مصطفى رحومة يكتب: «يهوذا» فى «برارى النُساك».. الحقائق والمغالطات
مصطفى رحومة
(1)
فى ليلة ظلماء، من ليالى يوليو الحارة، غاب النور فسكن الشيطان الصدور والعقول، قبل أن يكسر سكون الجدران الأثرية صوت ارتطام عمود حديدى، برأس شيخٍ هرمٍ، وفيما كتم توالى الضربات عليها ثلاثاً تأوهاته سقط مضرجاً فى دمائه التى روت أرضاً عمّرها قبله الزاهدون والنساك منذ القرن الرابع الميلادى، وشيدوا عليها الأسوار والحصون التى عرفت بـ«دير القديس مكاريوس الكبير».
جاء صباح الأحد، الكنيسة مكتظة بـ«نُساك البرارى»، التسابيح تدوى فى جنباتها، والألحان تصدح، ووسط تلك اللوحة الإيمانية، قطعت صرخات الراهب جبرييل مسئول الألحان بالدير، استكمال الصلوات: «جثة عند البلوك 4»، الصدمة ألجمت الألسنة، هناك يسكن رئيس الدير، وطريق «جبرييل» المختصر للوصول إلى الكنيسة الأثرية، هو خط سير «الأنبا إبيفانيوس».. هرول الجميع ليجدوا الأسقف ملقى على وجهه، الرأس مهشم تماماً، والمخ خارج الجمجمة، حملوه وأسرعوا إلى العيادة إلا أن الأسقف الذى قضى عمره منذ التحق فى الدير عام 1984 بين المخطوطات والمراجع والكتب، كان قد فارق الحياة.
الحدث جلل، «جريمة داخل الدير»، واقعة لم تشهد مثلها الكنيسة القبطية التى تضرب بجذورها فى التاريخ، هاتف أمين الدير البابا تواضروس الذى كان موجوداً تلك الليلة بالقرب منهم فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون، أخبره بما حدث، فتملك الحزن والغضب البابا الذى طالب الدير بالاتصال بجهات التحقيق الرسمية.
(2)
فى تلك الأثناء كان القتلة الذين بيتوا النية على ارتكاب جريمتهم النكراء، وحاولوا تنفيذها من قبل مرتين ولم يفلحوا، يندسون بين الرهبان، يمصمصون الشفاه ويذرفون الدمع على الأسقف الوديع، وشاركوا فى صلوات تجنيزه، ظنوا أن أصابع الاتهام ستتجه لآخرين، وقد يعتبر الحادث عملاً إرهابياً، بعد أن زين لهم الشيطان بأن «زيهم الرهبانى الأسود» الذى ألبسهم إياه البابا الراحل شنودة الثالث فى 2010، منجيهم مما ارتكبت أيديهم.
(3)
أغلقت أبواب الدير، وتولى 60 محققاً من أرفع الأجهزة الأمنية التحقيق، لفك خيوط الجريمة، وبعد الاستماع إلى أقوال 145 راهباً، وكافة عمال الدير، تم استبعاد العمل الإرهابى، وحصر الاشتباه فى عدد من الرهبان لا يتجاوز أصابع اليدين، وكان «أشعياء المقارى»، الذى يعيش فى المزارع خارج الدير، على رأس المشتبه فيهم، لسابق خلافاته مع رئيس الدير الراحل، وسعيه لتكوين جبهة مضادة داخل «أبومقار»، وأنه مهدد بالطرد من الرهبنة، حققوا معه، فكانت أقواله متناقضة، إلا أنهم لم يجدوا أداة الجريمة، فلم توجه له التهمة، لكن وُضع تحت أعين الأمن.
الحدث جلل، «جريمة داخل الدير»، واقعة لم تشهد مثلها الكنيسة القبطية التى تضرب بجذورها فى التاريخ، هاتف أمين الدير البابا تواضروس الذى كان موجوداً تلك الليلة بالقرب منهم فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون، أخبره بما حدث، فتملك الحزن والغضب البابا الذى طالب الدير بالاتصال بجهات التحقيق الرسمية.
(4)
البابا الذى بكى الأسقف الراحل، متحدثاً عن فضائله وكاشفاً عن أنه كان أحد مستشاريه فى قراراته الهامة داخل الكنيسة، أرسل رسائل لرهبان الدير، طالبهم فيها بالوحدة، بعد أن ظهروا فى جنازة «الأنبا إبيفانيوس»، بزيين مختلفين يعكسان استمرار الانقسام، وكان البابا سبق أن طالب الأسقف الراحل قبل رسامته فى 2013، بـ«لم شمل الدير»، بعد الخلافات الفكرية بين متى المسكين، الأب الروحى للدير، والبابا الراحل شنودة الثالث.
(5)
كانت الشائعات تنتشر بين الأقباط كالنار فى الهشيم، تشير بأصابع الاتهام إلى أن الجريمة وقعت نتيجة صراع داخل الكنيسة، حالة استثنائية عاشها الأقباط على مواقع التواصل الاجتماعى، الانقسام واضح وبينهما اتهامات متبادلة، وبين كل هذا كان البابا يعلم أنه ليس لديه وقت للحزن، وعليه أن يتخذ قرارات سريعة لضبط ما طفا على السطح من شوائب داخل الأديرة ليعيدها «الرهبنة القبطية» إلى أصلها، كما تسلمتها الكنيسة فى القرن الثالث الميلادى، وعلمتها للعالم كله، فجاءت قراراته الاثنا عشر، بعد اجتماعه مع لجنة الرهبنة والأديرة بالمجمع المقدس، وخلاله أكد البابا انفتاحه على التحقيق، وأن ليس لدى الكنيسة ما تخفيه، وعلى الجميع التجاوب مع متطلبات التحقيق.
