رحيل اضطراري
تناول تلك النظارة بهذا "الشمبر" المكعب وهو يطويها بذراعيها الاثنين داخل ذلك الجراب البني المبطن، وقام بدفنها داخل الحقيبة الجلدية الواسعة والتي صارت ممتلئة بالعديد من أغراضه المتواجدة في هذه الحجرة التي عاش بين جدرانها قرابة العشرين عاماً.
عدل الأستاذ "إبراهيم" من هيئته بعدما وضع الحقيبة على أرض الحجرة بجوار المكتب الخشبي العتيق والمكسو بطبقة من اللون البني الزاهي الجديد، بعدما قررت الوزارة منذ عامين تجديد المكاتب، وكان نصيب الأستاذ إبراهيم مميزاً عندما اختير مكتبه للطلاء بالدهان الجديد، ولم يكن هذا إلا تقديراً لكفاءته وأمانته في العمل على مدار السنوات.
"إيه.. دنيا" هكذا نطقها موجهًا إياهًا لعقله طالباً منه التوقف عن هذا السرد الروتيني للأفكار.
وقبل أن يخطو خطوته الأولى والأخيرة لخارج المكتب شعر بأن قدماه تسمرت كمثل جذع الشجرة المعمرة في تربتها، ودار بعينيه في جولة دائرية يتفقد فيها أركان هذا المكتب الذي عاش به سنوات وسنوات.
"شغلك ده ضرتي التانية يا إبراهيم" تذكر جملة زوجته عندما نظر إلى تلك الكنبة الوثيرة القابعة في تلك الزاوية والتي طالما كانت فراشه في ليال كثيرة، وتذكر العتاب المتكرر لزوجته وأولاده لعدم اهتمامه بصحته.. لدرجة أنه كان يقضي ليالي متواصلة في العمل دون أن يعود لمنزله.
وعلى العكس، لم يكن إبراهيم يشعر بتعب قط، فالتعب دائماً ما يصيبه في أيام الإجازات.. "عشت لأعمل" هكذا كان رده المعتاد عليهم.
استدار الرجل في حركة عصبية وهو يسترجع تلك الذكريات، وقبض على رابطة عنقه محاولاً إزاحتها عن رقبته، وهو يفك الزر الأول لقميص تلك "البدلة" المزركشة بالخطوط الزرقاء، فقد شعر بالاختناق لمجرد أنه تذكر تلك المقولة الشهيرة لكل من خرج على المعاش "زي خيل الحكومة اللي دورها انتهى".. فهو لا يتحمل أن يسمع تلك الكلمة من أحد، فهو ما زال نشيطاً في عمله غير مقصر، ولم يمنعه سوى بلوغ سن الستين لكي يُحال للمعاش، وكم أصابه الأسى بسبب عدم مفاتحة أي مسؤول من القيادات له في التجديد له.
كل تلك الأفكار والمشاعر المختلطة جعلته في دوامة أفقدته التوازن فجلس على هذا الكرسي الوثير ذو المقعدين الجانبيين مرجعاً رأسه للوراء.
"يجب أن أتماسك حتى لا يظهر عليَ أي شيء أمام الموظفين" هكذا نطقها بصوت مسموع وكأنه يحدث الكرسيين الموضوعين على طرفي مكتبه، وسرح مرة أخرى في ذكرياته منذ تدرجه في السلم الوظيفي بداية من موظف على الدرجة الثالثة إلى وكيل للوزارة، فطالما عقد العديد من الاجتماعات واستقبل العديد من الضيوف والزوار.. تذكر خطابات الشكر التي ترصع ملفه الوظيفي وكم كان يفخر بذلك أمام الجميع.. ومع كل خطاب شكر أو ترقية، يصطف والموظفون أمام مكتبه يقدمون له التهاني، وعلامات الفرحة تكسو وجوههم.. ما بين ضحكات حقيقية وأخرى مصطنعة.
أخرج الرجل علبة فضية مستطيلة الشكل، واستل منها "سيجارة" ليشعلها ضارباً بعرض الحائط تنبيهات الأطباء المتكررة بعدم التدخين.. وظل ينفث دخانها بشكل متواتر محملقاً في سقف الحجرة، وهو يطرق بأصبع السبابة على سطح مكتبه بطرقات منتظمة.
أعاد رفع رابطة عنقه على رقبته من جديد، و زرر أزرار بدلته في همة ونشاط مفاجئ، وقبض بيده اليمنى على اللافتة التي حملت اسمه على المكتب - "الأستاذ/ إبراهيم عبدالجواد، وكيل أول وزارة" – نظر إليها نظرة عابرة قبل أن يضعها بداخل الحقيبة التي ضجت من الأشياء التي وُضعت بها، شد قامته في كبرياء حاول أن يضيفه أمام الموظفين وهو يخرج من مكتبه للمرة الأخيرة.
مد يده على "الأوكرة" ليفتح الباب وهو يرسم ابتسامة مصطنعة على وجهه القمحي والذي تلوح فيه تجاعيد وشقوق الزمن، أطفأ النور وخرج.