المحاسبون وحكايات النصر.. "6-10-1973" أجمل أرقام حياتهم
المحارب محمد السكري
سطرت القوات المسلحة على مدار تاريخها ملاحم أسطورية عديدة، إلا أن غرتها ودرة تاجها انتصار أكتوبر المجيد، والذي خلد اسم الجيش المصري في تاريخ العسكرية بأحرف من نور، النصر الذي شارك في تحقيقه فئات الشعب المصري على اختلاف توجهاتها جعل التاريخ يتوقف طويلا أمام عظمة المصريين وشجاعة جندها الذين استطاعوا أن يقهروا المستحيل ليحققوا النصر ويعيدوا العزة والكرامة لشعب عاش مرارة النكسة والانكسار.
من بين تلك الفئات التي حققت النصر وأعادت الأرض وحفظت العرض "المحاسبين"، ولما كانت دراستهم تعتمد على الحسابات والأرقام هناك أرقام لا تمحى من ذاكرتهم منذ انضمامهم لكتائب الأبطال بالجيش المصري، لينخرطوا في واحدة من أبرز الحروب المصرية، ويسجلون بأحرف من نور أسمائهم في سجلات البطولة.. "الوطن" تلقي الضوء على عدد من المحاسبين الذي شاركوا في حرب أكتوبر المجيدة ليجلبوا النصر.
تزامن تخرج المحارب محمد السكري من كلية التجارة مع العام الذي يسبق الحرب، والتحق بالجيش ليؤدي فترة التجنيد الخاصة به، ونظرا لتناسب بنيته الجسدية مع شروط الالتحاق بها، انضم الشاب العشريني إلى صفوف القوات الخاصة التي أغلقت أنابيب "النابالم الحارقة" تمهيدا لعبور القوات.
"كنت من أوائل الناس اللي عبرت القناة"، هكذا بدأ السكري البالغ من العمر 68 عاما، استرجاع ذكرياته مع مشاركته ضمن القوات الخاصة في حرب أكتوبر التي استعدوا قبلها بفترة طويلة نفسيا، "قبل الحرب بفترة طويل كانوا بيحشدوا الناس نفسيا ولما جت ساعة الصفر كل واحد فينا كان عنده استعداد يموت عشان ترجع كرامته وكرامة بلده".
"السكري": كنت من الأوائل الذين عبروا القناة.. وأسرتي احتسبتني شهيدا قبل عودتي
يروي السكري الذي كان يعمل بعد إنهاء خدمته العسكرية بالجيش، محاسبا بالشركة المالية والصناعية المصرية بكفر الزيات، أحد أكثر المواقف المؤثرة والتي عاشها خلال الأيام التي قضاها على الجبهة،" كنا بنطلع جنود العدو من جوا المجنزرة قبل ما تولع وبنسلمهم للمنطقة العسكرية بقيادة الجيش الثاني، وقتها كنا بنشوف نظرة رعب وذل مش طبيعية في عيون كل جندي منهم، ورغم الأيام الصعبة اللي عيشناها كنت سعيد بكل يوم عيشته في الحرب"، حسب تعبيره.
انتهت الحرب وعاد الجنود والضباط إلى محافاظتهم ولم يرجع السكري، وظن أهل الغربية أنه استشهد في الحرب، وفي يوم سمع أهل بلدته دوي طلقات رصاص في الهواء"تشريفية" قادمة عليهم وإذا بأسرته وأفراد عائلته يتفاجئون بعودته على متن سيارة بصحبة 8 جنود.
"استقبلوني بالزغاريد والبكاء والمشهد ده عمري ما أنساه"، بصوت متقطع نتيجة تأثره بما يرويه استكمل المحارب الستيني حديثه لـ"الوطن" تفاصيل اللحظات الأولى التي عاد بها إلى أهل الغربية مسقط رأسه، حيث كان آخر من عاد من أبناء المحافظة بعد انتهاء الحرب حتى اعتقد الجميع أنه استشهد.
استغرق الرجل الستيني ثواني عديدة ليجيب على سؤال أصعب اللحظات التي أثرت فيه كثيرا ولم تستطع السنون التي مرت محوها من ذاكرته أبدا.
وبصوت مرتعش يحتبس به دموعه رد قائلا: "لما كنا في الثغرة صديقي نزل البحر للاستحمام وقدام عينيا انفجر فيه لغم واتحول جسمه في ثواني لأشلاء"، حسب وصفه، واضطر بعدها أن يجمع هذه الأشلاء، ليدفنها بيده إكراما لصديقه وعانى كثيرا بعد هذا المشهد ولا يزال يذكر صديقه دائما في كل ذكرى للحرب.
عقب عودته من الحرب واستبدال الملابس الميري بالملابس العادية، ظلت ولاتزال ذكريات القتال محفورة داخل المحارب الستيني رغم إصابته بشظايا صغيرة في جسده لم يشكو من ألمها لحظة إصابته بها طوال حديثه" أي ألم أو يوم صعب عشناه ميجيش حاجة جنب تحرير بلدنا والابتسامة اللي كنت بمشي في الشارع أشوفها بين المدنيين بعد ما رجعت أرضنا وكرامتنا"، حسب تعبيره.
