجد بها سوى بضعة منازل قليلة، وبدأ يتوافد عليها أهل الجنوب والأقاليم، حتى ازدحمت بالشكل الذى هى عليه الآن، مشيراً إلى أن 90% من أهل المنطقة من الصعيد، و10% من قرى وجه بحرى، ومرشح عددهم للزيادة فى ظل غلاء الأسعار، بجانب أن الإنترنت والعالم المفتوح جعل من أهل وشباب القرى فى الجنوب يتطلعون دائماً للمدينة وما بها من مغريات، و«لو فى عائلة فيها أربع إخوات، اتنين مسافرين، واتنين لأ، هتلاقى إللى مش مسافرين مضايقين وعايزين يسافروا زى إخواتهم».
وبحسب الشاب ذى الأصول الصعيدية، فقد «كان الفلاح زمان يعتمد على تربية المواشى والدواجن فى المنازل، وقليل من الاحتياجات من خارج المنزل، ولكن الآن الاحتياجات زادت مع زيادة الرفاهية ومتطلبات العصر، وأصبح فى كل بيت فى القرية وصلة نت»، ويستطرد: «مابقاش فيه ستات بتخبز عيش ولا بتربى طيور وحيوانات».
هنا يشير «جمعة» إلى منطقة «الكيلو أربعة ونص» التى أصبحت وكأنها قرية فى قلب القاهرة، من تربية مواشى ودواجن بالمنازل، للدرجة التى تشعر معها وكأنك فى قرية بالصعيد، وهناك لا يشعرون بالغلاء مثل ما يحدث فى الصعيد.
ويضيف: «المقبلون من الأرياف يتوزعون على الأعمال، فعلى سبيل المثال خفراء المنازل والبنايات من المنيا، وأصحاب ورش الحدادة والنجارة من المنوفية، والأسايطة والسوهاجية فى الأفران ومخابز العيش ومحال الفاكهة».
«بدر بدوى»، ابن مدينة مغاغة، يعمل فى القاهرة منذ 13 سنة، وهو خفير لإحدى البنايات، جاء خلف زوج شقيقته الذى رحل عن البلدة للقاهرة للبحث عن عمل، ويقول إن أول من فكر فى السفر من عائلته كان خاله، حيث لا تملك عائلته أى قطع أرض أو أى شىء يدر عليهم المال، فلم يجد الرجل حلاً للحصول على لقمة العيش سوى السفر للقاهرة والاستقرار، وهو يستبعد عودته مرة أخرى، قائلاً: «خلاص دى بقت بلدى وعشتى وحياتى».
خبير سياسى: العاصمة دفعت ثمن «قنابل البلد الموقوتة».. الترييف والانفجار السكانى وارتفاع معدلات البطالة
يحفظ «بدوى» إلى حد كبير خريطة توزيع المقبلين من الأقاليم على القاهرة، حيث يتمركز أهل «المنيا» فى صقر قريش ومدينة نصر والعاشر من رمضان وسوق العبور، والمقبلون من أسيوط يتمركزون فى رمسيس، وخاصة لأن الغالبية منهم يقيمون أفران الخبز، والمقبلون من محافظة قنا فى غمرة وعين شمس والمطرية، وأما أبناء محافظة سوهاج فيتمركزون فى محافظة الجيزة، فى العمرانية وشارع الهرم وفيصل.
«بدوى» يقول إن أهل الريف خلقوا مناطق كاملة وشكلوا مجتمعهم بشكل كامل من قديم الأزل داخل القاهرة، مشيراً إلى أن الصعايدة هم من قطنوا منطقة «الدويقة»، ومدينة السلام والنهضة، وصقر قريش، وخاصة فى المناطق العشوائية، فغالبية المقبلين من فقراء القرى جاءوا بحثاً عن لقمة عيش.
