السودانيون فى مصر: «بنحب العيشة الحلوة دى»
السودانيون فى مصر
«تانهسو» هو الاسم الذى كان يطلقه المصريون القدماء على السودان ويعنون به «أرض الله»، فبسبب موقعها جنوب مصر، وكونها بمثابة ثانى دول حوض النيل، نشأت علاقات تجارية وثقافية وسياسية بينها وبين مصر منذ آلاف السنين، ورغم انفصالها عنها جغرافياً منذ عام 1956، إلا أن أبناءها ما زالوا يقصدون بابها حتى الآن بعدما وجدوا فيها الأمان والاستقرار.
هُنا فى أرجاء مصر، شوارع عديدة تحمل اسم السودان، وحارات غلب عليها الطابع السودانى، هُنا تمركز آلاف السودانيين واندمجوا مع المصريين بسبب التقارب اللغوى والدينى، وكذلك العادات والتقاليد، التى تشبه كثيراً عادات أهل الصعيد. ورغم تنوع أسباب مجيئهم إلى مصر ما بين البحث عن باب رزق يُنفقون منه على أنفسهم، ونهل العلم من جامعاتها، والعلاج بمستشفياتها، إلا أنهم اجتمعوا ودون اتفاق مسبق على الاستقرار فيها، لتجد هُنا مقاهى شعبية يتجمعون فيها للتسامر وقضاء أوقات فراغهم معاً، ومطاعم تقدم لهم الأكل السودانى بمختلف أنواعه، ومدارس تستقبل أبناءهم الصغار ليدرسوا فيها المنهج السودانى.
«الوطن» انتقلت إلى أكثر المناطق التى يتجمعون فيها واستمعت إلى حكاياتهم وتجاربهم التى خاضوها داخل أرض المحروسة، كما رصدت المشكلات التى يواجهونها أثناء إقامتهم فيها.
وافدون من أجل العلم: شهادات معتمدة وفرص تدريب فى مجالات مختلفة.. وتكاليف زهيدة للمعيشة والدراسة
يشكو بعض الطلبة السودانيين من مشكلات تواجههم كوافدين أثناء دراستهم بالقاهرة، منها مشكلة اللهجة التى اصطدم بها أغلبهم فى البداية، وكذلك تأخر قبول بعضهم فى الجامعة، وبقدر تلك المعاناة فإنهم يرون مزايا عديدة لدراستهم بالقاهرة، أهمها أن شهادة الجامعات المصرية معتمدة، فضلاً عن قلة التكلفة بالنسبة للمعيشة والدراسة، فضلاً عن توافر فرص التدريب أمامهم فى مجالات مختلفة.
على خُطى أخيه الأكبر، ستر محمد عبدالعزيز مدنى، 27 عاماً، طالب بالفرقة الرابعة كلية الهندسة جامعة القاهرة، وذلك فور حصوله على شهادة الثانوية العامة من السعودية، كونها البلد الذى نشأ به، ليكمل مسيرته التعليمية على أرض المحروسة، وذلك بسبب ارتباط انتظام التعليم فى السودان بالأحداث السياسية، مما يؤدى إلى توقف الدراسة بالجامعات فى كثير من الأحيان، ويقول «محمد»: «أخويا كان فى كلية طب جامعة الخرطوم لما حصلت مظاهرات قرر يسافر يدرس فى مصر علشان مايضيعش على نفسه سنتين، ولما شاف الوضع أحسن جينا كلنا بعده». ويوضح «محمد» أن نظام التعليم فى مصر لا يختلف كثيراً عن التعليم السودانى، فالمستوى التعليمى متشابه بين الجامعات المصرية والسودانية إلى حدٍّ كبير، لكن الجامعات الحكومية فى مصر، خاصة مجالى الطب والهندسة، تعتمد على مناهج ثقيلة تجبر الطالب على إلغاء حياته الاجتماعية والتفرّغ للدراسة.
ويعبّر «محمد» عن الأزمات التى واجهته فى بداية التحاقه بالكلية، قائلاً إن أولاها اللهجة، لكنه سرعان ما تأقلم عليها، وأضاف: «أول تيرم ليا كنت باعانى بسبب إنى باحاول أتأقلم مع اللى حواليا وكمان تأخر قبولى فى الكلية كانت من المشاكل اللى واجهتنى، وكانت ممكن تضيع سنة من دراستى»، غير أن الأمر اختلف كثيراً، وبعدما كان يصل ورق قبول الوافد للجامعات فى شهر 12، أصبح الآن يصل منتصف أكتوبر. ومن المشكلات التى واجهته أيضاًَ عدم وجود أنشطة تعريفية بالكلية وشكل الدراسة بها، مما دفعه لإنشاء أسرة خاصة بالوافدين، ويقول: «جات لى فكرة تكوين أسرة للوافدين لمساعدة الطلبة فى التعرّف على الكلية والمواد والتصاريح استغرقت 6 أشهر، وبسبب صعوبات تجديدها، قررت أساعد الطلبة ودياً»، وعلى قدر تلك السلبيات فإن «محمد» يرى مميزات عديدة لدراسته فى مصر، أهمها انخفاض تكلفة المعيشة ووجود مجالات عديدة للتدريب والتأهيل.
