«الوطن» تقضى 10 ساعات مع أهالى قرية «شيبانة» الحدودية قبل عملية «الثأر للشهداء»
قبل ساعات قليلة من هجوم القوات الأمنية - المكونة من الجيش والشرطة - على مناطق حدودية، ومناطق تستقبل تجمعات لهاربين ومنفذين ومتشددين، كانت «الوطن» فى المنطقة ذاتها، وقضت نحو 10 ساعات متواصلة مع أهالى إحدى القرى الواقعة على الحدود، من الثالثة عصراً وحتى الواحدة صباحاً. القرية يعيش أهلها حالة مختلطة من الحزن والغضب بسبب الهجوم الدموى الذى تعرض له الجنود المصريون لحظة الإفطار، لكنهم يعانون فى الوقت نفسه من «مرارة» دائمة بسبب التجاهل والحرمان والفقر الذى تركتهم الدولة يعيشون فيه.[Image_2]
«الوطن» جلست بين أهل القرية فى «قعدة عربى» على الرمال وبين أشجار الزيتون، التى تعتبر مصدر رزقهم الوحيد، والذى تراجع بقوة هذا العام، بسبب توقف التصدير أو «تقليله». يشير أحد أبناء القرية الحدودية إلى مزرعة عن يمينه، قائلاً «دى صرفت عليها السنة دى 30 ألف جنيه، ومش هتجيب تمنها، لأن الكيلو بيطلع من عندى بـ75 قرش، والعامل اللى بيقطفه بياخد 50 قرش على الكيلو، لكن منذ عام أو أكثر، كان التاجر يأتى إلى هنا ويحسب الكيلو بـ4 جنيهات، لكن الآن لا يمكن البيع بهذا السعر».
وتبعد القرية وسكانها، نحو 3 كيلومترات عن معبر كرم أبوسالم الذى شهد الأحداث الأخيرة. «الوطن» جلست فى قرية «شيبانة»، التى ترجع تسميتها إلى سيدة إسرائيلية، كانت تعيش فى هذا المكان أيام الاحتلال وكانت تملك بئراً، لا يزال موجوداً حتى الآن باسمها، لكنها غادرت القرية عندما رحل الغزاة عن أرض سيناء. يقول سعيد أعتيق «تخيل أن الاسم لسة موجود من 1982، وفى السنوات الأخيرة طلبنا تغيير اسم القرية لكن المسئولين رفضوا، طلبنا كتير ومفيش فايدة، شيبانة دى كانت تملك بئراً وكان الناس يأتون إليها من مسافة 50 كيلومتراً لشراء المياه»، ويضيف «الناس يشترون المياه الآن أيضاً، ولكن من تجار المياه، يطلبونها تليفونياً وتأتى إليهم فى سيارات، من أجل الشرب وتجهيز الطعام»، موضحاً أن الشراء يتم كل 40 يوماً، فى فنطاس كبير، ويضيف ساخراً «يا ويله من يستخدم المياه لأغراض غير الشرب والطعام، الاستحمام ممنوع»، ليضحك ويضحك الجميع.
ويلتقط شقيقه الأكبر الشيخ عبدالهادى «الإفيه»، ويقول «إوعى تحسب إننا مش بناخد حمام زى الناس، فيه مياه مالحة بتوصل لنا هنا، ونستخدمها فى أغراضنا الحياتية الأخرى».
القرية الشاهدة على أحداث العنف والحرب والسلام، متاخمة للحدود الإسرائيلية المصرية فى شمال سيناء، وسكانها شهود عيان على كل ما يقع فى محيط الأحداث.
فى البداية يقول عبدالهادى أعتيق، وهو الابن الأكبر لمناضل سيناوى، اعتقلته إسرائيل، وخرج من سجونها عام 1983، وهو من القضاة العرفيين بالقرية، «الأحداث التى وقعت مؤخراً حزن عليها الكبير والصغير بالقرية، والمواطن المصرى الشريف لا يسهم فى قتل جندى مصرى يحميه ويحمى حدوده»، ويضيف «أهل سيناء هم خط الدفاع الأول ضد أى اعتداء على أرض مصر، وهم وطنيون، وكان لهم دور فى كل الحروب التى خاضتها مصر، لكن تعامل الأجهزة الأمنية معنا جعلنا محل شك واتهام دائماً وأصبحنا موصومون بالعار ومهمشون، يربطون دائماً بين أهل سيناء والتهريب وتجارة السلاح والمخدرات، مع أن سكانها نسبة الفقر بينهم عالية جداً».
