يوميات «قس»
القس بافلى مع أطفال الكنيسة
عقارب الساعة تشير إلى السادسة صباحاً فيبدأ يومه مبكراً، يرتدى جلبابه الأسود وعلى صدره يتدلى الصليب ويمسك بيده اليمنى صليباً آخر، يترك منزله ويستقل سيارته إلى كنيسة السيدة العذراء والأنبا صموئيل المعترف بمنطقة أبيس شرق الإسكندرية، دون تناول وجبة الإفطار ليصلى القداس الإلهى فى السابعة صباحاً، لأن الصلاة تتطلب أن يكون «صائم انقطاعى»، وتستغرق نحو ساعتين، وتتطلب مجهوداً بدنياً كبيراً، خاصة أنه هو الكاهن الوحيد بالكنيسة، وهذا يتطلب منه الوقوف المستمر فى الصلوات ودورات البخور بالكنيسة التى تستلزم الدوران بـ«الشورية» لتبخير الأيقونات وكافة أرجاء الكنيسة.
القس بافلى موسى، 45 سنة، رسم كاهناً على الكنيسة فى مارس 2016، بعدما كان يعمل نائب مدير شركة أدوات تجميل وعطور كبرى، وأمين خدمة ذوى الاحتياجات الخاصة بكنيسة السيدة العذراء والملاك غبريال بشارع سيف شرق الإسكندرية لمدة 20 عاماً، لديه زوجة هى «إلهام مساك» وولدان هما «ماثيو» 13 سنة، و«مارك» 11 سنة.
«الوطن» عايشت حياة القس بافلى، وهو الكاهن المسئول عن خدمة ذوى الاحتياجات الخاصة بقطاع المنتزه، بالإضافة لكونه دارس المشورة ويقدم محاضرات عن المشورة الكنسية، ومدير معهد المعترف للخدمة والتكريس بأبيس، الذى يعد قطاعاً كبيراً من الخدام المتخصصين.
بعد نهاية صلاة القداس كان جبينه يتصبب عرقاً فيسارع لخلع «التونية البيضاء» وهى لبس القداس الإلهى الذى يرتديه فوق جلبابه الأسود، ويبدأ الاستعداد ليوم مزدحم بالارتباطات، فبعد القداس مباشرة يحمل الكاهن «الزخيرة» وهى عبارة عن علبة معدنية يوضع فيها جسد المسيح ودمه، وهو المعروف فى الكنيسة الأرثوذكسية بسر «التناول»، فيحملها بخشوع ومخافة لقيمة ما فى داخلها، ويتجه إلى المنازل ويقوم بإعطاء هذا السر للمرضى الذين لا يقدرون على الذهاب إلى الكنيسة للصلاة والنيل من هذا السر المقدس، وهو لا يقوم بالزيارة عشوائياً، ولكن الأمر يكون مرتباً له مسبقاً مع أهل المريض، بمجرد الانتهاء من زيارات التناول الخارجى، يأكل وجبة الإفطار، لأنه ليس مسموحاً أن يتناول طعامه وجسد السيد المسيح معه، وبعد الإفطار يخرج لأخذ اعترافات شعب الكنيسة، وفقاً لمواعيد مسبقة، ثم يجلس فى مكتبه لتلقى الشكاوى وطلب المساعدات من أهالى الكنيسة، ويقوم بتقديم الحلول والمشورة وفقاً لاحتياجات كل حالة، وتستغرق هذه الأمور من ٤ إلى ٦ ساعات، وبعد حلول فترة الظهيرة يتجه إلى منزله فى معظم الأحيان لتناول وجبة الغداء مع أسرته والاطمئنان عليهم وعلى أوضاعهم، ثم يكمل يومه بعد صلاة الغروب مع أسرته، ويتجه إلى الكنيسة وفقاً لترتيبات جدوله، ففى فترة المساء تكتظ مواعيده بالاجتماعات الكنسية المدعو لها لتقديم عظات، أو الذهاب للمشاركة فى صلوات الإكليل «الزواج»، أو تقديم عظة فى عزاء، وهذه الفترة تبدأ من 6 مساء وتستمر حتى 11 ليلاً وربما تمتد لما بعد ذلك، وفى ظل هذه الظروف يجد الكاهن نفسه أمام معادلة صعبة عليه تحقيقها، وهى إرضاء الجميع، وإرضاء أهل بيته ومشاركتهم كافة الأمور، وكثرة الخدمات للكاهن تجعل وقته ضيقاً للغاية، ما يقلل من فترة نومه وراحته.
