أسرته تروى مواقفه الإنسانية: قلبه كان مليئاً بمحبة الناس.. ودموعه تسيل لأهون الأسباب ولم يشغله جمع المال
د. عبلة حنفى زوجة شقيق «بليغ» وتامر حمدى ابن شقيقه
«بودعك وبودع الدنيا معك، جرحتنى قتلتنى وغفرت لك» ربما كانت هذه رسالة الموسيقار بليغ حمدى عبر لسان زوجته الثانية وردة الجزائرية للحياة التى عاشها ودامت 61 عاماً ما بين 1932 إلى 1993، حياة فى بدايتها كانت صاخبة مليئة بالضحك والأفراح والألحان التى خلدها التاريخ فى موسوعاته، وكانت نهايتها قاسية وظالمة إلا أن بليغ أو كما لقبه البعض بـ«بيتهوفن الشرق» تفهم ما حدث له ولاقى ربه وهو راضٍ عما قدمه لجمهوره المصرى والعربى.
الإنسان
تحدثت الصحف ووسائل الإعلام مراراً وتكراراً عن عبقرية بليغ حمدى الفنية والموسيقية ولكنها دائماً ما كانت تبتعد عن الجانب الإنسانى فى حياته، فوراء هذا الموسيقار الذى خلد فى تاريخ الموسيقى العربية، حكايات إنسانية ربما لا يعرف الكثير عنها شيئاً لأنهم اهتموا بما قدمه فى الساحة الغنائية وتكاسلوا عن معرفة طبائع سجيته.
تكشف الدكتورة عبلة حنفى، زوجة شقيق بليغ الأصغر «حسام»، مواقف عن إنسانية الموسيقار العظيم، قائلة: «بليغ كان إنساناً عطوفاً لدرجة لا يصدقها أى شخص، فهو إنسان رقيق المشاعر، شرب من الفن أحاسيسه وأصبح يتعامل مع الناس بها، لدرجة أنه يبكى لو رأى مشهداً صعباً أمام عينيه، فأتذكر فى إحدى المرات كان يخرج من أحد المسارح وقت هطول الأمطار، وشاهد أمامه رجلاً فقيراً متعباً غير قادر على تحمل قسوة الطقس، فما كان منه إلا أنه قام بخلع المعطف الذى يرتديه وأعطاه للرجل ليحميه من غزارة الأمطار»، وأضافت: «عشقه لفنه جعلته استثنائياً وأعتقد أنه كان غير باقى أقرانه وزملائه من الموسيقيين، فبليغ كان شارد الذهن طوال الوقت فى عمله، لدرجة أنه حينما كان يجلس معنا لكى نتحدث فى مشاكل حياتنا، نجده فجأة يتأمل ويهيم فى عشقه للموسيقى ويقوم بتلحين ما نقوله بيده»، وتابعت: «بليغ رحمة الله عليه كان قادراً على أن يكون أغنى فنان فى العالم، فكبار المطربين والشعراء كانوا يتهافتون عليه من أجل أن يوافق على العمل معهم، ولكنه كان يرفض فكرة العمل من أجل المال، فهو أصلاً لم يكن يفكر فى المال».
ابن شقيقه: رفض تغيير اسم مصر إلى «الجمهورية العربية المتحدة».. فقدم لشادية «يا حبيبتى يا مصر».. وطلب إعادة ابتهالاته مع النقشبندى دون أجر.. وفريد شوقى قدم طلبات عديدة لتبرئته.. ومحمود عوض أبرز من داوم على زيارته فى أيامه الأخيرة.. والدولة ظلمته حياً وميتاً ويكفيه حب الجماهير
الأسرة
علاقة بليغ بأسرته كانت تقليدية، فبحكم انشغاله الدائم فى عمله الموسيقى كان يتغيب عنهم لفترة طويلة، ولكنه كان يعاود الاتصال بهم والسؤال عنهم فى المناسبات المهمة، وكانت أمه بالنسبة له عشقه الأبدى، فكانت من أكثر نساء الأرض التى أحبها فى حياته وظل يبكى عليها حتى وفاته، ولكن بعد أزمته الشهيرة فى قضية سميرة مليان والسفر خارج البلاد، تغيرت حياته وأصبح قريباً للغاية من أسرته لدرجة أنه حينما عاد من فرنسا، ذهب ليسكن فى شقة شقيقه حسام بالزمالك وابتعد عن شقته».