ويقاطع «سعيد» الأخ الأصغر لعبد الهادى، ويتساءل: هل تريد الدولة أن يصبح المواطن السيناوى أسداً يحمى حدودها، أم مواطناً عادياً لا يهمه أمر بلده؟ لماذا تتعامل معنا الأجهزة الحكومية بمنطق أمنى، وعندما يحاول أن يتعاون شخص مع الأجهزة الأمنية ويرى بعض من المتسللين الأفارقة أو الخارجين عن القانون، ويتصدون لهم، لا تتعاون معهم أجهزة الأمن، وتضعهم محل شك، وتحتجزهم بدلاً من تكريمهم».[Quote_1]
سعيد يتحدث عن والده، «بنى هنا مدرسة عام 82، تبرع بها أرضاً وبناءً، ولا تزال حتى الآن مهجورة، والدى ترك أرضه الواسعة لجيران كانوا يعيشون على بعد كيلومترات بعيدة، وعرض عليهم أن يتجمعوا بالقرب منه ليكونوا عشيرة مترابطة، فنحن من أبناء السواركة، وتبرع أيضاً بمكان لمسجد، والآن ومنذ سنوات الدولة عايزة تهدمه، يضحك سعيد، «تخيل أننا إلى الآن لا نملك تلك الأرض، مثل أكراد العراق تماماً، لنا فقط حق الانتفاع بها»، وتظهر على وجهه علامات حزن، «يمشى التلميذ إلى مدرسته 9 كيلومترات فى الصومال والنيجر وهنا فى شيبانة».
سعيد ناشط سياسى معروف لكل الثوريين فى القاهرة وقياداتهم، ونزل للشارع فى سيناء منذ 25 يناير، وهو من مواليد 1982، ورحل والده عن الحياة وعمره 4 سنوات، ولم يعرف إلى الآن هل حقن الإسرائيليون والده بمادة تسبب السل أم لا، فقد سمع هذا الكلام عندما صار شاباً وقوياً، ولكنه لم يستطع أن يثبت أى شىء.
بشارة سالم، 40 عاماً، يتحدث عن واقعة جمعته بالأمن فى محاولة إيجابية للقضاء على ظاهرة تهريب الأفارقة، «أمسكنا بعض الأفارقة الذين يحاولون التسلل إلى إسرائيل، وذهبنا لتسليمهم لإحدى الجهات السيادية، لكنهم لم يتعاونوا معنا، وقالوا (مش تخصصنا) فذهبنا إلى أحد أقسام الشرطة، فاتهمونا بأننا من نساعد على تهريب هؤلاء الأفارقة».
«أنا قضيت عشرين سنة من عمرى لا أدخل منزلى، وفى مطاردات دائمة كالمجرمين بلا ذنب».. بتلك الكلمات بدأ «على إبراهيم» حديثه بحدة، وأضاف «ظُلمنا وقُتل منا العشرات على أيدى الأمن قبل الثورة، ولم يعاقب أحد على فعله بعد الثورة، كل ما نريده العدل فى التعامل معنا، وتوفير خدمات حقيقية لنا».. ويقاطعه سعيد أعتيق، قائلا «انتشار قوات الداخلية قبل الثورة بمنطقة «ج» أدى إلى استهداف الكثير منا بدون وجه حق، وتلفيق القضايا، وهذا سلوك ظالم، أتمنى ألا يعود بعد الثورة»، ويضيف «قتل من أهل سيناء 240 شخصاً فى أحداث وتداعيات سابقة، ولم نر أحداً يقدم إلى المحاكمة، نريد محاكمة حقيقية للمتورطين فى قتل الشباب، ونريد اعتذاراً من الداخلية، وبعدها نستقبل الضباط والأفراد ونحملهم فوق رؤوسنا».
يتطرق بشارة سالم فى حديثه، بعيداً عن حالة القصور الأمنية التى تعانى منها المحافظة، والمنطقة الحدودية تحديداً، إلى مطالب توفير الخدمات والمقومات الأولى للحياه العادية. قائلاً: أيام الاحتلال الإسرائيلى لسيناء، كانت إسرائيل توفر الخدمات للبدو المصريين بشرط عدم دخولهم أو عملهم بمجال السياسة، فلماذا لا تساوى بيننا الدولة وبين المواطنين فى الدلتا.
ويلتقط سليمان حسين مسلم السواركة طرف الحديث، ليشكو: أسرتى مكونة من 7 أفراد، وأنا مش موظف فى الحكومة، وعمرى تعدى الستين، ولدىّ أبناء فى مراحل التعليم المختلفة (الإعدادى والثانوى والجامعى)، وأعمل باليومية، ويوميتى 35 جنيهاً، والشغل مش متوفر طوال الشهر، أعمل إيه عشان أعيش؟، فأنا أشترى كل شهر فنطاس مياه بـ150 جنيهاً للأكل والشرب فقط، وكل ما أحصل عليه من الدولة مساعدات 50 كيلو دقيق شهرياً، لا تكفى لتوفير الغذاء طوال الشهر.[Quote_2]
يتحدث أحمد محسن حسان السواركة، 40 عاماً، عن غياب الخدمات، قائلا: الأطفال بالمدارس يخرجون من منازلهم الساعة الثالثة صباحاً، ليستطيعوا الوصول إلى المدرسة، التى تبعد عن منازلهم بالكيلومترات، كما أن بعض أولياء الأمور يضطرون أن ينصبوا خيمة أو عريشة على مسافة قريبة من المدرسة طوال فترة الدراسة، حتى يضمنوا وصول أبنائهم إلى المدارس».