«بافلى»: الكهنوت تخصص فى «خلاص النفوس».. ومساعدة شعب الكنيسة أولوية.. وليس وظيفة بـ«حضور وانصراف»
ويقول القس بافلى موسى، إن من أوليات الأب الكاهن الله وحياته الروحية ثم بيته ثم خدمته، فالبيت الوحيد الذى لا يدخله أب كاهن آخر هو بيت الكاهن، وأهل هذا البيت نفوس تحتاج إلى الخدمة والاهتمام والخلاص، فإن لم يخدمهم الكاهن رب البيت فمن يخدمهم؟ وأوضح أن الكهنوت لا يندرج تحت مسمى الوظيفة، فهى ليست مهنة لها حضور وانصراف وخصومات ومكافآت، إنما الكاهن أب وراع ومحب وباذل ومعطاء، فالكاهن هو تخصص خلاص نفوس البشر، مضيفاً أن البابا تواضروس الثانى خصص لكل كنيسة مجلساً من العلمانيين لإدارة الأمور المالية والدنيوية، حتى يتفرغ الكاهن فى مهمته الأساسية وهى خلاص النفوس، وتوصيل أبنائه إلى الملكوت، ويرى «موسى» أن الكاهن الذى يرى أن الكهنوت وظيفة لن تظهر ثماره، فالكاهن خادم للجميع ويسعى ويجتهد ويبذل قصارى جهده ويمر بمرحلة تعب وعناء من كثرة ضغوطات الخدمة، فهو مجرد إنسان ضعيف، إلا أن الروح القدس هو السند والمرشد له، مؤكداً أن الكاهن يشارك الجميع أحزانهم وأفراحهم، ويتوغل داخل مشاكلهم حتى يجد حلولاً تخمد نيران المشاكل، من خلال الصلوات التى ترشده إلى الحلول العقلية، وأشار إلى أن الكاهن تحت الضعف مثله مثل كل البشر، يحتاج إلى أب اعتراف كى يعترف بخطاياه له ويوجهه ويرشده ويضع له قوانين روحية من الصلوات والمطانيات «السجود» وغيرها من التدريبات الروحية، وتخصيص قراءات فى الكتاب المقدس وكتب دينية أخرى، بالإضافة إلى «خلوة الدير» التى تمثل لكل كاهن «إعادة تشغيل» حياته من جديد، فهى مثل «راوتر» الإنترنت الذى تغلقه وتقوم بتشغيله مجدداً كى يعمل بكفاءة، ففى الدير يهيئ الكاهن نفسه من جديد، ينسق حياته الروحية مجدداً بعيداً عن صخب العالم، يجلس فى خلوات فردية يتأمل فى الكون وقدرة الله الذى خلق كل ذلك بشكل منظم، فيدرك أن من بدأ معه الطريق لن يتركه فى منتصفه، فيعود إلى خدمته بطاقة جديدة ليمارس مهامه مجدداً، وأوضح أن زيارة المرضى فى المستشفيات وأخذ اعترافهم ومناولتهم، من أهم أدوار الأب الكاهن، كما أن تعزية المريض وتشجيعه للمرور من المرض وتقديم سبل الخلاص له أمر هام، فالكاهن هو الإنسان الوحيد المتاح له الزيارات للعناية المركزة 24 ساعة، مضيفاً: «ناس كتير كانوا محتاجين أبونا يقرأ لهم حِل الاعتراف، وبمجرد خروج الكاهن من غرفته تتنقل روحه». انتقلنا للحديث مع زوجته إلهام مساك، فقالت إن الكاهن بشر وله حياة أسرية تمر بمشاكل ومعاناة وظروف مختلفة مثل الجميع، مضيفة أن القس بافلى يتمتع بحكمة فى كلامه نتيجة خبرته فى المشاكل الأسرية، فيطلب منها احتياجاته من الطعام وتحضير الملابس وغيرها بشكل لطيف مثل كلمات «بعد إذنك، وكتر خيرك لو عملتى كذا، وربنا يعوضك ممكن تعملى لى كذا»، مؤكدة أنها مع هذه الطريقة اللطيفة لا تستطيع رفض طلب له، وأضافت أنه مثل جميع الأزواج حين تطلب الفلوس يبتسم ويسكت ثم يدفع، وحين تحتاج منه مساعدة فى شىء يرد بآية من الكتاب المقدس «ملعون من يتكل على ذراع بشر»، فأرد عليه حين يطلب الطعام بآية من الكتاب المقدس «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، مؤكدة أن كل ذلك يتم بشكل فيه نوع من الدعابة اللطيفة،
يذكر أن الكاهن وفقاً للائحة تنظيم خدمة الآباء الكهنة بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية برقم 21 لسنة 2012 الصادرة من المجمع المقدس، كونه المختص الذى وضعت عليه اليد من قبل الرئاسة الدينية، التى نال بها درجة القسيس أو من سينال رتبة القمصية وفقاً لعقيدة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وهو ما يسمى بسر «الكهنوت».
القس «بافلى»