مستشار «المصرى للدراسات»: التعليم السر الحقيقى للاقتصادات المتفوقة
الدكتورة سحر عبود
فى أكتوبر الماضى صدر تقرير التنافسية للمنتدى الاقتصادى العالمى 2018، لكن دون أن يحظى باهتمام يذكر، رغم ما يحمله من رسائل ونتائج جديرة بالتوقف والانتباه، «الوطن» توجهت إلى الدكتورة سحر عبود، مدرس الاقتصاد بمعهد التخطيط القومى ومستشار «المركز المصرى للدراسات الاقتصادية»، بهدف تحليل التقرير، الذى يتمتع باهتمام حكومات ومستثمرى العالم لفهم رسائله ومعرفة أسباب تدنى ترتيبب مصر فى مؤشره، رغم الإجراءات الكثيرة التى اتخذتها الحكومة مؤخراً لإصلاح وتحسين مناخ الاستثمار.
د. سحر عبود: مصر تستطيع أن تحتل موقعاً أفضل بشرط البدء فى ثورة إصلاح للتشريعات والمؤسسات
الدكتورة سحر تتابع التقرير بعناية منذ صدوره للمرة الأولى فى 2004، وأكدت أن مصر، التى احتلت المركز الـ94 من 140 دولة، تستطيع أن تحتل موقعاً أفضل بكثير لكن بشروط أولها مراجعة السياسات والبدء فى ثورة لإصلاح التشريعات والمؤسسات وتنمية الموارد البشرية.. وإلى نص الحوار.
ما سبب الاهتمام الكبير بتقرير التنافسية؟ وماذا يقصد التقرير بـ«التنافسية»؟
- تقرير التنافسية يصدر سنوياً منذ عام 2004 عن المنتدى الاقتصادى العالمى، الذى يضم فى عضويته ألفاً من أكبر قادة الشركات فى العالم، وبالتالى فالتقرير محل اهتمام أى دولة معنية بجذب الاستثمارات، ومع الوقت أصبح التقرير نفسه مرجعية يبنى على أساسها تقارير دولية أخرى تهتم بترتيب الدول وتقييم أدائها الاقتصادى، والتقرير الأخير الذى صدر فى أكتوبر الماضى على سبيل المثال غطى 140 دولة واقتصاداً يمثلون نحو 99% من الناتج المحلى العالمى و94% من إجمالى سكان العالم، ويعتبر تقرير التنافسية وتقرير «ممارسة الأعمال» الصادر عن البنك الدولى من أهم التقارير محل اهتمام دول العالم ومنها مصر طبعاً، ويُعرف المنتدى التنافسية بأنها «مجموعة السياسات والمؤسسات والعوامل التى تحدد إنتاجية دولة ما» والإنتاجية طبعاً هى المحدد الرئيسى للنمو والدخل، وبالتالى مستوى رفاهية البشر، ويعتقد المنتدى أنه كلما زادت تنافسية الاقتصاد زادت إنتاجيته وبالتالى قدرته على النمو الاحتوائى والمستدام أى زادت رفاهية الفرد فى النهاية.
ومن أين يأتى المؤشر بالبيانات التى يبنى عليها تقييمه؟
- من مصدرين، الأول استطلاع للرأى يجريه مع المديرين التنفيذيين لكبرى الشركات فى كل بلد لمعرفة آرائهم فى العديد من المجالات مثل التعليم، الصحة، والأمن، والمعوقات التى تواجه أداء الأعمال.. إلخ، وفى مصر تشمل عينة الاستطلاع 100 شركة، والثانى البيانات التى تصدرها منظمات ومؤسسات اقتصادية هامة مثل البنك الدولى ومنظمة الصحة العالمية وصندوق النقد الدولى ومنظمة السياحة العالمية، وغيرها.
