تلك الكلمات من قصيدة اعتبرت هي الأكثر بذاءة في الشعر الحديث، لواحد من أهم شعراء مصر، وإن لم يأخذ حقه من الشهرة كبقية شعراء جيله، إنه عبدالحميد الديب، الملقب بـ"أمير الصعاليك"، و"شاعر البؤس"، وإن كان الرجل رغم حياته المأساوية أصر على السخرية من كل ظروفه بأبيات جسدت معنى خروج الإبداع من رحم المأساة.
رغم كون والد عبدالحميد الديب جزارا في قرية كمشيش بمحافظة المنوفية، إلا أن حال الأسرة لم يكن ميسورا، فجزاري القرن التاسع عشر، وبالتحديد عام 1898، حيث ولد عبدالحميد، لم يكن حالهم كما هو حال جزاري العصر، وخصوصا في القرى الفقيرة، فأهل هذه البلاد كانوا لا يأكلون اللحم إلا في المواسم والأعياد، أي أن الطفل المنوفي الصغير بدأ حياة البؤس مبكرا، إضافة إلى أن أسرته كانت على موعد مع الأحزان في أحيان كثيرة، حيث تخطف الموت كثيرا من أهله، لتسمع أذنيه في طفولته الكثير والكثير من البكاء والنواح والعديد، وفقا لرواية الديب نفسه، التي ذكرها الكاتب عبدالرحمن عثمان في كتابه عنه بعنوان "الشاعر البائس عبدالحميد الديب".
لم يمنع ضيق الحال والد الديب من دفع ابنه دفعا إلى التعليم، فشجعه على حفظ القرآن مع فقيه القرية، أملا في أن يراه في يوم من الأيام "شيخ عمود" في الأزهر، بحسب رواية عبدالرحمن عثمان في كتابه، وهو ما لم يحققه أمير الصعاليك كما لقبوه، فبعدما أكمل الديب دراسته في معهد الإسكندرية الديني حيث أرسله والده لمواصلة تعليمه، لتأهيله للالتحاق بالأزهر الشريف، قرر الذهاب إلى القاهرة لكنه لم يكمل دراسته بالأزهر، وانضم إلى "دار العلوم" بعد عمله أنها تمنح الطلاب مكافأة شهرية لإعانتهم على نفقات الدراسة التي لم يكملها، نتيجة لوفاة والده ووالدته، وشعوره باليأس والضياع لفراقهما.
لجأ الديب لحياة التسكع التي جعلته يختلط بالبؤساء والصعاليك، وصنعت منه شاعرا شعبيا بحق، فتجده يكتب عن أزمة في رغيف الخبز عام 1941 وكأنه يتحدث بلسان حال المصريين اليوم، حيث قال:
صغرَ الرغيف كأنما هو قطعةٌ
من قلبِ تاجره وجلدِ البائعِ
هل صار وهماً، أم خيالاً؟ إنه
قد عاد غير مؤمَّلٍ أو نافعِ
قد كان شيخاً للطعام فما لهُ
قد صار شبه وليد شهرٍ سابعِ
يا للرغيف، ويا لهول ضموره
قد صارة أمنية لبطن شابع
"جوعوا تصحّوا" واذكروها حكمةً
فالمجد لم يُكتبْ لغير الجائعِ
عاش الديب حياة بائسة بشكل غير مسبوق لأحد قبله، لدرجة أنه، آمن بكونه "ملعون في السماوات والأرض"، وهو ما قاله لصديقه عبدالرحمن عثمان، عندما حدث معهما موقف غاية في العجب، ذكره عبدالرحمن في كتابه، فيقول "كنت مفلسا حينما التقيت بالديب وهو في حالة من الإعياء والتعب الشديدين، فقد كان جائعا لم يتناول غداء... فاستعرضت في مخيلتي أسماء الأصدقاء الذين لا يتجهمون لي في مثل هذه الأحوال".
ويكمل عثمان أنهما بعدما ذهبا إلى صديقه ليطرقا بابه، قال له الديب "إن قلبي يحدثني أننا لن نجد صديقك هذا، بل ربما سنجد داره قد انتقلت من الحي الذي يقيم به إلى حي آخر من أحياء القاهرة"، وكانت المفاجأة التي ألجمت صديق الشاعر أنه حين طرق باب الشاعر خرج إليه جار له ليخبره أن الرجل أصيب في حادثة منذ ساعة وحملوه إلى المستشفى، فأصيب عثمان بالذهول ونظر إلى الديب الذي قال له "ألم أقل لك يا صديقي إنني ملعون في السماوات والأرض، فلقد جنى حظي على صديقك المسكين".
كان عبدالحميد الديب مؤمنا بعبقريته بشدة، وعندما يئس من عون المجتمع له، سقط في فخ إدمان الكوكايين الذي قاده للسجن، الذي قال عنه إنه وجد فيه الملجأ بعد طول قلق واضطراب، بحسب عبدالرحمن عثمان.
بعد خروج الديب من محبسه، عانى الكثير في رحلة البحث عن العمل، فلم يقبل به أرباب الأعمال بسبب كونه سجينا في الماضي، حتى عمل "مصححا لغويا" في إحدى المجلات، قبل أن ينشد إحدى قصائده في حفل حضره وزير الشؤون الاجتماعية، وووظفه في الوزارة، لكنه صدم بكون الموظف الجديد في الحكومة ليس له مقعدا يجلس عليه، أو مكتبا مخصصا له، فكتب يشتكي للوزير قائلا:
بالأمس كنت مشردا أهليا
واليوم صرت مشردا رسميا
ومن الروايات المثيرة للجدل عن عبد الحميد الديب، قصة صداقته بموسيقار الشعب سيد درويش، وأغنية "والله تستاهل يا قلبي"، التي اختلفت الآراء حولها، وما إذا كان الشاعر أمين عزت الهجيني هو مؤلفها، أم هو الديب، وفي لقاء مع الكاتب بلال فضل في برنامج "عصير الكتب"، أكد الشاعر والناقد شعبان يوسف، أن العديد من المصادر نسبت تلك الأغنية الشهيرة لـ"أمير الصعاليك"، حيث كان الشيخ سيد درويش يجلس في قهوة بمنطقة بولاق يردد "والله تستاهل يا قلبي"، وهنا قال له الديب الذي لم يكن يعرفه قبلا، "فيه إيه يا عم"، ثم أكمل لسيد درويش الأغنية التي نعرفها الآن.
تعليقات الفيسبوك