وتروى «عبلة» تفاصيل علاقته بأسرته قائلة: «بليغ كان محباً لكل الناس بمن فيهم أسرته، ولكنه كان عاشقاً للفن ثم الفن ثم الفن وبعد ذلك أى شىء آخر، ولذلك كانت علاقته بأشقائه جيدة للغاية، ولكنه كان يغيب عنهم بسبب عمله ولكن تغيرت حياته تماماً بعدما تعرض للانكسار فى قضية سميرة مليان، وسافر إلى باريس وحينما عاد فضل الابتعاد عن شقته التى شهدت الحادث الشهير وفضل الجلوس معنا فى هذا المنزل بالزمالك، ووقتها كنت فى السعودية ولكن ظل جالساً مع أولادى هيثم رحمة الله عليه وتامر، وارتبط كثيراً بهيثم بالتحديد لأنه كان فناناً مثله وظلا متلازمين طوال الوقت، كما أن بليغ لم ينجب، وفى الوقت نفسه توفى والد أبنائى وهم صغار».
علاقة بليغ بوالدته «عائشة» كانت من طراز خاص، فتقول «عبلة»: «بليغ كان يعشق أمه عشقاً جنونياً لا يتخيله أحد، فدائماً ما كان يجلس تحت قدميها ويبكى، ورحلت عن دنيانا قبل أن يحقق أمنيتها، فكانت تحلم دائماً بأن يقدم لها أغنية عن الأم مثلما قدم محمد عبدالوهاب أغنية (ست الحبايب) لوالدته، فكان بليغ يرد عليها ويقول: (كل أغنياتى الوطنية يا أمى دى ليكى انتى أمى ومصر أمى)».
وهنا تدخل تامر حمدى، ابن شقيق بليغ، ليروى عدة مواقف جمعته به فى إطار الأسرة: «فى أحد أيام الاحتفال بعيد الأم اتصل بليغ بوالدته ليتأسف لها عن كونه آخر شخص اتصل بها، فردت عليه أمى قائلة (والله يا بليغ انت أول واحد اتصل بى وقبل أولادى)، فما كان منه إلا أنه اتصل بى وعنفنى على عدم تهنئتى لأمى، واتفق معى على إحضار فرقة غنائية شعبية تحضر تحت المنزل، وأن تقف والدتى فى شرفة المنزل، ومع ظهورها قامت الفرقة بعزف أغنيات خاصة للأم»، وسرد تامر موقفاً آخر: «فى إحدى المرات اشتكت والدتى منى لكونى لا أذاكر، ولا أقدر على استيعاب النصوص العربية، فوجدت بليغ يزورنا ويقول لى: «هات يا ابنى النصوص دى ألحنها عشان تحفظها وتبسط والدتك».
زوجة شقيقه: كان يعشق التراب الذى تمشى عليه والدته.. وتمنت أن يشدو لها مثلما غنى عبدالوهاب «ست الحبايب» لأمه.. فرد عليها «أغنياتى لمصر لكِ يا أمى».. وكل ما كُتب عن زيجاته ومغامراته كذب.. ومشاعره كانت مرهفة لدرجة لا تصدق.. وفى إحدى المرات خلع معطفه ليرحم رجلاً فقيراً من غزارة الأمطار
الزواج
رغم كثرة ما كُتب عن علاقاته النسائية ومغامراته معهن داخل وخارج البلاد، فإن بليغ فى السجلات الرسمية المصرية لم يتزوج سوى مرتين، الزيجة الأولى استمرت عاماً واحداً من سيدة لم تكن من الوسط الفنى، أما الثانية فاستمرت 7 سنوات وكانت مع وردة الجزائرية، وتعد إحدى أهم الزيجات الفنية عبر تاريخ الفن العربى، حيث استمرت فنياً حتى بعدما رحل بليغ عن دنيانا فى بداية تسعينات القرن الماضى.
