عائلة «دوناتو» الإيطالية.. بائعو الزهور الذين زينوا «قاهرة المعز»
«بيترو» حفيد العائلة ورئيس الجالية الإيطالية فى القاهرة
فى صيف عام 1935، جلس الشاب «ماريو أكتفيو» الإيطالى الجنسية، مصرى المولد، على مكتبه بـ«هيئة التنظيم»، هيئة المساحة حالياً، يخطط لتلك الحديقة التى ستُطل على نهر النيل من جزيرة الزمالك، كان حينها المزاج العام للبناء فى القاهرة يميل نحو الفن الإيطالى واليونانى، لذلك عهدوا لذلك الشاب الإيطالى وبعض زملائه بتخطيط ورسم «حديقة الأندلس» التى ستزين واجهة كوبرى قصر النيل، الذى يربط تلك الجزيرة التى تتوسط النهر بقلب القاهرة.
حفيده اليوم هو رئيس الجالية الإيطالية فى القاهرة، «بيترو دوناتو»، الذى لم يترك القاهرة رغم ما مر على العائلة من أزمات متعددة، بل وكان الإيطالى الوحيد الذى يخدم بالجيش المصرى بعدما حصل هو وأسرته على الجنسية المصرية.
يقول «دوناتو» إن جده كان أجنبياً ضمن عدد كبير من موظفى الحكومة الأجانب داخل «هيئة التنظيم»، التى كانت تضم داخلها مهندسين إيطاليين وإنجليز ومصريين، وكانت مسئوليتهم مد الطرق وتصميم الميادين داخل القاهرة، وتنظيمها بالشكل الذى يليق بالعاصمة.
جد «بيترو» رسم حديقة الأندلس.. و«التأميم» انتزع من والده 100 فدان ورود فأسس محلاً لبيعها فى وسط البلد.. والابن وأولاده يصممون جنائن «الإدارية الجديدة»
وجاء والد جده الذى كان يعمل مزارعاً، من صقلية جنوب إيطاليا، إلى مصر لشراء قطعة أرض وزراعتها، وتعرف على جدتى التى تنتمى لعائلة فرنسية فى صعيد مصر، وبالتحديد فى مدينة ملوى بالمنيا، وأنجبا جده «ماريو»، الذى كانت روحه متعلقة بالقاهرة، لم يتركها سوى مرة واحدة فى حياته إلى إيطاليا، وعاد سريعاً، حيث كانت القاهرة حينها قبلة الموضة والجمال وعاصمة ساحرة.
وحسبما كان يحكى الجد «ماريو» لحفيده «بيترو»، كانت الكثير من الجاليات الأجنبية تقطن القاهرة، وكانت الجالية الإيطالية هى ثانى أكبر الجاليات الأجنبية عدداً، ليس فى القاهرة وحدها، ولكن فى القُطر المصرى كله، حيث وصل عددهم ما بين القاهرة والإسكندرية فقط إلى 20 ألف نسمة، وشاركوا فى بناء العديد من المنشآت فى القاهرة، ومن بينها على سبيل المثال مسجد عمر مكرم بميدان التحرير والكثير من المعالم المعمارية الأخرى.
لم يكن «ماريو» وحده من الجالية الإيطالية الذى شارك فى العمارة المصرية، حيث كان هناك «أنطونيو» الذى صمم قصر الزعفران الذى تحول حالياً إلى جامعة عين شمس، وقصر الطاهرة، وبنك مصر، الكائن بشارع محمد فريد، الذى تم بناؤه عام 1972 على الطراز البندقى بلمسة مملوكية حديثة، كما يقول «بيترو».
أيضاً هناك الفنان المعمارى الإيطالى «جاستونى روسى» الذى شارك فى تصميم عمارة «الإيموبيليا» بوسط القاهرة، وصمم أيضاً فندق الكونتيننتال، كما شارك فى تصميم مجمع سينما مترو وسينما قصر النيل ونادى السيارات.
الحفيد الآن يرأس أيضاً مجلس إدارة المستشفى الإيطالى، وهو يتذكر خطوات إنشائه حيث بنى بالعباسية عام 1901، فى أرض كانت مخصصة لإقامة الموالد، على مساحة أربعة أفدنة فى وسط العباسية، وقد جمع وقتها ثمن الأرض من العائلات الإيطالية التى كانت تعيش فى مصر، وتم تشغيل المستشفى بخمسين طبيباً إيطالياً يعيشون فى القاهرة، وكانت مفتوحة لكل المصريين.
ولكن الابن «دوناتو» والد «بيترو» كان له اهتمام آخر، حيث ورث عن جده مهنة الزراعة، ولكن ليست الزراعة التقليدية، بل زراعة الزهور وبيعها فى متاجر بوسط القاهرة، ولكن تبدل العصر، ومرت الجاليات الأجنبية بفترة حالكة فى تاريخها، بعد ثورة يوليو وقرارات التأميم. ويقول «بيترو» إن والده طاله التأميم، حيث «وضعت الدولة يدها على 100 فدان كان يملكها ويزرعها بأجود أنواع الزهور».
دفع التأميم الجاليات الأجنبية لترك العاصمة المصرية والرحيل نحو أوروبا، بعدما شعروا بالخوف على مستقبلهم ومستقبل أولادهم، ولم يتبق سوى القليلين ومنهم والده الذى رفض الرحيل وتمسك بالقاهرة التى تعلق قلبه بها.