وعن خدمات القطاع الصحى بالمنطقة التى يقطنونها، تهكم محمد على، الذى يعمل فنياً بإحدى الوحدات الصحية، على حال المستشفى الذى لا يوجد به طبيب واحد، رغم أن به أقساماً عديدة، مؤكداً أن المريض الذى يحتاج عناية سريعة يتعرض للخطر إن لم ينقل إلى مستشفى العريش العام أو أقرب مستشفى. وينتقد عبدالهادى أعتيق، تعامل الدولة وكل الحكومات التى تعاقبت قبل الثورة وبعدها مع ملف سيناء، وقضاياها، وإهمالها، قائلا: لا توجد بنية تحتية من طرق ممهدة ولا توجد مياه تصلح للشرب».
مطالب عديدة لأهالى سيناء من أهمها تمليك الأرض التى ظلوا يزرعونها ويحصدونها لسنوات.. ويقول على حسن «نفسى الحكومة تتعامل معنا على أننا أصحاب هذه الأرض ولسنا منتفعين، والله لو ملّكونا الأرض سنكون أهم من الجيوش التى تحمى الحدود، وسنكون أول من يصد العدوان، وسنتمسك بأراضينا، التى نشعر أنها لنا، لكن تفكير الدولة غير مبرر».[Image_3]
ورغم أن الزراعة من أهم مصادر رزقهم، إلا أن أهالى القرية تواجههم مشاكل جعلت أوضاعهم أكثر مأساوية.. يقول محمد سويلم، المزارع ذو الـ42 عاماً، «الناس بتبيع دهبها وغنمها عشان تزرع، وبعد الحصاد لا تجد أسعاراً مناسبة بسبب وقف التصدير، ويصبح المزارع محاصراً ومديوناً لعدم تحصيل ما أنفقه على زراعته».
يتندرون فى حديثهم على إنشاء جهاز تنمية سيناء، الذى أصدر الدكتور عصام شرف رئيس مجلس الوزراء الأسبق قراراً بإنشائه، فهم يعتبرونه ورقاً محفوظاً بالأدراج، ولم يخرج إلى النور، وأن الحكومة فى عهد الدكتور محمد مرسى لن تتعامل بشكل صحيح لأنها تنظر للأحداث من منظور أمنى فقط، ولا ترى أن هناك أزمة اجتماعية ترتب عليها كثير من الأزمات، ويعلق سعيد أعتيق على قرار «شرف» بقوله «دعونا للجلوس مع بعض القيادات الحكومية وتحدثنا وسمعنا منهم لكن لم يحدث شىء على أرض الواقع».
أخذ الحديث منحى سياسياً، وعبر الجالسون عن رفضهم الشديد للتهميش السياسى الذى يمارس عليهم، على حد قول سعيد أعتيق «سياسة الدولة من البداية، قائمة على الاعتراف بحقوقنا عملياً، والدليل أن الدستور المصرى لم يشارك فيه أهل سيناء»، ويكمل محمد على «أمنيتى أن يوضع فى الدستور الجديد جملة بأن أهل سيناء ومنطقة سيناء لها طبيعة خاصة، كما يجب أن تتفهم الدولة دور القضاء العرفى، وتجعله رسمياً فى بيئة أصلها قبلى، ولا يرون إلا الحلول العرفية فى بعض القضايا، لأنها تنجز فى التنفيذ».
ويتدخل عبدالهادى أعتيق فى الحديث، مؤكداً أن القضاء العرفى عندنا هو سبب السلم الاجتماعى، فلا يدفع المشكلة حول التأزم، ويئد الفتنة منذ البداية، لذا يجب أن تأخذ الدولة فى الاعتبار هذه الأمور، وتحدد مكاتب للقضاء العرفى فى سيناء، ويضيف «السيناوية طالبوا كثيراً بأن يكون منصب مشايخ القبائل بالانتخاب، ويشرف عليه ممثلون من السلك القضائى، حتى يصبح ولاء الفائز للمواطنين، ويعمل كى يرضيهم ويطالب بحقوقهم، على عكس ما يتم تعيينه، يكون كل ما يشغله إرضاء القيادات الحكومية».
