«الرهبنة».. ابتكرها المصريون وأهدوها للعالم فى القرن الثالث الميلادى
الرهبنة أسسها «أنطونيوس» ونظّم شئونها «باخوميوس».. وأول دير قبطى أُنشئ عام 323 ميلادية
«الرهبنة القبطية عرفها العالم من الكنيسة المصرية، وظهرت منذ القرن الثالث الميلادى لتمتد إلى العالم كله. وفلسفة الرهبنة هى «الموت عن العالم»، ولذا تم تسميتها بـ«رهبنة الكفن»، وهى رغبة الإنسان باختياره ومحض إرادته للجوء للدير، وبعد اختباره وإرشاده لسنوات يُقبَل فى شركة الدير الذى يصلى عليه صلاة جنائزية بعد أن يغطى بستر يُعتبر بمثابة «كفن»، ويعيش بعد ذلك بالنذور الرهبانية التى تشمل الانعزال عن العالم والفقر الاختيارى وحياة الطاعة والتبتل الطوعى، لكى تكون حياته نقية. والرهبنة تُعتبر الزاد الحقيقى لخدمة الكنيسة وعملها فى كل مكان».
هكذا شرح البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، الرهبنة القبطية فى الديباجة التى كتبها لقانون الرهبنة القبطية الجديد الصادر فى 2013، فالرهبنة القبطية ظهرت فى مصر، وانتشرت فى كل أنحاء العالم، والرهبان هم مجموعة من النساك الذين بحثوا عن «الخلاص» بالمفهوم المسيحى، فى دروب الصحراء وأطراف المدن، انعزلوا عن الناس بمحض إرادتهم، مكرّسين حياتهم للصلاة، مستمدين فكرهم، بحسب القمص أثناسيوس فهمى جورج، فى كتاب «التربية عند آباء البرية»، من أقوال السيد المسيح وتلاميذه، فلم تكن الرهبنة نوعاً جديداً من المسيحية، بل نبعت من حياة الكنيسة.
ويشير «فهمى» إلى أن الأنبا أنطونيوس هو أوّل شخصية مؤثرة وهامة فى الرهبنة الأولى، ويُعتبر «أبوالرهبنة»، رغم أنه لم يكن الأوّل فى ذلك المجال، فقد سبقه آخرون فى حياة الرهبنة وعاشوا على حدود قرى مصر، ومنهم أخذ القديس أنطونيوس إرشاده، ولكن هؤلاء الرهبان لم يعرفوا البرية البعيدة، أما الأنبا أنطونيوس فقد دخل إلى «البرية» وعاش عشرين عاماً من حياة الوحدة، ليخرج بعد ذلك ويقوم بإرشاد الرهبان الذين عاشوا متتلمذين له ملتفّين حوله، فنشأت الأديرة حتى فى الجبال، وصارت البرية مدينة مليئة بالرهبان الذين تركوا مدنهم.
الأنبا مكاريوس: عدد ممارسيها وقت الفتح العربى كان 70 ألفاً.. ووصلوا إلى 150 ألفاً بداية القرن الـ20 قبل ازدهارها فى عهد «شنودة»
والأنبا أنطونيوس وُلد فى بلدة قمن العروس، التابعة لبنى سويف، نحو عام 251، من والدين غنيين، وبعد موت والده باع أملاكه ووزعها على الفقراء وتفرغ للعبادة بزهد عام 269، حينما ظهر له ملاك يدعوه إلى ذلك -بحسب المراجع الكنسية- قبل أن يذهب إلى الصحراء متوحداً عام 285، حينما نهرته فتيات وطالبنه بالذهاب إلى الصحراء -حسب المراجع الكنسية- وكسر خلوته عام 305 لتعليم تلاميذه الرهبنة.
أما الخطوة التالية نحو تنظيم أفضل للرهبنة، فقد قام بها القديس باخوميوس، المعروف بـ«أبوالشركة» (292-346)، الذى أنشأ أول أديرته فى عام 323، وعند وفاته كان أسس تسعة أديرة للرهبان، وديرين للراهبات، وكان إجمالى عدد هؤلاء الرهبان والراهبات نحو عشرة آلاف، كما يُعد الأنبا باخوميوس هو أول مشرّع رهبانى. وكانت الفكرة لديه هى أن يضع قانون جهاد روحى مشترك يستطيع جميع الرهبان أن يُتمموه ويُبلّغوه، ثم يُشجعهم بعد ذلك أن يرتقوا فى جهاداتهم لمقامات أعلى، كل بحسب اشتياقاته وقدراته، ثم جاء الأنبا شنودة، رئيس المتوحدين (348-466) الذى يُعد أهم شخصية فى الرهبنة القبطية، وكان مُشرِّعاً شهيراً وكاتباً معروفاً باللغة القبطية. وفى قانونه اختلف عن باخوميوس، وتحدّث عن نذر رهبانى مكتوب يوقّعه الرهبان، وبعده ظهر باسيليوس الكبير (330-379) المعروف بـ«أبوالرهبنة الشرقية»، وقدّم فكرة الأديرة الصغيرة التى يضم كل منها ما بين ثلاثين إلى أربعين راهباً، وأكد على الاهتمام بالتعليم والثقافة، لتنتشر بعد ذلك الحركة الرهبانية فى الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط، ولتصبح الرهبنة قوّة فعّالة تستخدمها الكنيسة فى مواجهة الهراطقة والوثنيين، بحسب القمص أثناسيوس. أما الأنبا مكاريوس، الأسقف العام للمنيا وأبوقرقاص، فيقول فى كتابه: «لماذا يُقبل شباب الأقباط على الرهبنة»، إن الرهبنة جاءت بديلاً عن شهوة الاستشهاد التى كانت تتملّك كل إنسان تقى يعرف المسيح، مشيراً إلى أن الرهبنة «هى استشهاد يومى بدون سفك دم، وهذا ما كان آباء الرهبنة يريدون أن يقدموه فى بداية خوضهم فى هذا الطريق».
