الحياكة والجاسوسية.. رسائل وشفرات بإبرتي الـ"تريكو"
في إحدى نوافذ، تجلس الجدة البلجيكية، تشاهد القطارات المارة أمامها، بينما تحيك بإبراتي "التريكوه"، غرزا ناتئة، ثم يمر قطارا آخر فتسقط غرزة، مما يحدث ثقبا في النسيج، تراقب بعينها حركة المارة، قبل أن يأتي جندي أسفل النافذة تسلمه القماشة التي انتهت منها، فهي إحدى فدائيات المقاومة البليجكية.
في الحرب العالمية الأولى، سواء كانت النساء يحكن الشفرات في النسيج أم أن الجيوش كانت تستعين بالنموذج النمطي للنساء العاملات في الحياكة كغطاء لجواسيسها، فهناك تاريخ بين الحياكة والجاسوسية، وفقا لما جاء في كتاب "دليل للشيفرات والإشارات"، الذي نشر عام 1942: "خلال زمن الحرب، حيثما وجدت النساء العاملات في الحياكة كان غالبا يوجد جواسيس، عيون تراقب بحذر من بين إبرتي الحياكة".
ووفقا للكتاب: "عرف عن الجواسيس أنهم كانوا يخفون رسائل مشفرة بواسطة حياكة النسيج والتطريز وجدولة السجاد إلخ، عندما كان العاملون يستخدمون الحياكة من أجل تشفير الرسائل، كانت هذه الرسائل غالبا على شكل (ستيغنوغرافيا)، وتعرف هذه الطريقة لإخفاء الرسائل فيزيائيا، التي تتضمن على سبيل المثال إخفاء شفرة مورس في مكان ما على بطاقة بريد، أو تمويه صورة داخل صورة بطريقة رقمية.
كان يتم إعداد الشفرات في كل ثوب محيك من توليفة مختلفة من غرزتين اثنتين: غرزة الحياكة التي تكون سلسة وتشبه شكل حرف الـV وغرزة الغزل التي تشبه خطا أفقيا أو نتوءا صغيرا، ومنها يتم إعداد توليفات معينة في نمط حياكة معد مسبقا، ويستطيع الجواسيس تبادل قطع النسيج وقراءة ما تحتويه من رسالة مشفرة مدفونة بين خيوط وشاح أو قبعة بشكل عادي لا يثير أي شبهة".
"فيليس لاتور دويل"، عميلة سرية لدى الحكومة البريطانية خلال الحرب العاملية الثانية، قضت سنوات الحرب تهرب المعلومات القيمة للبريطانيين باستخدام الحياكة كغطاء، قفزت بالمظلة من طائرة سلاح الجو الملكي ونزلت في جبهة النورماندي المحتلة في سنة 1944، تحكي وتتحدث مع الجنود الألمان كامرأة عادية تحاول المساعدة، ثم تعود لمعدات الحياكة خاصتها حيث كانت تخفي خيطا حريريا جاهزا ليتم ملؤه برسائل سرية محيكة، التي ستعمل لاحقا على ترجمتها باستخدام معدات شيفرة مورس.
"كنت أحمل معي عدة الحياكة لأن شيفراتي كانت مخبأة ضمن قطعة من الحرير، وعندما كنت أستعمل شفرة ما كنت أعلمها من خلال إحداث وخزة فيها بواسطة إبرة للإشارة على أنها تم إرسالها"، روت "فيليس" لشبكة أخبار جيش نيوزيلندا عام 2009، وتابعت: "كنت ألف قطعة الحرير حول إبرة الحياكة وأدخلها داخل شريط الدانتيل الذي كنت أرتديه في شعري".
في عام 1918، نشرت مجلة "بيرسونز" البريطانية، مقالا تحدث عن حياكة الألمان سترات كاملة من أجل إرسال الرسائل المخفية لجواسيسهم، وهو الأمر الذي قد يكون مبالغا فيه نوعا ما، حيث علقت "لوسي أدلينجتون"، في كتابها بعنوان "غرزات في الزمن"، "عندما كانت السلطات الألمانية، لدى استلامها لهذه السترات، تقوم بفك وحل هذه السترات بعناية شديدة، كانت تجد أن النسيج الصوفي كان منقطا بالعديد من العقد، ومن خلال تعليم الإطار العمودي لباب من الأبواب بحروف الأبجدية مع مسافة فاصلة بين كل حرفين تقدر بإنش واحد، كان بإمكانهم فك شفرة العقد وترجمتها إلى كلمات من خلال قياس الغزل بهذه الحروف وتحديد الحروف التي لمستها العقد.
ووصف المقال هذه الطريقة بـ"الآمنة ومن غير الممكن كشفها"، حيث كانت الحياكة وأعمال النسيج اليدوية شائعة، لذلك كان يتم تشجيع النساء على حياكة الجوارب والقبعات والملابس للجنود خلال العديد من الحروب والصراعات، مثل الحرب الأهلية الأمريكية والحربين العالميتين.
وفي كتاب "كتابة الشيفرات السرية وإرسال الرسائل المخفية"، لـ"جيل دوبيني براندرث" و"بيتر ستيفنسن"، أشير إلى أنه بعد اختراع شفرة مورس، أدرك الجميع بعد فترة وجيزة بأن الحياكة والغزل تناسبانها تماما، وأن عقدة أنشوطة عادية بإمكانها أن تحل محل النقطة وأن عقدة بشكل رقم ثمانية 8 بإمكانها أن تحل محل الفاصلة الخطية القصيرة.
جلست الفرنسية "مادام ديفارج"، تحيك بكل برودة بين الحضور والجماهير، التي أتت لمشاهدة حكم الإعدام بالمقصلة وهو ينفذ في النبلاء الفرنسيين، لكنها كانت تعد بحماسة سلسلة من الغرز لشفرة أسماء النبلاء، الذين سيتم إعدامهم لاحقا، في أحداث رواية "Tale of Two Cities" الشهيرة، ليكون أشهر مثال لحياكة الرسائل السرية والشفرات في النسيج وجد في إحدى قصص الخيال القديمة.
تعليقات الفيسبوك