هنا ميدان عابدين .. إفطار وغناء وثورة وسياسة
بين نسمات ليل رمضان، وتحت أضواء الكشافات الكهربائية المبهرة، انصهرت فئات المجتمع المثقف والشعبى فى قالب واحد.. تقاربت المسافات وزالت الفوارق على بقعة مكانية واحدة، وعبر الرسائل السياسية والفنية والاجتماعية، احتضنت منطقة «عابدين» كرنفال «الفن ميدان».. فى الساحة الفضاء بين ديوان عام محافظة القاهرة وقصر عابدين الرئاسى؛ حيث تعقد حلقات نقاشية وجلسات سمر جانبية وأنشطة سياسية وفنية، فى إطار تنوع الحضور بين الشباب والمسنين.
الغناء والرقص ليسا فقط الهدف الأصيل من تنظيم «الأمسية» الشهرية فى أول سبت من كل شهر بالمكان ذاته؛ فالأغراض تتجاوز وسيلة قضاء وقت ممتع، إلى اهتمام الحاضرين بمخاطبة المجتمع برسائل بناءة -كل يقدمها وفقا لوسيلته التى يجيدها- شعر وغناء وحكايات ومواهب داخل السرادق المنصوب فى المقدمة، فى سماء ليل الصيف.. قدم المسرح المكشوف المطل على كل الموجودين موسيقى وأغانى ثورية «سهارى وإسكندريللا وصلاح الدالى» -فرق موسيقية شاركت المتفرجين أغانيها التى غلب عليها الطابع الثورى- ومراعاة لاختلاف الأذواق فاللون الشعبى لم يخل منه الحفل، على طريقتهم الخاصة غنى عمرو حاحا وفيجو والسادات وفيفتى -فنانو الراب الشعبى- وصلة غنائية فى نهاية «الأمسية»، فنانو الراب وجدوا هواتهم وانتظروا معهم حتى النهاية.
«لا للتحرش» لافتات وضعها منظمو الاحتفال لتحذير الشباب المشارك «يا ويله يا ظلام ليله.. هيشوف اللى ما شافهوش فى حياته اللى هيتحرش بحد هنا»، قالتها «سمية عامر» -إحدى مُنظمات الحفل- مؤكدة أنهم يستخدمون لافتات التحذير من أول فعالية لهم فى أبريل 2011، يقول صلاح عبدالمنعم -من المنظمين-: إن حملة مناهضة التحرش لديها مواقع وصفحات على النت والفيس بوك تفضح بها المتحرش «بتنشر صوره ويسيحوله».
يرفض منظمو «الأمسية» تسليم المتحرش إلى أقسام الشرطة، وفى حالة حدوثها تقول «سمية»: «تسليمه للداخلية ده شغل مخبرين وكلنا ضده.. وإحنا بقالنا ساعة النور قاطع وضلمة وما حصلش حاجة»، وتوضح الفنانة التشكيلية أن أهالى عابدين يشاركونهم الحفل بالبيع والتنظيم والأمن: «النهارده فيه ناس جابت أكل وعصير وجت فطرت معانا وهم مرحبين بينا».
الكهرباء لم تترك الحضور يهنأون بفقرات الحفل؛ فالتيار انقطع عن المنطقة حوالى ساعة، تحت أضواء النجوم ظل «ميدان عابدين» يغمره الحاضرون، والفعاليات مستمرة، أما المسرح المكشوف فكان مضيئا بتيار مولد مستقل، حول ساحة الاحتفال يضع البائعون بضاعتهم على «ترابيزات» خشبية، «طارق» -بائع ملابس أطفال- يقول: «كل بياع مأجر الترابيزة بـ100 جنيه من الإدارة».. الأسر الموجودة فى الحفل كثير منها فضل التعامل معه بمنطق «الترفيه»، جلسوا على نباتات المنطقة الخضراء المقابلة لمحافظة القاهرة، ومشاهدة ما يدور فى الحفل من بعيد، وسط المواطنين سيدات منتقبات يتجولن بين الناس.. يستمعن للأغانى مع الباقين: «أنا جاية أنبسط»، وأرجعت ارتداءها النقاب إلى أنه شىء شخصى لا علاقة له بالدين أو التقاليد.
بجانب أحد الأرصفة، أربعة أعلام حمراء مرفوعة ترفرف على أضواء أشعة ضوء قادم من بعيد، حركة الاشتراكيين الثوريين، وجدت فى «الفن ميدان» بعدد 100 فرد منتشرين فى أرجاء المكان.. لنشر فكرهم وتعريف الناس بأهداف الحركة -حسب قول تامر فوزى، عضو الحركة- معللا: «إحنا بنحرص على الوجود فى كل الحفلات والميادين ولو بأعداد بسيطة لامتداد الزخم الثورى»، الشاب الثلاثينى، يوضح أن مشاركتهم سياسية فقط، ويؤكد أن الأمسية تقام فى أكثر من محافظة بالتزامن مع القاهرة فى وقت واحد، وأن التيار الاشتراكى حريص على عدم تفويت الفرصة للوجود فى كل الميادين قدر المستطاع.
على صوت الطبلة والرق والدف، يعلو التصفيق والغناء فى منتصف ساحة «ميدان عابدين»، حب الاستطلاع يدفع الحاضرين للاقتراب، يجدون فرقة شباب الثورة تتغنى بأغنيات الثورة المنقولة من ميدان التحرير، الفرقة تابعة لائتلاف شباب الثورة.. عددهم يتجاوز 200 عضو -كما قال محمود خاطر عضو الفرقة- مضيفا: لما بيدعونا بنروح أى مكان: «نزلنا العباسية.. كانت الثورة سلمية، والفنجرى بعد التحية، وغنى يا سمسمية».. أغانى من تأليف الفرقة يطلقونها على مسامع المشاركين فى الحفل.
كامل حسين -غواص- يلخص الهدف من وجود الفرقة بكلمة واحدة هى «الحرية»، مؤكدا أن بينهم أعضاء فى الألتراس و«فريدوم»، جاءوا للتعبير عن التمسك بدماء إخوانهم الشهداء من بداية الثورة وحتى الآن، الشاب العشرينى يشيد بترحيب أبناء «عابدين» ومشاركتهم فى فاعلياتهم بين أرجاء «الأمسية».
مترجلا فى صمت.. يتفقد الحضور، الدكتور مدحت منصور -طبيب أطفال، من طنطا- جاء خصيصا لحضور الأمسية، يقول: «أنا شاركت الشهر اللى فات وحسيت فيه لمسة تجديد فنية، ولقيت حاجات كتير نابعة من البيئة»، الطبيب الخمسينى تعرف على «الفن ميدان» من الفيس بوك.. فقرر تجربة المشاركة فى الشهر الماضى: «المرة اللى فاتت كنت متفرج بس.. أما الحفلة دى فشاركت مع الأراجوز».
«مدحت» يأتى من طنطا ويعود فى نفس اليوم، تقييمه للحفل أنه مناسب جدا؛ لأنه يفرغ جزءا من الكبت والإحباط فى الفن، قائلا: «ده فى حد ذاته جميل.. واللى موجود فى الفن ميدان بيعبر عن حالنا دلوقتى فى الفترة الآنية»، معبرا عن سعادته بلقاء كثير من المثقفين وصفوة المجتمع، ممن جاءوا لجعل الفعالية متكاملة ومتنوعة.