وأضاف الأنبا مكاريوس أن عدد رهبان وراهبات الكنيسة القبطية وصل فى تسعينات القرن الماضى إلى ما يقارب 1500 راهب وراهبة، بمن فى ذلك الرهبان والراهبات الذين يعيشون فى أديرة خارج مصر، مشيراً إلى تناقص عدد الرهبان على مدى القرون الماضية بسبب العوامل التى تعرضت لها البلاد، لافتاً إلى أنه -بحسب بعض الكتابات- كان يعيش فى مصر، وقت الفتح العربى، نحو 70 ألف راهب، قائلاً: «بدأ عدد الرهبان فى الهبوط منذ غزو الفرس وهدم الأديرة وسوء الأحوال فى البلاد بسبب الاضطرابات السياسية حتى تخرّب أكثر الأديرة وهجرها سكانها، باستثناء ما يقارب عدد الأصابع، ثم تحسنت الأحوال قليلاً خلال القرنين الحادى عشر والثانى عشر، ثم ما لبثت أن مُنيت الرهبنة بنكسة، حتى وصل عدد الرهبان فى العصور المظلمة، ما بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر، إلى عدة عشرات فى كل الكنيسة، ثم عادت الحياة لتدب من جديد منذ أيام البابا كيرلس الرابع أبى الإصلاح، حتى وصل عددهم فى بداية القرن العشرين نحو مائة وخمسين راهباً فى منطقة وادى النطرون، ثم شهدت الرهبنة القبطية أخيراً نهضة كبيرة فى أيام البابا كيرلس السادس وازدهرت فى أيام البابا شنودة».
«يوحنا الأول» أول «ابن للبرية» يصبح بطريركاً عام 496 ميلادية.. وأديرة «المتبتلات» تسمى «بيوت العذارى».. والبابا السابق قصرها على خريجى المؤهلات العليا
ويبلغ عدد رهبان وراهبات الكنيسة القبطية حالياً ما يزيد على 3 آلاف، واللافت فى التاريخ الكنسى أن فكرة الرهبنة تقوم على العزلة والموت عن العالم، إلا أنه بمرور الوقت أصبحت الأديرة والرهبان هم المسئولين عن إدارة الكنيسة ليتولوا مناصب الأساقفة والمطارنة وصولاً إلى البابا البطريرك.
وكان أول راهب يصير بطريركاً هو البابا يوحنا الأول، البطريرك 29 فى تاريخ الكنيسة، وذلك عام 496 ميلادياً، قبل أن يصبح من المستقر منذ البابا إسحق، البطريرك 41 للكنيسة، فى عام 690 ميلادياً، أن يكون الرهبان هم بابوات الكنيسة، باستثناء حالات قليلة.
أما عن أديرة الراهبات، فيشير الدكتور القس باسيليوس صبحى، وكيل الكلية الإكليريكية للأقباط الأرثوذكس، لـ«الوطن»، إلى أنها بدأت منذ القرن الرابع الميلادى، وكان يطلق عليها «بيوت العذارى»، حتى إن التاريخ الكنسى يذكر إدخال الأنبا أنطونيوس مؤسس الرهبنة، شقيقته إلى بيت العذارى فى الإسكندرية قبل رهبنته، وأن الأنبا باخوميوس المعروف بـ«أبوالشركة» وضع تنظيماً لتلك البيوت، وكانت تلك البيوت توجد على أطراف المدن، نظراً لأن ساكنيها من الفتيات ولا يتم إنشاؤها فى الصحراء كأديرة الرهبان.
ويلفت «باسيليوس» إلى أن طفرة دخلت على الأديرة والرهبنة فى نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضى، وذلك بدخول حمَلة المؤهلات العليا وخريجى الجامعة إلى الرهبنة القبطية، حتى تطور الأمر وصار شرطاً فى طالب الرهبنة أن يكون حاصلاً على مؤهل عالٍ فى عهد البابا الراحل شنودة الثالث.
وعن دخول الكهنوت على الرهبنة، يوضح وكيل الكلية الإكليريكية، أن الأصل كان الرهبنة والموت عن العالم، وأن درجة الكهنوت كانت تُمنح إلى راهب أو اثنين حسب الاحتياج إلى خدماتهما، ولا تُمنح إلى جميع الرهبان.