كاريزما
في تلك الأيام التي يتذكرها جيدا، التقى بها وتعرف عليها منذ 20 عامًا، ورغم مرور الزمن فما زلت راسخة في عقله ووجدانه بصورتها وتفاصيلها المنمقة، لم يستطع الزمن أن يلقي بترابه على صورتها، ولم تحاول ذاكرته طمس ولو بعض الملامح في صورة الفتاة البديعة، فقد احتفظ بها يانعة متألقة، دائمًا صورة زاهية بالألوان.
نعم فقد رآها لأول مرة في هذا اليوم.. ما زال يتذكر كلامها وحديثها، نظراتها ولمحاتها، ضحكتها وغضبها، ما زال يتذكر هذا الشعور الذي سرى بداخله كلما رآها أو تحدث معها، نوع من الإعجاب الممزوج بالفرحة، أو ربما الدهشة.. كيف يحدث له هذا!
جلس على الكرسي الوثير أمام هذا المكتب، أخرج قلمه الرصاص الخشبي من هذا الكوب الأبيض البارد الذي امتلأ بمجموعة كبيرة من الأقلام المتنوعة وكذلك بعض "المساطر"، ثم قام بإحضار ورقة بيضاء كبيرة ليخط فيها بقلمه وهو يتذكرها.
بدأ في محاولة بائسة لرسم تلك الفتاة في ذكرى لقائه بها، ها هو يخط شعرها الأسود المنسدل على كتفيها، والذي يجعلك تشعر وكأنك أمام أحد نجمات السينما في "هوليوود"، وعلى قدر ما كان يحفظ ملامح هيئتها ووجهها عن ظهر قلب، شعر بالأسى وهو يخط بقلمه الرصاص لعدم إجادته التامة لرسم "البورتريه"، فما كان له أن يشوه وجه طالما احتفظ به مشرقًا كما التقاه، وبطريقة بديهية توقف عن الرسم ووضع القلم جانبًا، واستند برأسه للخلف عن الكرسي، معلنًا عن رحلة سيقوم بها عبر ذاكرته ليرسمها، ولكن في خياله تلك المرة، فبالتأكيد ستكون أفضل بكثير مما ستخطه يداه على تلك الورقة.
لقد كانت حاضرة في ذهنه وكأنه قد رآها أمس، على الرغم من مرور 20 عامًا على آخر لقاء جمعه بها، إلا أنه ما زال يتذكر كيف أثرت فيه، كيف أنعشته بحب مثل قطرات الندى المتساقطة على بعض الأوراق الذابلة بمجرد تعرفه عليها، فهو يتذكر تلك الضحكة المميزة التي تتصاعد في لحن رسم على نوتة موسيقية متفردة.. لتطلق له العنان أن يسترخي مع سماع أنشودة عذبة يشعر معها بالسعادة المؤقتة.. تكفي أن يتذكرها في وقت لاحق فيبتسم وهو يتذكر، يتذكر تلك النظرة المميزة التي تخرج من عينيها، فيشعر معها وكأنه احتل في أعماقه جراء غزو طالما أعجب به وتمناه، ما زال يتذكر حديثهما سويًّا على تلك الأريكة الخشبية في الحديقة، كيف كان يستمتع لحوارها وحديثها إليه ويتمنى أن يطول ويطول.. ومع كل لقاء معها كان يعرفها أكثر، ومع تلك المعرفة كان يزيد إعجابه واندهاشه أكثر فأكثر.. كل تلك الأشياء ما زالت حاضرة بداخله رغم أنه لا يعرف عنها شيئًا الآن، ربما ذكرياته تكفيه أن يعيش يتذكرها في تلك الصورة المحفورة بداخله.. فهي بالنسبة له حالة مثالية.. ربما "كاريزما".