تتحدث «عبلة» عن زيجاته، فتقول: «كل ما كتب عن بليغ غير صحيح، فهو بالتأكيد كان يحب النساء مثل أى شخص ولكنه كان يعشق فنه أكثر من أى شىء فى الحياة، ولذلك حينما ترى حياته ستجد أنه تزوج مرتين فقط، تفاصيل الزيجة الأولى لا نعرف الكثير عنها، سوى أن زوجته الأولى تدعى آمال ومن مدينة الإسكندرية وكانت طوال الوقت بعيدة عنا، نظراً لأنها كانت تعيش فى مدينة ساحلية بينما نحن نعيش فى القاهرة، ولم تستمر علاقتهما أكثر من عام، ولم يكن بليغ يفضل الحديث عنها كثيراً»، وكشفت تفاصيل علاقته بوردة، قائلة: «بليغ منذ أن شاهد وردة مع بداية قدومها لمصر أحبها من النظرة الأولى، وقدم لها أولى أغنياتها (يا نخلتين فى العلالى) وظل يحبها ولكن لم يترجم هذا الحب إلى زواج، إلى أن حدثت أزمة وردة مع المشير عبدالحكيم عامر وتم ترحيلها من مصر وذهبت إلى الجزائر، وتزوجت هناك من رجل جزائرى وأنجبت منه رياض ووداد، ثم انفصلت وعادت إلى مصر بعد فترة، فقرر بليغ وقتها الارتباط بها وظلا مرتبطين لمدة 7 سنوات، وهى السنوات التى يعلم الجميع قصصها وقدما فيها أجمل أغنيات الحب».
سميرة مليان
فى منتصف عام 1984 لم يكن لدى الصحافة المصرية والعربية ما يشغلها سوى قضية المطربة والفنانة المغربية سميرة مليان، فصارت تلك المطربة التى جاءت من بلادها مغمورة لا يعرفها أحد سوى أسرتها «نجمة» وسائل الإعلام، واحتل اسمها جميع المانشيتات فى الصحف المصرية، وذلك بعد أن وجدت جثة هامدة عارية أسفل العمارة التى يقطنها بليغ حمدى، الذى اتهم وقتها بإدارة منزله لتسهيل الدعارة، وحكم عليه فى تلك القضية بالسجن لمدة عام مع الشغل.
تلك القضية التى أثارت الرأى العام فى ذلك الوقت، كافة أطرافها نفوا تماماً علاقة بليغ بها، وأكدوا أنه لم يلتق بـ«سميرة» طوال اليوم الذى لقيت فيه مصرعها، إذ صعد إلى منزله فوجد ضيوفه وأصدقاءه ساهرين مع بعضهم البعض، فترك لهم الشقة وذهب لكى يخلد إلى النوم فاستيقظ على هذا الخبر الأليم الذى كان سبباً رئيسياً فى انكساره وقتله على قيد الحياة.
يتحدث تامر حمدى، نجل شقيق بليغ، كاشفاً أسرار ما حدث مع عمه فى تلك القضية، قائلاً: «أكثر ما تألم منه بليغ فى تلك القضية لم يكن فقط الحكم الظالم الذى ناله بسبب قضية ليست له علاقة بها، إنما بسبب أن أغلبية أصدقائه المقربين ابتعدوا عنه فى تلك الفترة ولم يساندوه مطلقاً، إضافة إلى أن هناك عدداً من الفنانين والملحنين تشفوا فيه وفرحوا بما حدث له، لكون أعماله كانت ملء السمع والبصر فى ذلك الوقت ولم يكن لديهم القدرة على منافسته والعمل مثله، فلك أن تتخيل شخصاً مثل بليغ كان قادراً على أن يجمع ملايين الجنيهات من عمل فنى، تلصق به تهمة كل فكرتها تدور حول النقود»، وتابع: «بليغ هو الفنان الوحيد الذى قدم أعمالاً وطنية لمصر فى كافة فتراتها، فهو أول من تشجع وغنى لوطنه وقت النكسة فقدم (عدى النهار)، كما أنه هو الذى تصدى لفكرة جمال عبدالناصر حينما غير اسم مصر الذى ذكر فى القرآن إلى الجمهورية العربية المتحدة، فقدم أغنية (يا حبيبتى يا مصر)، فظل خلالها مع الشاعر يخاطبان شخصاً ويقولان له (ما شفش) و(ما عداش) ثم يطبطب على مصر ويقول لها يا حبيبتى يا مصر».