لكن التقرير ظل محل انتقادات كثيرة ترى أن منهجيته هى السبب الرئيسى فى تدنى ترتيب مصر فى مؤشر التنافسية؟
- منهجية التقرير ليست مثالية شأنه فى ذلك شأن أى مؤشر إحصائى، كما أن منهجية استطلاع الرأى عليها بعض التحفظات، لكن هذا فى رأيى لا يقلل من أهمية التقرير وضرورة الانتباه لما يحمل من نتائج وما يتضمن من رسائل لعدة أسباب، أولها أن التقرير، شئنا أم أبينا، هو محل اهتمام كل مستثمرى العالم، ثم لو افترضنا أن هناك خللاً فى المنهجية والمعايير، فإن هذا الخلل لا يخص مصر وإنما ينطبق على الجميع، أى إن «المسطرة واحدة»، ثانياً القائمون على التقرير غيروا المنهجية بالفعل بداية من تقرير هذا العام 2018 وشمل التغيير الوزن النسبى لاستطلاع الآراء. فى السنوات السابقة كانت نتائج الاستطلاع تمثل 70% من الدرجة التى تحصل عليها أى دولة والبيانات الإحصائية تمثل 30%، فى التقرير الأخير أصبح الوضع عكسياً، أى 70% للبيانات الإحصائية و30% لاستطلاع الرأى، لكن يجب أن نلاحظ 3 أمور، أولها أنه رغم تغير المنهجية لم يختلف ترتيب مصر على المؤشر بشكل واضح، والثانى أن نتائج التقرير فيما يتعلق بمصر تتسق مع ما تشير إليه العديد من التقارير المحلية والدولية الأخرى، والثالث ضرورة ألا ننشغل كثيراً بتقدمنا أو تأخرنا درجة أو درجتين فى ترتيب المؤشر، فالترتيب رغم أهميته ليس هو المشكلة، الأهم هو التحديات الجوهرية التى يرصدها التقرير كأسباب لوجود مصر فى ترتيب متأخر على مستوى مؤشر التنافسية.
لدينا مشاكل مزمنة أهمها البيروقراطية وعدم كفاءة الجهاز الإدارى للدولة وضعف المستوى المهارى للعمالة ومشاكل التمويل والضرائب
كيف كان ترتيب مصر فى التقرير الأخير؟
- العام الماضى كانت مصر فى المركز الـ94 من 135 دولة شملها التقرير، وظل ترتيبها هذا العام الـ94، ولكن من 140 دولة، إذ شمل تقرير هذا العام 5 دول إضافية، والترتيب يعكس الدرجة التى تأخذها كل دولة بداية من صفر الذى يمثل أسوأ أداء إلى 100 التى تمثل أفضل أداء، ودرجة مصر فى التقرير الحالى 53.6 مقابل 53.2 عام 2017، ما يعنى أننا حققنا تقدماً طفيفاً بنحو 0.4 فى الدرجة، وعلى الرغم من التحسن النسبى فى بعض المؤشرات الفرعية التى ضمنها المؤشر، إلا أن مصر ما زالت أقل تنافسية من دول فى نفس مرحلتها التنموية، ومنها بعض الدول العربية ومنها الأردن والمغرب وتونس.
ما المجالات التى حققنا فيها تقدماً وما المجالات التى لم نحقق فيها تحسناً بعد؟
- المؤشر يصنف الدول وفقاً لـ12 معياراً (ركيزة) أساسياً وهى المؤسسات، البنية التحتية، المناخ الاقتصادى الكلى، الصحة والتعليم الأساسى، التعليم العالى والتدريب، كفاءة أسواق السلع، كفاءة سوق العمل، تطور أسواق المال، الاستعداد التكنولوجى، حجم السوق، تطور الأعمال، الابتكار. هذه المعايير تتضمن 98 مؤشراً فرعياً، بالنسبة لمصر هناك مؤشرات شهدت أداء جيداً (70 فيما فوق) وهى البنية التحتية، وهو أمر يعكس الجهود الإصلاحية التى بدأتها مصر منذ ما يزيد على عامين خاصة فى مجال البنية التحتية من شبكات طرق ومشروعات للطاقة وزيادة كفاءة توزيع ونقل الكهرباء وغيرها، بالإضافة لحجم السوق الكبير طبعاً، وهناك مؤشرات شهدت أداء متوسطاً وهى الصحة وديناميكية الأعمال والتعليم والمهارات والنظام المالى واستقرار الاقتصاد الكلى، وأخيراً المؤشرات التى شهدت أداء سيئاً وهى أداء المؤسسات وأسواق المنتجات وسوق العمل وتبنى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والقدرة على الابتكار هو أكثر نقاط الاقتصاد المصرى ضعفاً.