وينتقد أعتيق طريقة تعامل الإعلام الحكومى مع قضية سيناء، وطريقة تناول الواقع السيناوى «لا يوجد فى التليفزيون الحكومى المحلى بقنوات القناة اهتمام بالفلكلور السيناوى، فى الوقت نفسه تجد إذاعات إسرائيلية تهتم بهذا الفلكلور والثقافة السيناوية وهذه كارثة كبيرة جداً».
ويتفق على حسن مع طرح القاضى العرفى عبدالهادى، مؤكداً «نستمع إلى الأخبار من وسائل الإعلام العبرية وتكون أكثر مصداقية من وسائل الإعلام المصرية»، مشدداً على أن أغلب المزارعين يتابعون أخبار الطقس ليعرفوا متى سينزل المطر ليبذروا بذورهم فى الأرض، من خلال إعلام الاحتلال الإسرائيلى لثقتهم فيه بدرجة أكبر. وتطرق على حسن إلى الحديث عن اتفاقية السلام مع إسرائيل، موضحاً أنها سبب البلاء الذى تعيشه مصر حالياً، وأنها تسببت فى عزل سيناء عن مصر.[Quote_3]
ويتفق سعيد أعتيق مع هذا الطرح قائلاً «من جلس على طاولة المفاوضات لم يراع أن هناك سكاناً بسيناء، لهم حقوق لا بد أن يضمنها، لكنه جعلها منطقة فقيرة أمنياً، وأُجبر على ألا يهتم أو ينمى هذه المنطقة، ومع وطأة الفقر أصبح هناك أناس دفعهم فقرهم إلى العمل مع الحركات الجهادية»، وأشار بيده ناحية الجنوب قائلا «عندما تتوغل بمحاذاة الحدود المصرية الإسرائيلية ستجد الفقر المدقع يحاصر أهل سيناء، فتصبح نفوسهم ضعيفة فى مواجهة إغراءات الأموال».
ويكمل محمود سويلم حديث «حسن» مشدداً على أن ما تراه سيناء فى هذا التوقيت هو أقل ما يمكن أن يحدث فى الأيام القادمة، والأمور تسوء من يوم لآخر، فلا أهل سيناء مرتاحون ولا الحكومة مرتاحة ولا الجهاديون يتوقفون عن هجماتهم».
أهالى «شيبانة» لا تعجبهم سياسة الرئيس محمد مرسى فى التعامل مع القضية السيناوية، مؤكدين أن التصريحات الأولى بالحفاظ على كل المعاهدات دفنت القضية السيناوية إلى الأبد، لأنها ستبقى الوضع كما هو، ولن يدخل أعداد أكبر من الجنود لتأمين الحدود والمعابر، ولن تستطع الدولة تأمين المواطنين، وستستشرى التيارات الجهادية فى سيناء وستبقى الاضطرابات.
الأهالى يتحدثون عن مخططات تهجير أهل غزة إلى سيناء، يراها البعض صعبة التنفيذ فى الوقت الحالى، إلا أن هذا يقلقهم، فيما يربط أحد المتحدثين بين تولى الرئيس محمد مرسى، القادم من خلفية إخوانية، وتسهيل تنفيذ مخطط تهجير الغزاوية إلى سيناء وهى وطنهم البديل. كما أنهم يعلمون أن وضع مصر الاقتصادى صعب، وأنها لا تستطيع تلبية كافة مطالبهم، ولا يريدون أن يكونوا عبئاً كبيراً على الدولة، خاصة فيما يتعلق بالمشروعات التمويلية، لكنهم يريدون أن يشعروا بأن لهم صوتاً وكياناً وأن الدولة تحترم ثقافتهم وخصوصيتهم.
يقول سعيد أعتيق، «قدمت مقترحات عديدة لجهات حكومية، لحل أزمة سيناء بدون أن نكلف الدولة مليماً، وكانت عبارة عن تشكيل لجنة وطنية مكونة من متخصصين فى كافة المجالات الأمنية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والدينية، لدراسة سيناء بشكل وافٍ، وليجلسوا مع أهلها ليعرفوا ماذا يريدون تحديداً من الدولة، وليتفقوا على خطوط عامة، على أن تنقل هذه اللجنة توصياتها إلى الجهات الحكومية لتتخذ قراراً بناء على الواقع الفعلى لسيناء».
فى نهاية الحديث طالب المواطنون فى سيناء الحكومة بالاستماع إليهم بشكل مباشر، وعدم الاستعانة بشيوخ القبائل، الذين يعيّنون، ليقفوا على واقع أهالى سيناء.
واختتم سليمان حسن مسلم الحوار، بطرح أمنيته، بأن تريه الدولة «حاجة حلوة.. مش كله علقم ومرار».