الأيام الأخيرة
عانى بليغ حمدى الأمرين فى سنوات حياته الأخيرة أو بالتحديد فى السنوات التسع التى عاشها منذ أن خرج من مصر إلى العاصمة الفرنسية باريس، إبان مقتل سميرة مليان، إلى أن ذهبت روحه إلى بارئها فى عام 1993، ورغم أن المحكمة المصرية فى بداية التسعينات من القرن الحالى قد برأته تماماً من هذه التهمة، فإنه ظل منكسراً نفسياً وأصبح غير قادر على الإبداع كما كان.
يتحدث «تامر» عن الأيام الأخيرة فى حياة بليغ، قائلاً: «كانت صعبة وقاسية، فرغم وجوده جسمانياً معنا فإن عقله ومشاعره قد ماتت منذ يوم اتهامه، فلم يكن يتخيل أن كل ما فعله لمصر يذهب هباءً ولا يشفع له، وهو برىء بحكم المحكمة التى قالت فى حيثيات البراءة إنه لا توجد أى تهمة ضده، ولكن التهمة كانت قد التصقت به، ومع مرور الوقت أصبح جسده النحيف يئن من مرض السرطان، ودخل فى حالة إعياء شديدة لا يتحملها بشر».
وعن أصدقائه ومساندتهم له وقت محنته، قال: «هناك عدد من الفنانين الذين تحركوا مع نهاية القضية وقدموا طلبات عديدة من أجل تبرئته، ومن بينهم الفنان الكبير فريد شوقى، ولكنها كانت متأخرة تماماً ولم يكن لها أى مردود بعد أن أصبحت التهمة ملتصقة به، ومع أن الجميع استقبله فى المطار وقت البراءة، وأقاموا له حفلاً كبيراً وقت عودته، فإنه كان قد اكتشف الجميع فى كربه وقرر عدم الذهاب إلى منزله بمنطقة سفنكس، وقرر المجىء والجلوس معنا فى الزمالك حتى يبتعد عن أصدقائه الذين كانوا يبيتون دائماً فى منزله، فأصبح المترددون عليه قليلين للغاية، من بينهم الكاتب الصحفى الراحل محمود عوض، وعدد من أصدقائه غير المعروفين الذين تعاملوا معه فى عدد من أغنياته».
وبسؤاله حول تقرب بليغ من الله فى آخر أيام حياته، أجاب: «بليغ منذ صغره وشبابه قريب من الله، ولكنه لم يكن يملأ الدنيا بعلاقته بالله عز وجل، فدائماً ما كان يقدم الخير للجميع، حتى وقتما قدم الابتهالات مع الشيخ النقشبندى الذى كان يرفض التعاون معه بسبب تعامله مع الفنانين، إلا أن الأمر جاء من الرئيس أنور السادات، وأصبحت تلك الابتهالات الأفضل والأجمل فى تاريخ الأدعية الدينية، ربما ما لم يعرفه البعض أن بليغ بنفسه تقدم بمذكرة عام 1972 للمراقب على المنوعات بالإذاعة والتليفزيون، يطلب فيها إعادة طبعها وإذاعتها من جديد دون أى مقابل مادى، وذلك لنشر الوعى الدينى وخدمة للدين الإسلامى الحنيف».
أما فيما يتعلق بتكريمه من قبل الدولة بعد رحيله، فتحدث بنبرة حزن: «الدولة ظلمت بليغ حياً وميتاً، ويكفيه أن الجماهير ما زالت تتذكره وتفرح وتسعد بأغنياته وأعماله رغم مرور عشرات السنوات على طرحها، والناس ستظل تكرمه على ما قدمه حتى نهاية الحياة، وهذا هو التكريم الحقيقى بالنسبة لنا».