لماذا لم تنعكس الإجراءات الإصلاحية الكبيرة التى قامت بها مصر منذ عامين على تقدمها فى مؤشر التنافسية سواء من حيث الترتيب أو الدرجة؟
- يمكن إرجاع هذا جزئياً لتحديات خارجية متعددة، ومنها تباطؤ النمو العالمى والاستثمارات الأجنبية المباشرة والتجارة الدولية، ارتفاع أسعار النفط، الحروب التجارية ما بين الولايات المتحدة والصين، اضطرابات الاقتصاديات الناشئة، ارتفاع أسعار الفائدة فى الولايات المتحدة، خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبى، وغيرها، لكن المؤكد أيضاً أن هناك تحديات محلية قديمة ومتراكمة تواجه القطاع الخاص والمستثمرين، مثل عدم استقرار السياسات، والبيروقراطية وعدم كفاءة الجهاز الإدارى للدولة وضعف المستوى المهارى للعمالة وصعوبة الحصول على الأراضى، ومشاكل التمويل والضرائب، ضعف حماية الملكية الفكرية وغيرها.
تطور البنية التحتية أفضل نقاط القوة لاقتصادنا والأداء المؤسسى والقدرة على الابتكار الأضعف
لكن كثيراً من التحديات المحلية التى تشيرين إليها قديمة ونسمع عنها منذ عقود؟
- هذا صحيح، ومن يقرأ التقرير بعناية هذا العام وفى الأعوام السابقة سيلحظ أنه يشير إلى مشاكل متكررة هى المسئولة عن تدنى ترتيب مصر فى المؤشر، مثل ضعف مخرجات التعليم والتدريب المهنى والبيروقراطية وغيرها. وتتسق نتائج تقرير التنافسية مع ما تشير إليه تقارير أخرى، مثلاً تقرير «بارومتر الأعمال» الذى يعده المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، يظهر شكاوى المستثمرين من نقص الأيدى العاملة المدربة، ومؤشر المديرين التنفيذيين لبنك الإمارات دبى الوطنى يتحدث عن تراجع الاستثمارات وتراجع دور القطاع الخاص، و«التعداد العام للإسكان والمنشآت» الأخير يشير إلى تراجع عدد المنشآت الصناعية، الصناعات التحويلية، فقد بلغت نسبتها فى تعداد 2017 8.6% من إجمالى المنشآت مقارنة بـ14.5% من إجمالى عدد المنشآت فى مصر فى التعدد الذى سبقه عام 2007، أى إن عدد المصانع تقلص لنحو النصف، ما يؤكد أنه لم يتم تبنى السياسات الشاملة والمتكاملة لمعالجة التحديات السابقة وكلها قضايا جوهرية لو تم حلها لشعرنا بها جميعاً.
وكيف ترين أنت الوضع بعيداً عن التهويل والتهوين؟
- نتائج التقرير تطرح ثلاثة أسئلة جوهرية وهى: هل يتناسب أداء مصر مع رؤيتها التنموية 2030، التى تطمح فيها لأن تكون ضمن أكبر ثلاثين اقتصاداً على مستوى العالم من جانب؟ وهل يتسق وضعها مع قدراتها وإمكاناتها المادية والبشرية من جانب آخر؟ وهل بقاء مصر على وضعها خيار متاح فى ظل المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية من جانب وفى ظل سباق الدول نحو زيادة تنافسيتها من جانب آخر؟
وأرى أن مصر تستطيع أن تحتل موقعاً أفضل بكثير مما عليه الآن ولكن بشروط، أولها مراجعة السياسات الحالية وإعادة النظر فى الأولويات وترجمتها إلى سياسات وخطط عمل واضحة بأدوار محددة لكل جهة ومؤشرات لمتابعة أدائها، ويتطلب هذا البدء فى ثورة إصلاحية على الجانب غير المالى وتحديداً التشريعى والمؤسسى وتنمية الموارد البشرية التى ربما يؤدى تأخرنا فيها إلى تآكل ما تم إنجازه من إصلاحات.