فى مطعم للحوم المشوية بمنطقة صقر قريش، المشهورة بانتشار أهل الصعيد، جلس «عبدالجبار حسن» بشاربه الكث، وبنيانه الضخم، حيث يعمل فى القاهرة منذ 1994، ترك قريته فى محافظة سوهاج بعدما ضاق به الحال فى البحث عن مهنة كريمة، ليلتحق بأولاد عمومته الذين استقروا فى العاصمة منذ الأربعينات. وبدأ عمله فى محل خضراوات وفاكهة، وبعد فترة استطاع امتلاك محل لبيع الطيور، وبعد سنوات أسس مطعماً.
يقر الرجل بأنه لا يجد راحته إلا فى بلدته فى الجنوب، ولكنه يقول أيضاً «خلاص بقيت من هنا»، مشيراً إلى طموحه فى تلقى أولاده تعليماً أفضل ومستقبلاً أفضل منه: «إحنا بنبص لمستقبل ولادنا فى الأول وفى الآخر».
نصف قرية «عبدالجبار» تعيش فى القاهرة الآن، بعد أن تركت القرية: «كل واحد أبوه ساب له نص فدان اتوزع عليه وعلى إخواته، وبقى عنده كام قيراط مش هيقدر يأكَّل بيهم عياله»، وساعدت العاصمة أهل قريته للارتقاء بأحوالهم المعيشية، شقوا طريقهم فى وسط زحامها واستطاعوا أن يجدوا موضع قدم، يوفرون من خلاله قوت يومهم».
المفكر جلال أمين يكتب عن ترييف القاهرة فى كتابه «ماذا حدث للثورة المصرية؟» فيقول: «إن عملية ترييف المدينة تمت فى مصر خلال هذه المائة عام. من الممكن أن نلاحظ هذا حتى فى المقارنة بين شخصيات الزعماء والرؤساء من سعد زغلول ومصطفى النحاس، إلى حسنى مبارك ومحمد مرسى. الجميع لهم وشائج قوية بالريف المصرى، ومعظمهم ولد فى قرية أو مدينة إقليمية صغيرة، ولكن الطابع الحضرى (أى المدنى) فى السلوك والحديث كان أكثر غلبة لدى سعد زغلول والنحاس وعبدالناصر، منه لدى الرؤساء الثلاثة التاليين».
ويضيف: «اكتشاف تأثير نمط الحياة القروية لدى السادات ومبارك ومحمد مرسى، أسهل من اكتشافه لدى الرؤساء السابقين عليهم، بل إن الجذور الريفية لدى الرئيس مرسى تبدو لى أقوى بكثير مما كانت لدى أول زعيم لجماعة الإخوان المسلمين، وهو الشيخ حسن البنا».
الدكتور نبيل عبدالفتاح، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، يرى أن الهجرة الداخلية لسكان الريف المصرى للعاصمة جاءت بحثاً عن الرزق، فى ظل عدم توفير الحد الأدنى للخدمات فى الأقاليم، وأيضاً بسبب الانفجار السكانى ونقص الوحدات السكنية، وارتفاع معدلات البطالة فى العمالة الريفية، وتهميش الريف وبخاصة الوجه القبلى، وكلها أسباب لظاهرة تنامى ترييف القاهرة، حيث نقل الوافدون للعاصمة منذ عشرات السنوات القيم والإدراك والسلوك الاجتماعى الريفى معهم إلى قلب القاهرة، بخلاف تكوين مناطق عشوائية سكنية على هامش العاصمة.
يقول «عبدالفتاح» إن ترييف القاهرة ظاهرة بدأت من بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وزادت وتيرتها فى الستينات، بسبب مركزية الدولة وأجهزتها، وأن نتائج عمليات الترييف تظهر فى البناء العشوائى وغير الرسمى، فى ظل عدم قدرة المقبلين من الريف وغالبيتهم من الفئات الدنيا على توفير سكن مناسب مع قلة المعروض من الوحدات السكنية وغلاء الأسعار.
«جمعة» ترك بلدته فى الصعيد للبحث عن العمل
الصعايدة امتهنوا بيع المواشى