مصابو "محمد محمود" يفتحون صندوق الأوجاع: فقأ العيون وبقر البطون أبرز عناوين الحدوتة
"أعيش كفيفًا مرفوع الرأس وبكرامة، أفضل من أن أعيش مُبصرًا مكسور العين". كلمات خرجت صادقة من أحمد حرارة، الذي فقد عينيه، واحدة منهما في اشتباكات محمد محمود. إصابات كثيرة، رصاصات اخترقت البطون، وأعيرة خرطوش فقأت العيون، ورئة لا تقوى على جذب الأكسجين. أبطال خلد "الشارع" ذكراهم، يفتحون مع "الوطن" ذكرياتهم الأليمة.. معركة حرية وكرامة، خرجوا منها برأس مرفوعة.
رضا عبد العزيز (20 عامًا)، أحد أبطال شارع "عيون الحرية". فقد عينين، اليسرى نتيجة الإصابة، واليمنى لخطأ طبي أثناء علاج اليسرى. حكايته بدأت مع أول أيام الصراع بين المتظاهرين وقوات الأمن، حيث يروي أن قدميه وطأتا شارع محمد محمود للمشاركة في الدفاع عن مصابي الثورة، الذين فرقهم الأمن وفض اعتصامهم أمام مجمع التحرير صباح 19 نوفمبر. "الشباب كلهم قرروا ينزلوا الميدان، ويدافعوا عن حقوق أهالي الشهداء والمصابين اللي انضربوا، رغم إنهم مش قادرين حتى يتحركوا".
إصابة رضا كانت في اليوم الذي أسماه بـ"قنص العيون". يقول إنه كان يشارك زملاءه إسعاف المصابين ونقلهم للمستشفى الميداني: "كنت رايح أشيل واحد من الشهداء اللي وقعوا على الأرض، ولسه برفع وشي عشان أشاور لحد ييجي يشيله معايا، لقيت طلقة في عيني، وكانت دي آخر لحظة أشوف فيها النور".
لم يفقد الشاب العشريني الأمل، وقرر أن يناضل مع غيره لاستكمال طريق الثورة: "لحد دلوقتي مفيش حاجة اتحققت من اللي طالبنا بيه، وزي ما قامت موجتين من الثورة، ممكن تقوم موجة ثالثة، لو اللي بيحكمونا دلوقتي ماصانوش الثورة وحققوا أهدافها".
رحلة علاجه بدأت مع مستشفى الدمرداش، التي انتقل إليها فور إصابته. أجرى عملية جراحية في عينيه، وبدلا من أن يرى بصيصا من النور، تحولت حياته إلى ظلام دامس. "الإصابة اللي حصلت لي ضيعت عيني الشمال كلها، لكن اليمين كانت سليمة، وكان ممكن يتعمل زرع نني صناعي وأرجع أشوف بيها، لكن الناس في المستشفى صفُّوهالي خالص، وعينيّا الاتنين راحوا". سفره إلى ألمانيا لم يغير من الأمر شيئا. خضع لجراحة بمستشفى "فرانكفورت" وأجرى له الطبيب عملية لوقف النزيف الحاد بالمخ، لكنه عاد إلى مصر فاقدا لكل معاني الحياة كما رحل: "في اللحظة دي حسيت خلاص إني هعيش طول عمري كفيف".
غادة المصري (30 عامًا)، عملت كمراسلة من ميدان التحرير لنقل وقائع أحداث محمد محمود بداية من 19 سبتمبر. "رُحت ميدان التحرير لما عرفت إن الجيش والشرطة حرقوا الخيام". ذهبت غادة لتفقد الأوضاع داخل الميدان، وأكدت أن الشباب كان كل همهم أن يظل التحرير تحت سيطرتهم لمنع فض الاعتصام: "الشباب كانوا واقفين أكثر من 30 صف أمام قوات الأمن، ولو أي حد اتصاب من الصفوف الأولى ييجي مكانه غيره". أغلب الاصابات كانت من الغاز والخرطوش حسب غادة، التي أصابها هي الأخرى الغاز السام، كما وصفه لها الدكتور أحمد معتز، طبيب المستشفى الميداني، وأكد أنه يحتوى نسبة 1% من اليورانيوم، ما يسبب سرطان الجلد على فترات طويلة، لذا يجب أن تقوم غادة بالتحاليل اللازمة. لم تشعر بتأثير الغاز إلا عندما استيقظت صباح يوم، لتجد صعوبة بالغة في التنفس، والكلام يخرج من فمها بصعوبة.
توجهت غادة إلى مستشفى قصر العيني، الذي طلب منها أطباؤه تحاليل كثيرة، نظرًا لخروج إفرازات صفراء وسوداء من الفم مع الدماء، فشعرت بخطورة الإصابة وصحة حديث الدكتور معتز.