ماذا تقصدين بمراجعة السياسات وإعادة النظر فى الأولويات؟
- مثلاً نحن أصدرنا قانون الاستثمار بهدف جذب مزيد من الاستثمارات وهذا أمر جيد، لكن نحن فى حاجة الآن للوقوف على ما ترتب على إصدار القانون، هل نجحنا فعلاً فى تحقيق الهدف منه أم لا؟ هل نجح القانون فى حل مشاكلنا الرئيسية؟ تقارير الأداء المختلفة تقول مثلاً إن مشكلة الحصول على أرض صناعية ما زالت مشكلة يمكن تلخيصها فى اضطرار المستثمر للحصول على موافقة 30 جهة مختلفة، وبعد الحصول على قطعة الأرض يحتاج على الأقل للتعامل مع 50 قانوناً وقراراً إدارياً لبدء نشاطه، ولدينا نسبة بطالة عالية ومع ذلك تحركنا لتدريب العمالة محدود، كل هذا التحديات يمكن أن تتحول إلى فرص، لأن التحديات تعنى ببساطة أن لدينا آفاقاً كبيرة للتحسن والتطور، بشرط أن نقف عليها بوعى ونبدأ العمل بشكل صحيح لمعالجتها.
وما العوامل المشتركة فى الاقتصادات الأكثر تفوقاً وتنافسية؟
- بعد رصدنا لأسباب التباين ما بين درجة أفضل وأسوأ اقتصاد سواء على مستوى المناطق والأقاليم أو على مستوى الدخول، اتضح أن الركيزة الخاصة برأس المال البشرى أى التعليم والتدريب هى المحدد الرئيسى لتفاوت التنافسية يليها بيئة الأعمال المواتية ثم بيئة الابتكار وأخيراً الأسواق.
هل هناك صفات للاقتصادات التى يمكن أن تستفيد من الفرص الجديدة التى تتيحها التحديات العالمية؟
- نعم، يوجد العديد من الصفات، التى إذا اتسم بها اقتصاد ما يمكنه الاستفادة من التحديات التى أشرت إليها، ومنها كما رصد المنتدى الاقتصادى، أن تكون مرنة، وأن تتمكن من وضع آليات اقتصادية لمنع الأزمات المالية أو تضخم البطالة، وتحسين قدرات الاستجابة للصدمات الخارجية، وكذلك تعتنق التغيير بدلاً من مقاومته، ينبغى أن تكون الشركات وصانعو السياسات العامة والعاملون قادرين على التكيف بسرعة مع طريقة عملهم، والاستفادة من الفرص المتاحة لإنتاج السلع أو تقديم الخدمات بطرق جديدة ومبتكرة بصورة مستمرة، وتحفيز الابتكار على جميع المستويات، وأن يسهم جميع أصحاب المصلحة فى خلق أفضل الظروف لظهور الأفكار الجديدة وتحسين فرص تحويلها إلى منتجات ونماذج وخدمات، وأخيراً، اعتماد منهج للتنمية الاقتصادية يكون محوره الإنسان، وهذا يعنى الاعتراف بأن رأس المال البشرى ضرورى لتوليد الرخاء، وأن أى سياسة تؤثر سلباً على إمكانات العوامل البشرية ستحد من النمو الاقتصادى على المدى الطويل، ونتيجة لذلك، سيتعين على صناع السياسات ضمان أن سرعة التغيير وإدخال تكنولوجيات جديدة ستترجم فى النهاية إلى ظروف معيشية أفضل للبشر.