لم ييأس الوالد بعد تأميم أرضه ومحاله، وشارك أحد اليونانيين الذين رفضوا أيضاً ترك القاهرة، فى محل زهور فى وسط البلد بشارع قصر النيل، واستأجر قطعة أرض من أحد الفلاحين، وبدأ فى زراعة الزهور من جديد وبيعها فى محله، حتى لم يستطع اليونانى الاستمرار فى القاهرة فى ظل ما يطرأ عليها من تغيير مع الدولة الجديدة بقيادة الضباط، فترك القاهرة واستحوذ والدى على المحل بالكامل، الذى أصبح واحداً من أشهر محال الزهور فى وسط القاهرة، ومع تطور العمل أصبح هناك أربعة محال، وظل الوالد يعمل حتى تمسك المرض من جسده وتوفى فى الثمانينات.
«بيترو» الذى كان الإيطالى الوحيد الذى تم تجنيده فى الجيش المصرى، درس فى إحدى الجامعات الإيطالية، ولكنه كان دائماً معلقاً بالقاهرة والعرب، حتى إن زملاءه فى الجامعة أسموه بـ«عرفات» نسبة إلى الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات: «كنت باسمع الأغانى العربى لأم كلثوم وعبدالحليم وأعيط.. شعرت بغربة شديدة وماكنتش حاسس أن إيطاليا بلدى تماماً»، وسرعان ما عاد للقاهرة من جديدة وقرر الاستمرار بها وعدم تركها بعدما كان يخالجه شعور دائماً بأن والده ظلمه وظلم أسرته حينما أصر على الاستمرار على العيش فى مصر بعد الظروف الصعبة التى مروا بها بعد التأميم.
ورث «بيترو» عن والده مهنة الزهور ولكن سرعان ما ترك المهنة وأغلق محال والده ليؤسس شركة للتنسيق الحضارى، وهى مهنة مرتبطة أيضاً بمجال الزينة، حيث تختص بتأسيس الحدائق والمشاريع الكبرى فى القرية الذكية والعاصمة الإدارية الجديدة، ومدن كمدينتى، ومشاريع حدائق تمتد بالمليون متر، مواكباً بذلك العصر والطموح الشخصى.
عمل «بيترو» فى التنسيق الحضارى والحدائق جعله متابعاً لتطور معمار القاهرة، وهو يعتبر أن بداية انهيار العمارة فى العاصمة كانت بعد حركة التأميم التى قادها عبدالناصر حيث هرب الخبراء والمهندسون وكبار المعماريين من مصر خوفاً من خطوات أكثر قسوة ضدهم من جانب حكومة الثورة.
ويعتقد «بيترو» أن سوء تخطيط العاصمة وتحويلها لمدينة شديدة المركزية يأتى لها كل صباح 7 و8 ملايين موظف ومواطن، بجانب الهجرة المستمرة من الريف والصعيد للقاهرة، هو السبب فيما آل إليه حالها الآن، مشيراً إلى أنه «قبل بناء كوبرى 6 أكتوبر فى السبعينات كان يستغرق الوقت للذهاب لمحله فى المهندسين، من مصر الجديدة، ساعة ونصف، وكان شارع رمسيس يمثل أزمة، ومن الممكن أن تقبع داخله لمدة ساعة ونصف».
ويرى «بيترو» أنه مع «السادات» جاءت فكرة بناء مدن جديدة كالعاشر من رمضان ومدينة السادات وما حولها، ولكن للأسف هذا لم يتزامن مع بناء خطوط طرق وبنية تحتية لتلك المدن تناسب المستقبل، وبالتالى أصبحت بلا جدوى، معتبراً أن «الأنظمة المتعاقبة على مصر من بعد الحقبة الملكية ظلت تستنزف من ميراث تلك الحقبة على جميع المستويات حتى وصلنا لما نحن فيه الآن».
الرجل الذى يشارك وأولاده فى تصميم وتأسيس حدائق العاصمة الإدارية الجديدة، يقول إن القاهرة القديمة التى تظهر جلية فى عمارة وسط البلد كانت تمثل الذوق اليونانى والإيطالى على وجه الخصوص، ولكن الآن تسيطر «الأمركة»، على حد تعبيره، على ذوق العمارة المصرية، من «كومباوندات» وعمارات زجاجية، وهو «ذوق محدث» ويظهر جلياً فى القاهرة الجديدة والتجمع، وفى الوطن العربى فى دبى وعواصم عربية أخرى، وهو ذوق لا يمتلك حضارة ولا فناً، فهو ذوق عمره 100 عام فقط، استبدلناه بعمارة وذوق وفن عمره آلاف السنين.
ويقارن الحفيد «بيترو» الذى شارف على العقد السابع بين بناء «التجمع»، و«مصر الجديدة» التى أنشأها «البارون»، مشيراً إلى أن مصر الجديدة تم إنشاؤها بتخطيط سليم مائة فى المائة، ولكن التجمع نشأ بفكر سليم ولكن تنفيذه لم يكن على القدر المطلوب، وهذا ما نتج عنه إغراق السيول للمنطقة بالشكل التى تابعناه قبل عدة شهور مع هطول الأمطار فى الوقت التى لم تتأثر فيه مصر الجديدة ولم يغرق شارع واحد بها، متوقعاً ألا يتكرر ذلك مع العاصمة الإدارية الجديدة التى يتم فيها التخطيط والتنفيذ بشكل سليم، حسب قوله.
حديقة الأندلس التى رسمها جده
«بيترو» مع أبناء الجالية الإيطالية فى مصر وهو فى سن الشباب