(6)
قناة اتصال مفتوحة بين البابا والأجهزة الأمنية والمسئولين بالدولة، يشيرون إليه بشكوكهم، يتشاور البابا مع لجنة الرهبنة وسكرتير المجمع المقدس، البابا حازم يريد مواجهة الانفلات الذى حدث، التحقيقات تتواصل فى الدير، والتحريات تستمر عن الرهبان المشكوك فيهم، يفضى إلى البابا بما تم كشفه، يصدر قراراً بخط يده، بتجريد «أشعياء» وعودته لاسمه الأصلى «وائل سعد».
(7)
خلية نحل من الأجهزة الأمنية تباشر عملها داخل الدير، فيما كان «فلتاؤس المقارى» يمر بحالة نفسية سيئة قد تكون «وخزات الضمير»، وبعد تجريد صديقه «أشعياء» أقدم على الانتحار، وخشى «أشعياء» كشف جريمته، فأقدم هو الآخر على تناول «مبيد حشرى»، فذهب بـ«فلتاؤس» إلى أحد مستشفيات القاهرة للعلاج، وأخذ «أشعياء» إلى خارج الدير فى أحد المقار الأمنية، وتم تولى التحقيق معه، وتضييق الخناق عليه، وما تم التوصل إليه عن طريق التحريات الأمنية، من خلافاته مع رئيس الدير، واستيلائه على أموال تبرعات تأتى للدير، ليعترف الراهب المجرد بجريمته.
لحساسية القضية، وأطراف الجريمة، تم إبلاغ البابا، الذى كانت عظته يوم الأربعاء الماضى، تمهيداً لإعلان أسماء القتلة.
(8)
«اللهم اكفنى شر أصدقائى أما أعدائى فأنا كفيل بهم»، جملة قالها نابليون بونابرت، أما البابا تواضروس فإنه منذ جلوسه على الكرسى البابوى، يحاول أن يؤكد أنه لا يتعرض لأى مؤامرات، وأن رجال الكنيسة على قلب رجل واحد، وأن ما يحدث خلاف فى الأفكار، وليس صراعاً، إلا أن الأحداث التى شهدتها الكنيسة، تشير إلى أن الكثيرين يحاولون إشعال النيران أسفل كرسيه، يتصيدون أقواله، يضخمون الأحداث، يغذون مواقع تحمل أسماء مسيحية، يرعون «روابط» قبطية، لو بحثت عنهم ستجدهم فى كل أزمة مرت بها الكنيسة، فهم كانوا هناك وراء أزمة «دير وادى الريان»، ويدفعون منتقدى طريقة «صنع الميرون» للتصعيد ضد البابا، ويساندون بعض من أنشأ أديرة خارج سيطرة الكنيسة، ويصعدون من أزمة «التعاليم الخاطئة»، ويتربصون بخطوات البابا للوحدة مع الطوائف المسيحية، خاصة «الفاتيكان».
قال البابا فى عظته الأخيرة، إن «إيمان الكنيسة محمى بصاحب الكنيسة وهو المسيح ولا أحد غيره يحمى الإيمان»، فرفعوا هم راية «حماة الإيمان»، واحتفت بهم قناة «مارمرقس» الناطقة بلسان الكنيسة.
وصف البابا فى عظته تلك، «القاتل» بـ«يهوذا»، ولكن كم «يهوذا» داخل الكنيسة ينتظر الفرصة ليبيع «سيده»؟!».
(9)
بتوجيه النيابة العامة الاتهامات للقتلة، وتحديد أدوارهم، رغم أن التحقيقات ما زالت جارية ولم تغلق حتى الآن، وأن من بين المتهمين «راهب» ما زال «لم يجرد بعد»، وهو «فلتاؤس»، تتعامل الكنيسة معها على كونها «جريمة»، ورفض البابا فيها «الخواطر»، أو «تخويفه» بنغمة المساس بالكنيسة.
نجح البابا فى إدارة تلك الأزمة ولكن عليه الوقوف أمامها بالدراسة والتحليل، لاستخلاص النتائج منها، وأهمها إعادة النظر لتطوير منظومة «الإعلام الكنسى» وأدوات الكنيسة للرد على الشائعات، والاستمرار فى عملية تنظيم «البيت الكنسى» وحركته الكبيرة للتغيير الإدارى، ووضع نظام مالى محكم لغلق أبواب سرقة أموال التبرعات، وإعداد قانون لبناء الأديرة، والتقدم بقانون لتقنين «الزى الكهنوتى»، وإشراك «العلمانيين» فى إدارة الكنيسة عبر الصيغة الملائمة لتطوير «المجلس الملى العام».
(10)
فى النهاية يظل ما حدث «جريمة»، وإن كانت بشاعتها هى وقوعها داخل «بيت الله»، إلا أنها كانت فرصة للمصريين أن يتعرفوا على «الآخر»، وأن تثير داخلهم التساؤلات حول «الرهبنة القبطية»، وأن تعيد المطالبة بتدريس «التاريخ القبطى» ضمن المناهج الدراسية فى المدارس، لتعزيز «المواطنة» وتعريف المصريين بتاريخهم الذى هو مزيج من حضارات متنوعة ومختلفة. كما كانت الأزمة كاشفة لمدى تلاحم مؤسسات الدولة مع الكنيسة المصرية فى التعامل مع «المصاب»، للمحافظة على بنيانها، ووقف معاول الهدم التى حاولت النيل منها، لتظل الكنيسة المصرية قوية تحت قيادة البابا تواضروس الذى يطلق البخور بين جنباتها ويرفع الصلاة من أجل «الوطن» و«الكنيسة».