«محمد»: «اللهجة صعبة والمناهج مكدسة وتعتمد على الحفظ.. لكننى تأقلمت على الوضع».. و«أيمن»: «عمرى ما هانسى وقفة وكيل الكلية المصرى معايا علشان أدرس اللى باحبه»
وبملامح وجه هادئة، تروى شيرين عوض، الفتاة العشرينية، قصتها، منذ جاءت إلى مصر من السودان فى صغرها، كون عائلتها مقيمة فيها منذ زمن، وهى طالبة بالفرقة الثالثة بكلية العلوم فى جامعة القاهرة، تخصّص مزدوج «كيمياء.. حيوان»: «أول ما اتولدت لقيت نفسى فى مصر، وكملت تعليمى فيها»، مضيفة أنها لم تلقَ صعوبة فى مراحل التعليم الأولى، وتابعت أن الصعوبة كانت بالنسبة للأهل فى البداية عند تقديم الأوراق للمدرسة وحاجتهم إلى توثيق المستندات»، موضحة أنها درست فى المدارس الحكومية، لأنها أقل تكلفة، واستطاعت طوال تلك الفترة أن تكوّن العديد من الصداقات مع الطلبة المصريين، وعن الفرق بين الدراسة فى مدارس وجامعات مصر والسودان، قالت: «نظام التعليم فى المدارس السودانية صعب، لأنه بيعتمد على الالتزام، ولو الطالب رسب فى 3 مواد بيعيد السنة، عكس النظام هنا، بيعتمدوا على الدروس الخصوصية». وبالنسبة للجامعات، فترى أن «نظام التعليم فى الجامعات المصرية أفضل من السودانية، لأن جامعات مصر أقوى، وفيها التزام أكثر»، موضحة أن الدراسة فى السودان مقتصرة على جامعة الخرطوم، لكنها تتوقف لأسباب سياسية مثل المظاهرات، أما عن الصعوبات التى واجهتها أثناء دراستها بالكلية فهى المصاريف، كونها وافدة، حيث قالت: «فى المصاريف الجامعية ظروفنا المادية ماتسمحش ندفع بالدولار، وده مش سهل على أغلبنا، رغم أن المصاريف هنا أقل من السودان».
ولم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لأيمن أحمد عباس، 25 عاماً، طالب بالفرقة الرابعة كلية العلوم جامعة القاهرة، تخصّص فيزياء حيوية، الذى يقطن بحى فيصل فى شارع العشرين، حيث بدأ يسرد زيارته الأولى للمحروسة عندما كان طالباً بالسنة الثانية فى الثانوية العامة، فيقول: «أول مرة جيت لمصر كان عندى 18 سنة، وجيت أزور عمى اللى عايش فى الجيزة، وماكانش فى بالى إنى هاجى وأكمل دراستى هنا».
فور حصوله على الشهادة الثانوية، قرر «أيمن» السفر إلى القاهرة ليستكمل دراسته بها، ويقول: «الدرجة اللى جبتها فى الثانوية لو كنت دخلت بيها جامعة فى السودان كنت هادفع كتير علشان أدخل الكلية اللى عاوزها، علشان كده قررت أدرس فى القاهرة».
7 سنين هى زمن إقامة «أيمن» بالقاهرة، فكان يقطن فى البداية مع أسرته، ثم قرر الانتقال للعيش مع عدد من زملائه الطلبة فى آخر ثلاث سنوات له بالكلية. عدد من الصعوبات واجهها «أيمن» وأصدقاؤه، بداية من اعتماد أغلب المناهج اعتماداً كلياً على الحفظ أكثر من الفهم، بالإضافة إلى كبر محتواها: «أغلب المواد كانت باللغة الإنجليزية، وللأسف لغتى مش قوية أوى، لكن شرح الدكاترة بالعربى سهّل الموضوع عليا شوية». ومن أهم المواقف التى لا ينساها «أيمن» عند دخوله الكلية وقيامه بتسجيل رغبته للالتحاق بقسم الفيزياء الحيوية، ومن ثم تفاجأ بنقله لتخصص فيزياء الحشرات: «عمرى ما هانسى وقفة وكيل الكلية معايا يومها، لما أصر أنهم يغيروا لى التخصص، ودخلنى القسم اللى حابه»، وعلى الجانب المهنى يعمل أيمن فى التجارة، ليكفى احتياجاته الشخصية، فى حين تتولى أسرته مصاريفه الدراسية.