تكريما لمن شارك بالحرب، منح الرئيس الراحل أنور السادات قطعة أرض لهم في بلدهم، ولكن المحارب الذي كان ضمن القوات الخاصة فضل التبرع بها لبناء معهد ديني في بلده كهدية منه لبلده وأهلها.
مضى على الحرب 45 عاما ولا يزال ابن محافظة الغربية تدمع عيناه عند حديثه عن الحدث الأعظم في حياته: "كل لحظة عيشتها محفورة في كل وجداني، لو شوفت فيلم عن الحرب بعيش المشاهد بكياني لأن الحقيقة اللي عشناها غير التمثيل".
"مطاوع": إسرائيل ضربت وحدتي القتالية بشدة في بداية الحرب.. ولم أشك لحظة في تحقيق النصر
قبل أكثر من 46 عاما، لم يكن يدري مصطفى مطاوع، الحاصل على دبلوم تجارة أنه سيشارك في واحدة من أهم الحروب بالتاريخ، والتي ستغير من مسار حياته تماما، فبينما كان في الثانية والعشرين من عمره، انضم لسلاح الدفاع الجوي، ومن ثَّم حصل على عدة تدريبات، قبل أن يتم ترحيله للقيادة العامة بالجيش الثالث، بالقرب من السويس، ويلتحق بفرقة الاستطلاع.
ومن خلال تلك الفرقة التي تتخذ من غرفة مجهزة تحت الأرض لمتابعة كافة التحركات، تمكن "مطاوع" من الاطلاع على كافة الأحداث بالجبهة المصرية والإسرائيلية، حيث أبلغوا بالبقاء على أهبة الاستعداد مع مطلع شهر أكتوبر عام 1973، ما جعلهم يتوقعون دخول الجيش المصري في حرب محتملة، وقبل ساعات منها أعلنت حالة طوارئ على أعلى مستوى، لتنتشر بين الجنود حالة كبيرة من السعادة والفرحة للرغبة في تحقيق النصر على الجنود الإسرائيليين، وارتفعت أصواتهم "تحيا مصر".
ومع الساعة الثانية ظهر يوم 6 أكتوبر، تأكد الجنود من قيام الحرب، من تحركات الطائرات والدبابات من حولهم، حيث رسم الشاب العشريني وقتها خطوط سير الطائرات المصرية، وأبلغ القيادة بكافة التحركات في المنطقة، في الوقت الذي كانت تتلقى فيه وحدتهم ضربات مباشرة من إسرائيل، لتشتعل الأجواء بشدة داخل الوحدة، إلا أنه لم يشك للحظة في إمكانية انتصار مصر في تلك الحرب، رغم محاولات إسرائيل اختراق السويس من خلال الثغرة الشهيرة.
صدقت توقعات "مطاوع" في انتصار مصر بحرب أكتوبر المجيدة، وبعد توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" للسلام، حصل على إجازة لأول مرة منذ عدة أشهر، مع زملائه، وفور دخولهم منطقة أنشاص وحتى وصولهم لمحطة السكة الحديد، كان الأهالي يستقبلونهم بالأحضان استقبال الأبطال ويغمرونهم بالإشادة ويهدونهم الورود، قائلا: "اللي كان بيشوفني لابس بدلة الجيش كان بياخدني بالحضن".
لم تقتصر فترة تجنيد"مطاوع" بالجيش على مشاركته في الحرب فقط، وإنما غيرت من حياته أيضا بأن حصل على شهادة الثانوية العامة بتشجيع من قياداته بالجيش، الذين حرصوا على إخباره بأهمية ذلك الأمر والحصول على الشهادة الجامعية، وبالفعل تمكن من اجتياز الصف الأول والثاني الثانوي خلال خدمته بالجيش التي انتهت عام 1975.
خرج الشاب العشريني بعد ذلك من الجيش إلى فضاء الحياة العملية، حيث حصل على الشهادة الجامعية بالفعل والتي أهلته للعمل كمحاسب في البنك المركزي، طوال 40 عاما حتى أصبح مديرا لإحدى إداراته بالقاهرة، لم يغفل خلالها على الفخر بكونه أحد المشاركين في حرب أكتوبر المجيدة، وأن يزين جدار منزله ومكتبه الشهادات التقديرية والأنواط التي حصل عليها في نهاية خدمته.
كما حرص مطاوع البالغ من العمر 67 عاما على زرع حب البلاد في نفوس أبنائه الثلاثة، ونقل أحداث حرب أكتوبر المجيدة لهم طوال الوقت، قائلا: "لحد دلوقتي مع كل سنة بقعد احكلهم على اللي حصل واللي شوفناه وقتها، لأن ده ميكفيهوش كتب، ويفضلوا يسألوني كل مرة عن حاجات جديدة وأنا شايف الفخر في عينهم وده يكفيني.. أحسن رد جميل ليا".