أثبتت التحاليل إصابة غادة بتسمم في الدم نتيجة استنشاقها كميات هائلة من الغاز، وهو ما أدى بدوره إلى موت ملايين من الخلايا المستقبلة للأكسجين بالرئة، ما جعلها تواجه مشاكل عديدة في التنفس والحركة. "بعض الشباب بعد تعرضهم للغاز كان جلدهم بيتحول لونه للأسود وكأنه محروق". تؤكد غادة أن الغاز مختلف تمامًا عن أي غاز استُخدم من قبل.
منتصر غنيم (38 عامًا)، أحد ثوار التحرير يوم الأحد 20 نوفمبر، فُقأت عينه اليمنى بالخرطوش. يروي منتصر أن "الداخلية كانت بتضرب نار علينا، وإحنا بنرد بالطوب، وفجأة لقيت طلقة خرطوش اتضربت عليا ودخلت في عيني اليمين. شالوني زمايلي ودخلوني في عربية الإسعاف، واتنقلت لمستشفى قصر العيني".
يقول غنيم إن نزوله إلى محمد محمود منذ عامين كان لاستكمال أهداف الثورة، العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ولم تمنعه عينه التي فقدها من ذلك: "كنت فاكر إن كل الناس اللي ماتت واتصابت هيكون ليها ثمن والدنيا هتتغير، ودلوقتي حاسس إن الثورة ماتت، لكن لو قامت ثورة تاني هشارك فيها".
تم احتجاز منتصر بالمستشفى فور وصوله ولمدة 10 أيام، وأجرى له الأطباء عملية تغيير عدسة لعينه اليمنى لإيقاف نزيف الشبكية، إلا أن الجراحة تسببت في تجمع مياه بيضاء حول العين، ليأتي دور الدولة تجاهه: "الدولة ما دفعتليش غير 5000 جنيه من صندوق رعاية المصابين اللي عملوه، وبعد كده محدش سأل فيا. كان لازم أعمل عملية تانية، ودخلت المستشفى على حساب واحدة اسمها الحاجة زينب، دفعت لي أكتر من اللي دفعه المسؤولين".
رغم استمرار رحلة الشاب الثلاثيني مع العمليات لأكثر من 5 شهور، لم يكن ثمة تحسن في عينه التي أصابها خرطوش الأمن المركزي. "عيني اليمين مابتشوفش أي حاجة إلا الضوء، وبمجرد ما أخرج من أي عملية بعملها مفيش كام يوم وألاقيها رجعت أسوأ من اللي كانت عليه، يعني لو غمضت عيني الشمال هبقى مابشوفش خالص".
غاية ما يتمناه منتصر الأب لبنتين، أن توفر له الدولة شقة يسكن فيها دون أن يستقطع ثلثي راتبه في دفع إيجار شقته: "أنا بشتغل في السكة الحديد وبقبض 750 جنيه، بدفع منهم 500 إيجار، والباقي بصرفهم أكل وشرب ومصاريف مدارس".
محمد أبو بكر (20 عامًا)، الذي أصيب برصاص حي في البطن وخرطوش في الصدر، وتجمع مياه على الرئة، كان في طريقه إلى مدرسته الصناعية أمام وزارة الداخلية في محيط محمد محمود، وعندما وجد الصراع قائمًا بين الداخلية والشباب الثوري بدأ في التفاعل معهم.
أصيب أبو بكر صباحًا بالطلق الناري ثم الخرطوش، وانتقل فورًا إلى المستشفى الميداني بالتحرير، ومنه إلى قصر العيني. بدأت رحلته مع العلاج بعملية جراحية لشفط الدم، ثم أكد له الدكتور أنه سيكون على ما يرام. أجرى عملية أخرى "استكشافية" للتأكد من سلامة الكلى والكبد، احتاج الأطباء خلالها إلى إجراء فتحة طولية في بطنه، وخرج بعدها بستة أيام فقط من قصر العيني، رغم أنه عانى الضغط والسكر من أثر الإصابة.
مياه على الرئة خلفتها له رصاصة البطن، و16 ألف جنيه مصاريف علاج لم تتكفل بها الدولة، بل فاعلة خير صممت على علاج المصابين: "اتحجزت في قصر العيني الفرنساوي عشان جتلي مياه على الرئة من الإصابة، وواحدة اسهما هبة السويدي كتَّر خيرها دفعتلي مصاريف العلاج".
لا يزال أبو بكر يعاني من بقايا المياه على الرئة والقلب، كما يعاني من الضغط وضيق التنفس، ورغم ذلك يكرر كثيرًا جملة "الحمد لله"، فقد حصل على وظيفة بالتأمينات كتعويض بسيط من الدولة على إصابته بـ"شارع العيون". يصمم أبو بكر على استكمال أهداف الثورة، ويؤكد أنه لن ينزل للشارع من أجل التخريب.